للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الرحمن الجمجموني


مذكرة مرفوعة

لحضرة صاحب الفضيلة العلامة الشيخ السيد محمد رشيد رضا المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد وصلني ج ٥ م ٢٦ من المنار
النافع وتصفحته فبدت لي عليه الملاحظات الآتية:
(الأولى) قلتم في تفسير فتون سليمان عليه السلام ص ٤١ س ٦ ما نصه:
(ووضعت غلامًا مشوهًا هو نصف غلام، فألقي على كرسيه ليعتبر) . ثم نسبتم
ذلك لنص حديث الصحيحين في ص ٣٤٣ س ١٤ وحيث إن جملة فألقي على
كرسيه ليعتبر لم ترد في الحديث لا بلفظها ولا بمعناها كما يعلم لفضيلتكم بمراجعة
نص الحديث في البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء ضمن باب واذكر عبدنا داود
مع ملاحظة ما ذكره صاحب الفتح في شرح قوله إلا واحدًا ساقطًا أحد شقيه، حيث
قال ما نصه: (حكى النقاش في تفسيره أن الشق المذكور هو الجسد الذي ألقي على
كرسيه وقد تقدم في البخاري قول غير واحد من المفسرين أن المراد بالجسد المذكور
شيطان وهو المعتمد والنقاش صاحب مناكير كما هو منصوص في هذا الباب قبل
هذا الحديث في البخاري أيضًا.
وحيث إنكم صرحتم في آخر هذا الموضع بأنكم كتبتموه بغير مراجعة لكثرة
الأشغال فلكم العذر فطبعًا إنكم تستدركونه في الجزء الآتي صيانة للفظ الحديث
الصحيح، وقد سبق مثل ذلك في ص ٩١م٥ فلعلكم تنوهون إلى ذلك أيضًا.
(الثانية) قلتم في ص ٣٢٢س ٤ من الجزء الحاضر ما نصه (ولو ذكر في
القرآن أن الرجل الذي آتاه الله آياته هو (بلعام) هذا أو لو صح هذا في خبر مسند
متصل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان صحيحًا)
وقد نقل العلامة الجزائري في كتابه توجيه النظر عن الحاكم النيسابوري في
الكلام على الموقوفات من الروايات ص ١٦٥ من توجيه النظر ما نصه (فأما
ما نقول في تفسير الصحابي: إنه مسند فإنما نقوله في غير هذا النوع الموقوف وذلك
فيما أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا
وكذا فإنه حديث مسند) لذلك قال العلامة الزرقاني في شرحه على البيقونية في
المصطلح في الكلام على الموقوف أيضًا ما نصه: (ومحل كون ما أضيف
للصحابي موقوفًا حيث كان للرأي فيه مجال فإن لم يكن للاجتهاد فيه مجال ظاهر
فهو مرفوع وإن احتمل أخذ الصحابي له عن أهل الكتاب تحسينًا للظن به) . اهـ
وإن أكثر الأحاديث التي لم ترضونها في هذا الموضوع مروي عن أجلاء
الصحابة الذين شهدوا الوحي والتنزيل كما يتضح بالمراجعة.
وقلتم أيضًا في هذا الموضوع ص٣٢٣س٢٠ (ولقد رأينا شيخ المفسرين ابن
جرير لم يعتد بها) وبناء على القاعدة التي ذكرها الحاكم راجعنا تفسير ابن جرير
فلم نهتد إلى عبارة يؤخذ منها عدم اعتداده بهذه الأحاديث.
لذلك أرجو إمعان النظر في الموضوع أيضًا والاستدراك عليه وعلى عبارتكم
عن ابن جرير بما تروه أو أن تتكرموا علينا بإبداء رأيكم الثاقب في عبارتي الحاكم
والزرقاني مع إرشادنا إلى الجملة التي صدرت من ابن جرير الدالة على عدم
اعتداده بهذه الأحاديث ولكم من المولى الثواب الجزيل.
