للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التجديد والتجدد والمجددون
(تابع لما سبق من محاضرتنا في الجمعية الجغرافية الملكية)

القضية الثالثة
في بيان الحاجة إلى التجديد الديني والدنيوي
لا يسعنا في بيان وجه الحاجة إلى التجديد الديني والدنيوي وحكم الإسلام فيهما
وحثه عليهما إلا أن نبدأه بمقدمة وجيزة في جمود العلماء، وما كان له من سوء
التأثير في الحكام وطلاب التجديد الدنيوي من سياسي واجتماعي، وقد ذكرت بعض
الشواهد على جمود علماء مصر في الكلام على القضية الأولى [١] وإن لي في
المنار مقالات كثيرة في هذا الموضوع ومباحث أخرى في تفسير القرآن الحكيم
وباب الفتاوى وغيره من أبواب المنار، وإنني أستغني عن ذلك هنا بكلام لغيري،
فأنقل لكم جملة من كتاب لبعض نابغي شبان المسلمين في الهند كتبه في السابع من
هذا الشهر (رمضان) في السنة الماضية سنة ١٣٤٨، وهو من الذين طلبوا العلم
بمصر، ويقرأ الآن بعض جرائدها ويراسلها، ويتبع كل حركة عامة فيها، وهذا
نص ما أريده منه:
جمود علماء المسلمين في الهند
قال الكاتب الهندي المصلح في زعمائهم المسلمين:
نحن معشر الدعاة إلى الإصلاح والانقلاب السياسي قد وقعنا في الأيام الأخيرة
في مشكلة عويصة، وهي أننا نجد أمامنا حزبين يتنازعان الزعامة في المسلمين:
حزب الماديين وحزب الروحيين أو الدينيين، ونجد الأول يدعو إلى الانقلاب
الاجتماعي والسياسي معًا، ونجد الثاني يدعو إلى الخرافات ويعارض كل تغيير في
الحالة الحاضرة حتى إنه يخالف الانقلاب السياسي [٢] .
هذه الحالة في بلادنا: إننا لا نرضى بحال أن نبقى مستعبدين للإنكليز، بل
نضحي بأرواحنا في سبيل الانقلاب السياسي، أي قلب الحكومة وطرد أعدائنا من
بلادنا، وإننا نعادي ونقاوم كل من يكون عقبة في سبيل هذا الانقلاب السياسي،
وكذلك نحن نريد تغيير الهيئة الاجتماعية الحاضرة بعض التغيير، ونريد بث
الأخلاق الفاضلة والعقائد السلفية في المسلمين؛ ولكننا نرى الحزب المادي يماشينا
إلى حد بعيد، ونرى الحزب الديني يعاركنا في أول خطوة؛ ولذلك ترون أننا قد
وقعنا في مشكلة.
نحن لا نحب الماديين؛ ولكننا نريد الاستفادة من حركتهم، ونحب الدينيين
لأننا منهم؛ ولكننا لا نستطيع تأييدهم لأنهم أعداء لكل ما يرجى منه الخير حتى أنهم
أعداء الإسلام الصحيح.
إني أتمنى لو ترشدوني إلى الخطة الرشيدة في هذه المسألة. أنا أواظب على
قراءة الجرائد المصرية وأعرف أن الماديين في مصر أناس قوالون، لا يعملون ولا
يريدون أن يعملوا، ولا يعرفون كيف يعملون؛ وإنما هم يريدون الظهور بالكلام
الفارغ وبمخالفة أحكام الشريعة الغراء، ولكن حالة الهند تختلف عن مصر اختلافًا
كليًّا (إلى أن قال بعد وصف حالة الهند ووجه الحاجة إلى جعل حركة الانقلاب
مادية ما نصه) :
فالرجاء أن تبينوا لي أفكاركم العالية وتشرحوا لي ما ينبغي أن يفعله الناس
مثلي وهم الذين يريدون الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي معًا [٣] هذا ولا
تؤاخذوني في بسط أعذاري وأفكاري؛ لأني إن لم أصرح بها لكم فمن الذي ألجأ
إليه غيركم في هذه المسائل؟ اهـ المراد منه.

جمود علماء المسلمين في الترك
وإنني أقفي على هذا الشرح المؤثر لحالة المسلمين في الهند بكلمتين لرجلين
من رجال الترك في جمود علمائهم ونفوذهم المانع من الترقي: رجل من أكبر
علماء الإسلام المستنيرين، ورجل من أشهر رجال الإلحاد المجاهرين، ثم أذكر
كلمة حكيم الشرق فيهم.
