إن في هذا البلاغ من آيات العلم الصحيح، وهداية الدين القيم، والاعتصام بالكتاب والسنة دون التقليد الأعمى ما تنشرح له صدور المؤمنين، وتشتد به عزائم المصلحين؛ لصدوره من أرفع مقام في علماء الإسلام الرسميين. ما أضاع الإسلام إلا ترك الكتاب العزيز والسنة السنية إلى كتب جماعة من مقلدة المذاهب المختلفة، تقيد بها علماء الرسوم من القضاة والمفتين وغيرهم من أعوان الحكام الجاهلين الظالمين، وقيدوا بها الأمة، حتى حل بها ما نعلم، وقد شرحناه مرارًا، وفصلنا القول فيه تفصيلاً. لقد بعث الله في القرون الخالية علماء أصفياء يجددون لهذه الأمة أمر دينها، فكانوا فيها كأنبياء بني إسرائيل منهم مَنِ اهتدى بدعوته النفر والرهط والجماعة، ومنهم مَنْ حالَ الاضطهادُ وضعفُ الاستعداد دُونَ الاهتداء به، وكانت العامة المسكينة تغتر بمقاومة علماء الرسوم وسادتهم الحكام لأولئك المصلحين المجددين، وتتبعهم في تضليلهم؛ لأن الناس على دين ملوكهم، حتى إن صوت شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قد خفت في هذه الأمة المسكينة، وهو أندى أصوات المصلحين، وكتبه خفيت فيهم عدة قرون وهى أقوى وأظهر حجة من سائر كتب المسلمين. هذا ما كان من الجهاد بين الحق والقوة، وهكذا كان يعادي الكتاب والسنة كل من له بالحكام علاقة رسمية، فللعلماء الرسميين نفوذ عظيم إذا أيدوا به الإصلاح ينتشر بسرعة عظيمة. ولكن الحكام المستبدين لا يمكنونهم من ذلك، فالعالم الرسمي في الحكومة المستبدة لا يوثق بما يقول ولا بما يكتب إفتاء ولا تصنيفًا، بل إذا اشتد الاستبداد في بلاد كان للعاقل أن لا يعتد بكلام أحد من علمائها وزعمائها في الأمور العامة، إلا مَن كان مضطهدًا من حكومتها. نقول هذا بصرف النظر عن تحكيم الدليل في الكلام لمَن كان من أهله. طال الزمان على قوة الباطل وضعف الحق؛ لأن أهل الحق منعهم الاستبداد من إظهار حقهم، وإنما يغلب الحق الباطل إذا وُجِدا معًا بلا معارض، ولهذا غلب الجمود ودخل جماهير المشتغلين بالعلوم الدينية جحر الضب، وطاب لهم المقام فيه حتى صاروا ينفرون من فضاء الحنيفية السمحة المضيئة بنور الكتاب والسنة، فوصلوا إلى ذلك الدرك الأسفل من الضلال الذي عبر عنه بعض شيوخ الأزهر في ملأ منهم فقال: مَن قال: إنني أعمل بالكتاب والسنة فهو زنديق. نحمد الله تعالى أنه لم يسلب جميع المشتغلين بعلوم الإسلام نور كتابه وسنة رسوله، بل صدق رسوله بأنه لا يزال طائفة منهم قائمين على الحق حتى تقوم الساعة [١] ؛ ولكن حرية الأمم بخروجها من رق الاستبداد هي التي تظهر علم هؤلاء وهدايتهم. فلما لاح شعاع الحرية في مصر ظهر فيها المصلح العظيم الشيخ محمد عبده - رحمه الله تعالى - وكان صوته ضعيفًا إلى أن صار له صفة رسمية بتقلده إفتاء الديار المصرية، فحينئذ علا صوته حتى صار شرق البلاد الإسلامية وغربها يلهجان بلقبه الذي اشتهر به (الأستاذ الإمام) ، وتعلقت به آمال طلاب الإصلاح الإسلامي في كل مكان. ثم أشرقت شمس الحرية في المملكة العثمانية فظهر من أعلى مقام علمي فيها - وهو مقام مشيخة الإسلام - كلمتان كبيرتان في الإصلاح: (إحداهما) الفتوى بخلع السلطان عبد الحميد؛ فإنها فتوى بنيت على أساس من كتاب الله عز وجل لا على شفا جرف مِن آراء زيد أو عمرو، فهي أقوى وأصح فتوى صدرت في هذا العصر، كما بينا ذلك من قبل، وقد زادنا سرورًا بها ما جاء في هذا البلاغ من جمع شيخ الإسلام الذي أصدرها للعلماء الأعلام واستشارتهم في المسألة، وإصداره الفتوى باتفاقهم. (الكلمة الثانية) هذا البلاغ المبين، المتألق نوره بالاقتباس من القرآن الحكيم، والاستنباط منه ومن الحديث الشريف، فقد قرت عيوننا بما رأينا فيه من الفهم الثاقب، وتطبيق الآيات والأحاديث على الوقائع والحوادث، ناهيك باستنباط وجوب سيطرة الأمة على الحكومة من آية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أيد به الحكومة الدستورية، وباستنباطه من آيات وأحاديث أخرى مشروعية الجمع بين الدين والعقل، والانتفاع بما خلق الله في السماوات والأرض، ووجوب التضامن والتكافل العام في الأمة، وبيان سنة الاجتماع في تغيير أحوال الأمم، والتصريح بكون الحكام إنما تجب طاعتهم في المعروف لا في المنكر والمحرم، وغير ذلك من الأحكام والحكم. إن شيخ الإسلام لم ينقل هذه المعاني من كتب التفسير نقلاً، وإنما فهمها من كتاب الله تعالى فهمًا، وإن فهمه (حفظه الله) للآيات من قبيل فهم الأستاذ الإمام (رحمه الله) لها، فهذا الإجمال موافق لما سبق تفصيله في المنار في التفسير وغير التفسير مرارًا، وهو لم يكن قبل هذا العام ممن يرون المنار، وإنما هو الاستقلال وعدم التقليد. يتفق أصحابه في كل ما تتوفر الدواعي على العلم به. فنحمد الله أن وجد فينا مثل هذا الإمام الجليل، وإن كان شيخًا للإسلام في هذا العصر المنير، ونسأل الله - تعالى - أن ينفعنا وسائر المسلمين بعلمه وهديه، ويوفق جميع العثمانيين بإرشاده إلى التعاون والاتفاق على ما به عمران البلاد وتعزيز الدولة آمين. (فصل - أو- وصل) إننا نذكر في هذا المقام للشيخ سليم البشري شيخ الأزهر ورئيس لجنة الدعوة إلى المؤتمر الإسلامي: إجازته لقانون المؤتمر الذي فيه أن المباحث الدينية في المؤتمر تكون اجتهادية؛ تبنى على الكتاب والسنة والإجماع والقياس لا على نصوص المذاهب , نذكر له هذا ونثني عليه عودًا على بدء. وننتصر بتقرير هذا وبالبلاغ الذي نشرناه في هذا الجزء؛ وهما من أكبر شيوخ الإسلام الرسميين في أكبر عواصم المسلمين؛ على الجامدين البلداء الذين كانوا ينكرون علينا من بضع سنين دعوتنا إلى الاهتداء بالكتاب والسنة وجمع كلمة المسلمين عليهما , والله خير الناصرين.