(الثالثة) قلتم في آخر ص ٣٤٢ (وقد قال الإمام أحمد) ثم لم تذكروا
عبارته إلا في آخر الصفحة الثانية مصدرة بإعادة هذه الجملة أيضًا فالأولى زائدة
طبعًا فأرجو التنويه بحذفها من آخر ص ٣٤٢ رفعًا للإبهام وتحقيقًا لنسبة النصوص
ولكم الشكر.
هذا ما عنَّ لي الآن من الملاحظات على هذا الجزء كتبته على عجل كي
تدركون ما يلزم تحريره في الجزء التالي خدمة لسنة رسول الله- صلى الله عليه
وسلم - والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً واقبلوا فائق الاحترام من المخلص.
... ... ... ... ... ... ... ... ٧ ربيع أول سنة ١٣٤٥
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن الجمجموني
***
تعليق المنار
على هذا الانتقاد
(وفيه القول الفصل بين المقلدين الجامدين وبين طلاب الإصلاح المستقلين)
(في الإسرائيليات وإفهام المؤلفين الميتين)
في هذه المذكرة عدة مسائل منتقدة نجيب عنها واحدة بعد واحدة الأولى تفسير الجسد الذي فتن به سليمان:
وزعم المنتقد أنني أسندت إلى حديث الصحيحين ما ليس فيه
صرحت في جواب هذه المسألة من الجزء الخامس بأنني كتبت ما كتبته من
غير مراجعة شيء من الكتب في تفسير الآية والروايات الواردة فيها وذلك أنني كتبت
ما هو مخزون في نفسي من مطالعاتي السابقة لكتب التفسير فيها وكان سبق لي مثل
ذلك بإيجاز منذ ٢٦ سنة في (م٥ منار) كما صرحت بأنني لم أراجع شيئًًا من
ألفاظ الأحاديث الواردة فيها فلا يمكن إذًا أن أريد مما كتبت عزوه إلى نصوصها وقد
راجعت عند كتابة هذا التعليق بعض تلك الكتب فظهر لي أن تلك العبارة التي كتبتها
على عجل هي خلاصة أقوال المحققين من المفسرين وأنا لم أعز العبارة التي نقلها
المنتقد من (ص ٣٤١ س٦) إلى نص حديث الصحيحين كما ادعى بل قلت: (وأقول
بالإجمال: إن الذي ورد في تفسير فتون سليمان في الكتب الصحيحة كذا) وإنما
أشرت إلى حديث الصحيحين إشارة بذكر معناه فلا يصح مع هذا أن يقال إنني
عزوت إلى هذا الحديث شيئًا ليس فيه ولو بغير تعمد كما قال وإنما غرضي من
عزو ما أجملته إلى كتب التفسير أن جملة ما قاله أصحابها المحققون أن المراد
بالجسد هو الولد المشوه الذي ورد ذكره في حديث الصحيحين وإنني أنقل الآن عنها
ما يؤيد مما كتبته من غير مراجعة شيء منها ولا من غيرها كما صرحت به في تلك
الفتوى في الموضوع.
وأقول: قبل ذلك إن الذي جعل الشيخ عبد الرحمن الجمجموني يُعنى بهذا
الانتقاد هو أن ما نرفضه من تفسيرها، وهو أن الذي ألقاه الله على كرسي سليمان
فتنة له شيطان تمثل بصورته وصار يحكم بين الناس باسمه مروي عن بركان
الخرافات كعب الأحبار الذي شغل الجمجموني إثبات تعديله والدفاع عنه حتى ألهاه
عن زراعته وحمله على وضع نفسه حيث وضعها من مقام نقد التفسير والحديث
وهو لا يمكن إتقانه له مع الاشتغال بالزراعة.