(الرجل الأول) شيخ الإسلام موسى الكاظم رحمه الله تعالى كان يشرح لي
في داره بضواحي الآستانة ما يريد وضعه من الإصلاح لحكومة اليمن، وهو جعل
أحكامها كلها شرعية، وإنشاء محكمة تجارية واحدة في الحديدة تختص برؤية
القضايا المتعلقة بالأجانب واليهود، فقلت له: إذا كنتم تتركون التزام مذهب الحنفية
فأنا أضمن لكم أن أُخرج لكم من الشريعة الإسلامية الواسعة ما تحتاج إليه جميع
السلطنة من الأحكام الموافقة لحال هذا الزمان ... إلخ، قال: أنا أعلم أن هذا ممكن
ولكن ماذا تفعل بمشايخ (الفتوى خانه) ؟
يعني أن كبار الشيوخ المنوط بهم الإفتاء الرسمي للدولة عنده في باب المشيخة
الإسلامية هم الذين يعارضون في ذلك، ومما علمته عنهم وعن شيخ الإسلام المقيد
بهم في الفتوى أنهم لا يفتون بأحكام المجلة العدلية وهي كلها شرعية؛ لأن فيها ما
يخالف القول المعتمد في مذهب الحنفية الذي عليه الفتوى في كتبها المتداولة.
(الثاني) الدكتور عبد الله بك جودت صاحب مجلة اجتهاد التي كان ينشرها
في مصر قبل الدستور لأنه كان مضطهدًا لا يمكنه دخول البلاد العثمانية وهو أحد
المؤسسين لجمعية الاتحاد والترقي.
هذا الرجل المجاهر بالإلحاد كان يساعدني في الآستانة في مشروع الدعوة
والإرشاد، وقال لي: إذا نجحتم في هذا العمل وأسستم المدرسة الكلية الإسلامية، فأنا
أتبرع بالتدريس فيها وأجعل دروسي الصحية والعلمية على منهجكم في الإصلاح
الديني، قلت: كيف وأنت تحارب الدين؟ قال: إنما أحارب دين مشايخ الفاتح
والسليمانية؛ لأنه لا يمكننا أن نرتقي مع أتباع أفكار هؤلاء، وأما الدين الإسلامي
الذي يفهمه رشيد أفندي رضا والشيخ محمد عبده فهو يساعد على الترقي وتنتفع به
الدولة، فأنا أول من يتمنى خدمته تحت رياستكم.
(وقد بلغني بعد عودتي من الآستانة إلى مصر أنه قال لطلعت باشا وزير
الداخلية وركن جمعيتهم في الحكومة: إنكم أخطأتم أن تركتم رشيد أفندي يسافر ولم
تنفذوا تشبثه، أي مشروع الدعوة والإرشاد) .
وقد كان لعلماء الآستانة نفوذ عظيم في الأمة والحكومة ليس لعلماء مصر منه
أدنى نصيب فيحارَبوا باتهامهم بمقاومة الترقي المدني، وأين هو؟ ومتى قاوموه
مقاومة عملية تخشاها الحكومة؟ وإنني لما عرضت مشروع الدعوة والإرشاد على
الصدر الأعظم حسين حلمي باشا رحمه الله تعالى قال لي: هذا مشروع عظيم
ضروري للدولة؛ ولكن تنفيذه عندنا يتوقف على قبول العلماء له وعلى موافقة
جمعية الاتحاد والترقي، وسأكلم شيخ الإسلام ليقنع العلماء، وأكلم صادق بك ليقنع
الهيئة المركزية للجمعية، وأجتهد في إقناعهما ببذل نفوذهما في ذلك، وقال لي
محمود شوكت باشا رحمه الله تعالى مثل هذا القول في نفوذ علماء الترك ثم قال:
إن العلماء في بلادنا (أي العراق) ليس لهم مثل هذا النفوذ ولا أدري كيف حالهم
عندكم في مصر؟
كلمة السيد جمال الدين في علماء الترك
وأما كلمة السيد جمال الدين التي أعنيها هنا ولها أمثال من كلامه في غيرهم
من علماء المسلمين فهي ما قاله في النازلة الآتي بيانها:
كان ميكادو اليابان أرسل في عهد وجوده في الآستانة كتابًا إلى السلطان عبد
الحميد يخطب فيه مودته ويقول: إن كلاًّ منا ملك شرقي، ومن مصلحتنا ومصلحة
شعوبنا أن نتعارف ونتواد، وتكون الصلات بيننا قوية تجاه الدول والشعوب
الغربية التي تنظر إلينا بعين واحدة، وإنني أرى شعوب الإفرنج يرسلون إلى بلادنا
دعاة إلى دينهم لحرية الدين عندنا، ولا أراكم تفعلون ذلك، فأنا أحب أن ترسلوا
إلينا دعاة يدعون إلى دينكم (الإسلام) ويمكن أن يكون هؤلاء صلة معنوية خفية
بيننا وبينكم.
