بقلم الشيخ أمين أفندي عز الدين من أهل العلم والأدب في طرابلس الشام ونزيل مصر الآن
صدق الله العظيم وكذب هوس الناس: نقوم أمام المحراب تماثيل بشرية يحرك حكم العادة أيدينا بالتكبير وألسنتنا بالتلاوة والتسبيح ويحني ظهورنا للركوع ويثني عظامنا للسجود من غير أن يلم بنا شعور بهذه الأوضاع أو يفعل في أنفسنا تأثير من تلك الأعمال فضلاً عن نظر في مقاصدها وتوجه إلى غاياتها ونحسبها من الصلاة التي قال فيها رب محمد صلى الله وعليه وسلم {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: ٤٥) ونحن مشمرون للفواحش عن ذراع، سبحان الله نحن ما نحن مصلون. الصلاة ما جعلها الله أفعالاًِ ميتةً وأوضاعًا جامدةً تُقصد لذاتها ولكن جعلها مظاهر سكينة ومواقف خضوع تُؤذن الناس أنها شعار مناجاة بين العبد وبين ربه كل يوم ليكون هذا الإنسان على نوع من ذكر الله تعالى في معارك معاشه ومعامع حياته وفي الآخرة أعد الله له أجرًا عظيمًا. تعالى الله أن يكلف قلوبًا غلفًا ونفوسًا جلفًا باختلاجات عضوية فارغة الإناء ثم يعد لفاعلها حسن الجزاء. الصلاة أفعال مخصوصة ذات أركان معلومة جعلها دين الله الإسلامي مرقاةً لمراقبة المعبود أنزلت من السماء مائدة تحمل للأرواح غذاءها من العالم النوراني كيلا تضل في الغربة ويتغلب عليها سلطان الشهوة عالمين متباينين لكل منهما مطالب تناسب طبيعته في وجوده وبقائه والثاني: أثيري لطيف يستمد وجوده من النور القدسي، ويستفيض بقاءه من النفحات الإلهية فالأول جسم والثاني روح. تناول الجسد وجود من هذه البساط الأرضية فجرت عليه قوانين الطبيعة واعترته أحكام من قوة وضعف وزيادة ونقص وتحلل وتركب وأصبح من أجل ذلك في حاجة شديدة لتعويض ما تستلبه منه نواميس التحليل مثلاً بمثل وجنسًا بجنس وذلك غذاؤه وأما الروح فهو وإن كان آمنًا على وجوده من غارة الفناء وانحلال الأجزاء إلا أنه هبط من السماء وله مع العالم المادي شئون أيريد كل من المتجاورين أن يكون هو المتغلب ليتمكن من امتلاك هذا الهيكل الإنساني فيستسعيه في أمياله ويتصرف فيه كيف يشاء، ومن ثمة كان الروح مضطرًّا أن يستمد من عالمه العلوي ما يقوى به على التغلب أو يحفظ به مركز استقلاله وهذا هو غذاؤه، متى تمت الغلبة رفرفت بهذا الإنسان إلى معاهدها الأولى في مظاهر الملكوت ومصاف الملكية، وأذنت له أن يتصرف بما في آفاقه من الكونيات المادية إلى حيث يجعلها من خدم شئونه الحيوية على عكس من الجسد إذا تسنم صهوة القلب واقتعد سرير السلطة فإنه يهبط بالإنسان إلى عالمه في الدرجات السفلية وبرزخ العجم من الحيوانات إلى حيث ترتفع الطبيعة أن يمسها بكفه تصرف أو تمكنه من وطر، فأي الطريقين خير؟ أراد الإسلام بهذا الإنسان خيرًا فحتم عليه في سائر أحواله أن يجيب مطالب عالمه الروحي ويتقاعس عن مشتهيات عالمة المادي ما استطاع ودعاه أن يقف بين يدي ربه سبحانه وتعالى خمس وقفات في اليوم يناجيه بهيئة الذل وشعار الخضوع بحيث ينبذ ما سواه في العراء ليتأهل لقبول الفيض الإلهي الذي هو لروحه غذاء تتقوت به وتعتمد عليه في مناوراتها مع الجسم والمادة وتلك هي الصلاة التي تنهى عما تنهى وتقرب إلى الله زلفى. تلك التي كفكفت جبروت أولئك القوم الجاهلية في ردح من الزمن وهي التي كان مؤمن القلب في القرون الغابرة يتغيب فيها عن مشاعره بحيث لم يكن يشعر بالفواجع الخطرة والمؤلمات الجسدية ولو كان في هذه نشر عظمه أو عرق لحمه وها هوتاريخ حياة القوم كانوا يعلمون أن الصلاة ماهية دعامتها الخشوع. كانوا يعلمون أن ما فيها من الأعمال إنما هو ركن ثانوي يقصد به تمثيل الخضوع القلبي على الجوارح ليشترك السر والعلانية في التذلل والسكينة فطفقوا يصلون متجردين عن المشاغل الفكرية وهو السبب فيما يبلغنا عنهم من الغيبة عن مشاهد الكون في خلال الصلاة أما نحن فإننا ذهبنا إلى أن الصلاة إنما هي تلك الأعمال الظاهرية لا دخل فيها للخشوع ولا يغني فيها خضوع وأقبلنا نجتزئ بتلك الوقفات الجمادية والاختلاجات اللسانية وهي لا تصدفنا عن فحش نأتيه ولا تنهانا عن منكر نفعله فهل تخلف قول القرآن أم نحن لم نكن مصلين؟ نزعم أننا لم نخاطب خطاب التكليف بتلك الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر حيث فهمنا أنها هي الكاملة، ويكأن القوم لا يعلقون هل أمر الله إذ أمر بإقامة الصلاة أن تكون ناقصة أم دلت الإقامة في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (البقرة: ٤٣) على ذلك المعنى الناقص؟ أستغفر الله. قال صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) اللهم ما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا.