قلنا: إن رياض باشا فاق الأقران، وكان من نوابغ الزمان، بفطرته الزكية، وأخلاقه الشريفة، وإن من تلك الأخلاق والسجايا الاستقلال في الرأي والعمل، والابتكار والتصدي للإصلاح ... إلخ. كان هذا الرجل يعمل في عهد إسماعيل باشا وما قبله ما يمكنه أن يعمله من الإصلاح ومنع الظلم، حتى كان يعرض نفسه للخطر وينقذه الله تعالى منه بإخلاصه، واعتقاد أميره أنه لا يستغني عن مثله في حكومته، وقد جمع إسماعيل مرة كبار رجاله واستشارهم في وضع ضريبة جديدة فوق تلك الضرائب الكثيرة، فما منهم إلا من أظهر الاستحسان وأبدى رأيه في كيفية وضعها وطريق تنفيذها، إلا رياض باشا فإنه ظل ساكتًا حتى سأله إسماعيل لم لم يتكلم؟ فقال: إن عندي كذا فدانًا عليها من الضرائب كذا، وهو يزيد عن غلتها بقدر كذا، فأدفع هذه الزيادة من راتبي، فالذي أراه أن حال الأهالي لا تحتمل أكثر مما عليهم، ولما أمرهم الأمير بالانصراف طفق بعض الباشوات يلكزون رياضًا قبل أن يبرحوا الباب، ويقولون: ما لك تعرض نفسك للهلاك؟ فقال لهم بصوت جهوري: إنني أرضى أن أعرض نفسي للهلاك ولا أعرض أهل البلاد كلهم له، وله وقائع متعددة من هذا القبيل؛ ولذلك قال لورد كرومر: إنه هو الذي تجرأ على تعليق الجُلجُل في عنق الهرّ، يشير بهذا إلى المثل العربي الذي نظمه (لافوتين) الإفرنجي فيما نظمه من الحكم والأمثال؛ ولما عز على فقيد مصر العمل بالاستقلال في آخر عهد إسماعيل، وتعذر عليه الاتفاق معه، هاجر من مصر إلى أوربة، وعزم على الإقامة فيها طول حياته أو تتغير الحال، ولم يعد منها إلا بعد سقوط إسماعيل، وطلب توفيق باشا له ليتولى رياسة حكومته الجديدة. سقط إسماعيل باشا عن عرشه والبلاد على شفا جرف هار مما برّح بها الظلم وما نشأ عنه من الفقر والذل، والغرق في الدَّين بأخذهم المال من الأوربيين بالربا الفاحش أضعافًا مضاعفة، فأراد توفيق باشا أن يري البلاد عصرًا جديدًا فوسد الأمر إلى رياض باشا؛ لعلمه بأنه رجل الهمة والإقدام والرغبة الصادقة في الإصلاح. قال الأستاذ الإمام فيما كتبه من أسباب الثورة العرابية في سياق ذكر وزارة الفقيد وتأثيرها في البلاد ما نصه: حفظ رياض باشا لنفسه إلى رياسة النظارة نظارة الداخلية أصالة ونظارة المالية نيابة مؤقتة، كان ولا يزال رياض باشا يألف إدارة الأمور الداخلية؛ لعلمه أنها روح السلطة الحقيقية في الحكومة، وهي التي تشرف على أحوال الأهالي مباشرة وتتصل بأهم شؤونهم، فيهمه أن يكون هو الآخذ بزمام تلك الإدارة؛ اعتقادًا منه أن ذلك يمكنه من أن يعمل بنفسه ما هو خير للعامة. أما نظارة المالية فقد استضمها إلى وظائفه موقتًا؛ لأن المشاكل المالية هي التي كانت أهم شيء يستدعي دقة الفكر وشدة الالتفات، فأراد أن يكون المباشر لجميع المخابرات التي تحصل فيها خصوصًا وله بها إلمام سابق؛ لأنه كان النائب عن الحكومة في لجنة التفتيش العليا. قبض رياض باشا على إدارة الداخلية بيد شديدة وعزم ثابت. وأول شيء توجهت عزيمته إلى محوه بسرعة تامة التسخير الشخصي. ربما يسأل سائل ما هي السخرة الشخصية: التسخير في البلاد المصرية كان على نوعين: التسخير باسم المنفعة العامة؛ وهو إلزام الأهالي بالعمل مجانًا بلا أجر فيما لا بد منه لمصالح العامة؛ كإقامة الجسور على الأنهار العظيمة، وحفر الجداول الكبيرة التي تستمد المياه منها بلاد كثيرة، وتشييد كل بناء يقام بأمر الحكومة. والنوع الثاني هو إلزام الأعلياء لمن دونهم بالعمل في منافعهم الخاصة بدون أجرة، ويسومونهم مع ذلك آلام الضرب والإهانة إن لم يؤدوا ما فرضوه عليهم من تلك الأعمال الخاصة، أو أدوه وقصروا في تطبيقه على ما في نفس وكلاء أولئك الأعلياء، أو أتوا به كما ينبغي وكما يريد الوكلاء، ولكن كان الوكيل أو الناظر أو الخولي يشتهي أن يضرب لمجرد التلذذ بالضرب، ولا يستثنى من ذلك موظف إلا أن يكون في نهاية العجز الطبيعي، بحيث لا يستطيع أن ينطق بكلمة (أرميه) [١] أو أن يحرك الكرباج بيده. (كان كل ذات من الذوات الفخام له بلاد تتعلق به، يستخدم سكانها في أراضيه بأشخاصهم وماشيتهم في جميع مواسم الزراعة، على شريطة أن يحمل العاملون أزوادهم وأقواتهم وأدوات العمل وغذاء ماشيتهم من ديارهم إذا كانت البلاد قريبة، فإن كانت بعيدة سمح لهم بغذاء الماشية فقط دون غذاء الآدميين. ولكن لا يسمح لهم بأماكن تقي من البرد والمطر أيام الشتاء تبيت فيها العملة الذين يعملون له مجانًا، بل كانوا يبيتون كراديس في (الدوار) تحت السماء، كما لا يسمح بمستظل يقيهم الحر أيام الصيف، فالقر يقتلهم شتاء والحر يذيبهم صيفًا، والذوات الكريمة تجني ثمار أعمال الموتى وتتلذذ بما تطعم من أيديهم. وهكذا كان يصنع أصاغر موظفي الحكومة وعمد البلاد كل على حسب اقتداره في التسخير؛ العالي يسخر من دونه إلى أن ينتهي كل استعباد وتذليل إلى أدنى طبقة من الشعب. ولا أريد بيان ما في هذه الحال من الأضرار المادية والعقلية والأدبية، فكل من استحق أن يسمى إنسانًا يعلم أنها كانت ضربة قاضية على الحياة الوطنية والوجود الملي، وقاتلة للشعور بالاستقلال الإداري الخاص بالنوع الإنساني، وزد على ذلك أنها ما كانت تدع للفلاح وقتًا يعمل فيه بأرضه، فكانت أوقاته موزعة بين السخرة العمومية والسخرة الخصوصية، فأوقات عمله لنفسه كانت خلسات بين هذه الأوقات، فكيف كان يعيش؟ لا أدري كيف بقي الفلاح حيًّا مع هذا، لولا ما عرف من صبر المصريين على أن يعيشوا؟ ساعد رياض باشا على محو هذه الجريمة ما كان يظهر من ميل الجناب الخديوي إلى العدل والتعفف عن دنيء الكسب؛ فلذلك شدد ناظر الداخلية في أوامره إلى المديرين وسائر المأمورين أن لا يأتوا عملاً من ذلك، وأن لا يسمحوا لغيرهم أن يأتيه، وأظهر من الشدة في ذلك ما أخاف رجال الحكومة وغيرهم، فأخذ على أيديهم وأيدي الذوات، بل وعلى أيدي الأغلب من عمد البلاد، وفي مدة قريبة لم يبق أثر للتسخير الشخصي إلا في بعض الأطراف على طريق الخفية والكتمان ونوع من الشفقة؛ خوفًا من الحاكم القوي، وبالغ رياض باشا في ذلك حتى أنه آخذ مدير القليوبية مرة في إرسال بعض أشخاص من أهاليها؛ لحفر الترعة التوفيقية التي تصل إلى أراضي القبة لأنها خاصة بالخديو، ووبخ المدير توبيخًا شديدًا، وعرض الأمر على الخديو فاستحسنه، ولكن لم يذهب بلا أثر في نفسه، فإن المبالغة في العدالة إلى هذا الحد مما لا يلتئم مع السلطة العليا في مصر مهما كانت منزلة الحاكم من الكمال. فانظر ماذا يكون في نفوس أكابر رجال الحكومة السابقين، بل والحاليين من رياض باشا بعد حرمانهم من منافع أبدان الرعية بغتة بلا تدريج؟ وبعد ذلك شرع رياش باشا في إجراء ما كانت أشارت به لجنة التفتيش العليا (من الأجانب) من إبدال نظام السخرة بنظام آخر أضمن للعدل؛ في توزيع ما يلزم للأعمال اليومية من منفعة أو عمل على المنتفعين بها، وجمع لذلك كثيرًا من الأعيان للاستعانة برأيهم، ولكون الأمر غريبًا على أذهانهم لم يهتدوا فيه إلى وجهة الصواب فانصرفوا، ووضعت الحكومة نظامًا حسبما هداها إليه رأيها، يقضي بالتخيير بين دفع بدل نقدي وبين القيام بالعمل البدني، وأخذ في تنفيذه ولكن حالت دونه صعوبات كثيرة، فمن الأغنياء من دفع البدل عن رجاله، ثم أكرهوا بعد ذلك على العمل بأبدانهم، ومن الناس من أراد دفع البدل النقدي، فلم يقبل منه وألزم بأن يعمل بنفسه؛ وذلك لعدم التعود على إيفاء الأعمال بطريقة المقاولات، ومع ذلك فقد خف الويل بهذا النظام عن كثير من الفلاحين، وشعروا بأن أوقاتهم ملك لهم، ولكن كانوا يظنون أن أبدانهم وأزمان حياتهم وهبت لهم من جانب ملاكها وما كان يخطر ببالهم أنها كانت مسلوبة منهم ثم ردت إليهم؛ ولذلك كنت تراهم يتعجبون، وينقلون أخبار هذه القصة بالدهشة والاستغراب، كأنه قد رسخ في نفوسهم أن ليس من شأن الحاكم أن يعدل، فإن طبيعة الحكم تقضي بالظلم. وهنا أورد حادثة تدل على شدة حرص رياض باشا في ذلك الوقت على أن تكون أعمال الفلاحين منحصرة فيما يعود عليهم بالمنفعة العامة والخاصة: هطل مطر غزير نشأ عنه سيل جرف جانبًا من جسر سكة حديد من خط السويس، فكتبت مصلحة سكة الحديد العمومية إلى مدير الشرقية وكان فريد باشا، تستنهض همته في إرسال مئتي شخص لإصلاح الجسر، فأمر المدير بإرسال العدد المطلوب في الحال وأصلح الجسر، ولم تأت مصلحة سكة الحديد ولم يفعل المدير إلا بعض ما هو معهود في البلاد، وما لم يكن يعده الأهالي شيئًا نكرًا، خصوصًا وقد كان الناس يفهمون أن أعمال السكك الحديدية من الأعمال العمومية، فلما بلغ الخبر رياض باشا استدعى أولاً فريد باشا وعنفه أشد التعنيف مع ما هو معلوم بينهما من المحبة وشدة القرابة، ولم يكتف بذلك، بل أمر بكتابة منشور عمومي لجميع المديرين، فكتب المنشور عدة مرات، وكلما قرأه لم يجده وافيًا بغرضه؛ لعدم تعود الكتاب على التنويه بشأن الأهالي إلى الدرجة المطلوبة له فيمزقه , وآخر الأمر دعاني لتحرير ذلك المنشور فكتبته وذكرت فيه الحادثة، وأتذكر منه هذه الفقرة: (وليعلم المديرون والأهالي جميعًا أن الأهالي ليسوا عبيدًا لأحد، ولا لأحد عليهم سلطان إلا فيما يتعلق بمنافعهم عامة أو خاصة) وهذا تصريح من رئيس الحكومة النائب عن الجناب الخديوي بإعتاق الأهالي من عبودية التسخير، بل من العبودية للحاكم على وجه الإطلاق، وهذا مما لم يعهد له مثل من قبل. اهـ المراد هنا. (المنار) هذا ما كتبه الأستاذ الإمام في إبطال رياض باشا للسخرة، وفيه ما ترى من الفائدة التاريخية والعبرة. وسنذكر في النبذة التالية ما كتبه من أعماله الإصلاحية الأخرى؛ كتوزيع مياه النيل بالقسط لري الأرض ومساواته فيها بين الرؤساء والفلاحين، وإلغاء الضرائب الكثيرة، وإبطاله استعمال الكرباج، ومنعه الحبس لتحصيل الحقوق الأميرية والشخصية، وغير ذلك من أعماله الجليلة. ((يتبع بمقال تالٍ))