(لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حديث شريف كان المرحوم عبد الرحمن الكواكبي، وهو ذلك العالم الحر والمفكر الأبي، يشكو من حالة الدولة السابقة، فارتاح الإنجليز إلى مطالبته بالخلافة العربية هو عن حسن نية وبدون إنعام النظر السياسي، وهم عن خبث طوية؛ لأن تقهقر الدولة لم يكن قاصرًا عليها فقط بل كان ماسًّا بمصالحهم، ألف المرحوم كتابه (أم القرى) ولو أنعم نظره السياسي لرأى الضرر الذى يلحق العالم الإسلامي بوجه عام والشرق الأدنى بوجه خاص من جراء هذا المسمى، ولم يقتصر الإنجليز عند حد استغواء هذا العالم من الذين لا يلمون كثيرًا بالاعتبارات السياسية والظروف الخصوصية، بل إن جرأتهم فاقت حد التصور واللياقة؛ إذ كانوا لا يعترفون بالقاضي الشرعي في الصومال إلا إذا أقره شريف مكة، وبمثل هذا التغرير كادوا يضعون غشاوة على بصيرة بعض أمراء الشرق، لا يقدر أحكام وضعها إلا السياسة الإنجليزية. وإني آتي هنا على مثالين أثبت بهما جليًا؛ كيف أن الإنجليز يحاربون الخلافة الإسلامية ثم يستفيدون بادعائهم صداقة (أمير المؤمنين) وشيخ الإسلام سياسيًّا ولو بالتزوير والتزييف. يعلم الكثيرون بالحركة الوطنية المتأججة نارها في الهند، ولما كان الإنجليز في حسن تفاهم مع العثمانيين، زوروا كتابات اسم الخليفة وسماحة شيخ الإسلام، وادعوا فيها أنهما يوصيان مسلمي الهند بالولاء والإخلاص للدولة الإنجليزية، وأقرب هذه الكتابات ذلك الحديث الذي عزاه مكاتب التيمس إلى سماحة شيخ الإسلام في الآستانة الذي نفى مغزاه رسميًّا، وفي ذلك الوقت نفسه كانوا يهربون الأسلحة إلى بلاد العرب، فضبطت أخيرًا عند الشواطئ، واتضح من التحقيق أنها من صنع يد الإنجليز، وكان لسان حالهم يقول: إنه ذلك ينافي صداقتهم للدولة العلية صاحبة الخلافة الإسلامية. هذه القوة الإسلامية السياسية التي يحللها الإنجليز لأنفسهم ويحرمونها على غيرهم ترتعد فرائصهم منها، حتى إن كثيرًا من جرائدهم الاستعمارية كالديلي تلغراف ونحوها لما هنأت جمعية الاتحاد والترقي جلالة السلطان بقولها: (إلى صاحب الخلافة والجلالة أمير المؤمنين وسلطان العثمانيين) زأرت وزمجرت وجردت قول العدوان وشهرت، وقالت: إن مراسلي التلغراف متشبعون بمبدأ الجامعة الإسلامية الشديدة الممقوتة، وهكذا السياسة الإنجليزية تلتوي علينا، وتتسقح حين ترتوي منا وتنتفخ. نحن نود إبقاء الخلافة الإسلامية في آل عثمان ونعمل لذلك بعامل المصلحة؛ وذلك لأن الدولة العثمانية هي أقوى ممالك الإسلام في الحال، وستبقى كذلك في الاستقبال، وهي التي بيدها الحرمان الشريفان، فينبغي أن تكون الخلافة في أيدي العثمانيين حقنا للدماء ومراعاة للمصلحة العامة، وليس لها منازع قوي يؤمل أو يخشى نجاحه، وإنما الدول الأجنبية تفرق بيننا، وتغري بعضنا ببعض حتى تنهك قوانا الفرعية وتضعف السلطة المركزية، والواجب على كل عاقل مخلص أن يجعل هذا السبب نصب عينيه. قال حضرة الكاتب الإسلامي الكبير محمود بك سالم: (جاء إسماعيل باشا فتتبع سعيدًا في سياسته الفرنسوية، فبالغ في مجاملة نابليون الثالث الذي أفهمه أنه سيساعده على الوصول إلى كرسي الملكية المستقلة، فأكثر من الترف والبذخ ليعلو على الأكاسرة والقياصرة وجبابرة الفراعنة، ووزع الهدايا الفاخرة على ملوك أوربا وملكاتها وعلمائها ووزرائها وأغنيائها وصعاليكها بطريقة أبكت العقلاء وأضحكت الجهلاء، ومازال كذلك حتى انكسر نابليون الثالث سنة ١٨٧٠، فنبذ فرنسا وتعلق بإنجلترا، فألهم أنه لا يكون ملكًا مستقلاً إلا إذا قارب عدد رعاياه عدد رعايا السلطان نفسه، ومن هنا ابتدأت حروب السودان والصومال والحبش ودارفور وأوغنده وزنجبار على غير جدوى للمصريين، بل لفائدة الإنجليز الذين أرسلوا صموئيل بيكر باشا وغردون باشا والمرسلين لينشروا المدنية على شواطئ النيل الأبيض والنيل الأزرق؛ تمهيدًا لسياستهم الكبرى. وكل عاقل نظر إلى قوة الجيش المصري، وسعة تلك الأقطار، وإلى النفقات الباهظة التي أنفقت جزافًا، وإلى الرجال الذين ماتوا هدرًا، ويعدون بمئات