اهتم السلطان لهذا الكتاب وأمر بتأليف لجنة من أكبر أهل الرأي عنده في
قصر يلدز للتشاور فيه، وهم شيخ الإسلام وناظر المعارف، وهما الوزيران
المختصان بهذا الموضوع من الجهة الرسمية، والسيد جمال الدين الأفغاني الأخص
به من كل جهة، وآخرون، فاجتمعوا لدى السلطان في قصر يلدز ودارت المذاكرة
فاستحسن شيخ الإسلام ووزير المعارف تأليف بعثة من علماء مدارس الآستانة
لإرسالها إلى اليابان، والسيد جمال الدين ساكت فوجه إليه السلطان النظر وسأله عن
رأيه فقال ما حاصله:
يا مولاي إن هؤلاء العلماء ينفرون المسلمين أنفسهم من الإسلام فكيف يُناط بهم
إقناع أمثال اليابانيين بالدخول فيه؟ إنما الرأي أن يُربى طائفة من الأذكياء ويُعلَّموا
تعليمًا خاصًّا يؤهلهم للقيام بهذا الواجب في هذا العصر، ويكتفي جلالة السلطان
الآن بإرسال كتاب ودي إلى الميكادو مع هدية لائقة به، ويذكر له في الكتاب أن ما
اقترحه قد وقع في أعلى مواقع الاستحسان، وسننظر في تنفيذه بالصفة المرضية،
فكان أن عمل السلطان بهذا الرأي؛ ولكن دون تنفيذ اقتراح التعليم الخاص بالدعاة
إلى الإسلام.

المقصد من موضوع التجديدين:
أما بعد، فقد تقدم في التجديد الديني حديث (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة
على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) وهو نص في الموضوع بلفظه وقد بينا
معناه في أول المحاضرة، وينحصر المراد بالرجوع بالدين إلى سهولته وهدايته كما
كان في الصدر الأول وجمع كلمة المسلمين على ما أجمعوا عليه قبل التفرق
والاختلاف، وجعل ما عدا القطعي منه مما يعذر فيه كل فرد باجتهاده، وكل مقلد
باتباع المذهب أو العالم الذي وثق بعلمه، من غير تعصب يفرق الأمة الواحدة إلى
شيع وفرق يعادي بعضها بعضًا، ولنا في تفصيل هذا الإجمال وبيانه مقالات كثيرة
جمعنا أهمها في كتاب خاص باسم (الوحدة الإسلامية) ومن وسائل هذا التجديد
إحياء اللغة العربية بالكلام والكتابة والخطابة وتأليف الكتب بالأساليب العصرية
السهلة وتعميم التعليم والتربية على القواعد الفنية، ونشر الدعاية الإسلامية في
العالم.
وإذا كانت الأمة تحتاج إلى التجديد في إقامة أمر دينها وقد أكمله الله تعالى له
وحظر عليها الابتداع فيه - فهي أحوج إلى التجديد في أمور الدنيا التي تختلف
مصالحها باختلاف الزمان والمكان وعرف الناس، والشرع يراعي ذلك كله كما هو
مقرر في كتب الفقه.
والتجديد فيها نوعان: نوع يتعلق بالمصالح العامة وما تحتاج إليه من التشريع،
وقد حث الشارع على التجديد في هذا النوع بقوله صلى الله عليه وسلم (من سن
في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها بعده كُتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من
أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده كُتب عليه مثل وزر
من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء) رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله.
وإن من هذه السنن العامة وضع قواعد العلوم والفنون النافعة وإنشاء المدارس
والملاجئ والمستشفيات، ويستوي في هذا التجديد الأفراد والجماعات والحكومات،
ومنها ما هو خاص بالحكومة كالمصالح العسكرية التي يتوقف عليها حماية البلاد
وحفظ الأمة من العدوان.
وأما التشريع المتعلق به فهو موكول في الإسلام إلى أولي الأمر، والجماعة
المعبر عنها بأصحاب الحل والعقد، فهم يقررونه بالشورى بينهم، والاجتهاد فيما
ليس فيه نص قطعي من وحي ربهم، ولا سنة ماضية من سنن نبيهم، بشروطه
المعروفة في محلها؛ فإن الاجتهاد مع وجود النص ممنوع في الشرع وفي القوانين
الوضعية جميعًا.
والنوع الثاني ما هو من أمور المعايش كالزراعة والصناعة والتجارة وأمور
العادات التي ليس فيها مفسدة، وقد وكله الشارع إلى تجارب الناس، وفي هذا قال
صلى الله عليه وسلم (أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه مسلم من حديث أنس وعائشة
رضي الله عنهم وقال في معناه (ما كان من أمر دينكم فإلي، وما كان من أمر
دنياكم فأنتم أعلم به) رواه أحمد.
وجملة القول أن التجديد المشروع يشمل كل ما تعتز به الأمة والدولة من العلوم
والفنون والصناعات والنظم المالية والإدارية والعسكرية والمنشآت البرية والبحرية
والجوية، فكل ذلك يُعد في الإسلام من فروض الكفايات التي تأثم الأمة كلها بتركها
والشرع لا يقيدها فيها إلا باجتناب الضرر والضرار والظلم (ومنه استغلال حاجة
المعسر بأخذ الربا منه) مع قواعد إباحة الضرورات للمحظورات وتقديرها بقدرها،
ومراعاة الحق والعدل.
(لها بقية)