الألوف، علم مقدار ما لِحُكَّامِنَا من قصر النظر وسوء التدبير) . هذا شيء قليل جدًّا من كثير جدًّا، مما يبثه الأجانب فيها من عوامل الشقاق والخلاف، فعسى أن تزول هذه البواعث النفسانية التي أدت بنا جميعًا إلى التهلكة. وإني أتذكر أنه لما زار المرحوم مظفر الدين شاه إيران الآستانة في أواخر أيامه، ذكرت جرائدها أنه لما قابل السلطان قَبَّلَ يده، فلما انتهى إليه هذا الخبر قال: (إنها نَبَّهَتْنِي إلى واجب، فاتني أداؤه؛ لأن السلطان هو أمير المؤمنين شرعًا) فأين هذه الروح العالية والنفس الكبيرة من محمد علي شاه إيران السابق الذي كان يحتج بشدة على إلتجاء الأحرار إلى السفارة العثمانية، ويتغافل عن سفارتي روسيا وإنجلترا اللتين سلبتاه بلاده، ولم تنفعاه يوم أن ثُلَّ عرشه، وقد كان يقول: إن روسيا أحب الممالك إلى قلبه. اللهم إنك على كل شيء قدير تخرج الظلمات من النور. ولا أدري ما الذي يُنَفِّر العثمانيين غير المسلمين من الخلافة الإسلامية، وهي كما شرحناها لا تنافي معنى الجامعة العثمانية الوطنية ولا تضر بهم في شيء ما، بل بالعكس تجعل لهم منزلة خصوصية في سائر أنحاء العالم؛ لكونهم عثمانيين من رعايا صاحب الخلافة العثمانية وإن العثماني غير المسلم الذي يتأفف من الخلافة الإسلامية؛ إما أن يكون غير صادق في عثمانيته، وإما أن يكون قصير النظر السياسي، قال كاتب رسائل الإسلام والمدنية لم يمزق هذا الارتباط العجيب تلك الفتوحات السريعة التي قام بها المسلمون على عهد الدول العربية والتركية؛ بيد أن الدول الإسلامية الأولى حاولت أن تفصل بين تينك الصفتين المدنية والدينية، فكان عصر الانفصال مبدأ انحطاط، ولا تزال إلى اليوم خلافة السلطان الأعظم رابطة تربط الشعوب الإسلامية من غير الأتراك بالدولة العلية فتكون بهم قوتها، وإذا جردت السلطان من هذا اللقب لا تلبث أن ترى الدولة العلية تنحل وتصبح دولة ثانوية. لذلك أكرر القول بأن أنصح لجمع العثمانيين بالتآزر والتماسك، فإن يد الله مع الجماعة، ولا يهولنهم القول بالخلافة الإسلامية التي - مع احترامها لشعائرهم الدينية - تكسبهم كثيرًا من المزايا السياسية والاقتصادية، وإني أوصيهم بما أوصاهم به شاعر مصر حافظ إبراهيم في تهنئته إياهم بالدستور: فتفيأوا ظل الهلال فإنه ... جم المبرة واسع الغفران يرعى لموسى والمسيح وأحمد ... حق الولاء وحرمة الأديان فخذوا المواثق والعهود على هدى ... التوراة والإنجيل والفرقان وما قاله شوقي بك شاعر الأمير: أما الخلافة فهي حائط بيتكم ... حتى يبين الحشر عن أحواله أخذت بحد المشرفي ونالها ... لكم القنا بقصاره وطواله طمع القريب أو البعيد بنيلها ... طمع الفتى من دهره بمحاله ما الذئب مرتدًا على ليث الشرى ... في الغاب معتديًا على أشباله بأقل عقلاً وهي في أيمانكم ... ممن يحاول أخذها بشماله وإنني بما قدمته من الحجج التاريخة والنظريات السياسية، أؤمل ألا يكون لمساعي أولئك الأعداء السياسيين المتلبسين بجرمهم بوشاح الصداقة الكاذبة أدنى نصيب من الالتفات، فلا تهنوا ولا تحزنوا، ولا يغتب بعضكم بعضًا، واعملوا بنص الحديث الشريف: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) اهـ. (المنار) نشرنا هذه الرسالة كما هي، ولم نتعرض لتخريج ما ذكر من الأحاديث فيها ولا للبحث في مسائلها، ولكننا نقول: إن أفكار الكواكبي السياسية مبنية على قواعد: منها اليأس من الدولة العلية، ولم يكن يريد أن يكون الخليفة القرشي الذي يخلف الخليفة التركي سلطانًا حاكمًا سائسًا للعرب أو لغيرهم، وإنما كان رأيه أن يكون رئيسًا دينيًا، ينظر في مصالح المسلمين الروحية الأدبية ويرقيها وأكثر الذين يتكلمون عن سياسته لا يعرفون منها شيئًا، ولم يكن للإنكليز ولا لغيرهم من الأجانب رأي ولا علم بتأليفه لسجل جمعية أم القرى، فإنه كتبه في حلب وزاد فيه بمصر، ولم يكن يعلم بذلك أحد إلا أفراد من العثمانيين كصالح أفندي جمال من حزب تركيا الفتاة، وقد ذكرنا في ترجمته المجلد الخامس أننا لم نكن موافقين له في جميع آرائه السياسية.