أما ما ذكره الحافظ في الفتح من حكاية النقاش (المفسر) لما اخترناه من
أقوال المفسرين في الجسد وقوله فيه إنه صاحب مناكير فلا يضرنا لأننا لم نختر
هذا القول لحكاية النقاش له، ولا اعتمادًا على روايته التي لم نطلع عليها وإنما
اخترناه تبعًا لبعض المحققين كما ستعلمه مما ننقله عنهم وقد سبقنا القسطلاني في
شرحه للبخاري في نقل اعتماد القاضي البيضاوي لما ذكره النقاش وأشار إلي
تصويبه وترجيحه على ما ذكره البخاري عن بعضهم كمجاهد ولم يذكر القسطلاني
في شرحه للحديث ما قاله ابن حجر في تضعيف قول النقاش لأنه لم يعتد به.
وأما اعتماده لقول من نقل البخاري عنهم أن الجسد المذكور شيطان فهو ليس
حجة علينا أعني ليس حجة علي وعلى من اخترت قولهم لأن الروايات الأخرى
إسرائيلية ومروية عن كعب الأحبار الذي أجزم بكذبه بل لا أثق بإيمانه ولأن فيها
طعنًا على نبي الله سليمان عليه السلام كما قالوه وصاحب الفتح لا مانع عنده من
ترجيح رواية سندها إلى كعب الأحبار قوي على رواية النقاش المجروح في روايته
عند أهل هذا الفن وأما البخاري فلم يرو تفسير الجسد بالشيطان بسند من أسانيد
الصحيح وإنما ذكره في تفسير بعض المفردات فهو تعليق له في تفسير كلمة مفردة.
***
خلاصة من أقوال محققي المفسرين
في المسألة من المعقول والمنقول
(١) قال الفخر الرازي إمام مفسري المعقول في تفسير الآية:
اعلم أن هذه الآية شرح واقعة ثانية لسليمان عليه السلام اختلفوا في المراد من
قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} (ص: ٣٤) ولأهل الحشو والرواية فيه قول ولأهل
العلم والتحقيق قول آخر أما قول أهل الحشو فذكروا فيه حكايات.
(وذكر أربع روايات مختصرة مما سيأتي مطولاً ثم قال)
(واعلم أن أهل التحقيق استبعدوا هذا الكلام من وجوه:
(الأول) أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة والخلقة بالأنبياء
فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من الشرائع فلعل هؤلاء الذين رأوهم الناس في
صورة محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين
تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال ومعلوم أن ذلك يبطل الدين
بالكلية.
(الثاني) أن الشيطان لو قدر على أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه
المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ وجب أن يقتلهم
وأن يمزق تصانيفهم وأن يخرب ديارهم ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن
يبطل مثله في حق أكابر الأنبياء أولى.
(الثالث) كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج
سليمان ولا شك أنه قبيح.
(الرابع) لو قلنا: إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر
منه، وإن لم يأذن فيه ألبتة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ سليمان بفعل لم
يصدر عنه فأما الوجوه التي ذكرها أهل التحقيق في هذا الباب أشياء:
(الأول) أن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين: إن عاش صار
مسلطًا علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب
فبينما هو مشتغل بمهماته إذ أُلقي ذلك الولد ميتًا على كرسيه فتنبه على خطئه في أنه
لم يتوكل فيه على الله فاستغفر ربه وأناب.
(الثاني) روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنه قال: قال
سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله
ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء
على كرسيه فوضع في حجره [١] فوالذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا كلهم
في سبيل الله فرساناً أجمعون فذلك قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} (ص: ٣٤)
(الثالث) قوله: (ولقد فتنا سليمان) بسب مرض شديد ألقاه الله عليه
{وألقينا على كرسيه جسدًا} (ص: ٣٤) منه وذلك لشدة المرض والعرب تقول
في الضعيف: إنه لحم على وضم وجسم بلا روح ثم أناب أي رجع إلى حال الصحة
فاللفظ محتمل لهذه الوجوه ولا حاجة ألبتة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة.
(الرابع) أقول لا يبعد أيضًا أن يقال: إنه ابتلاه الله تعالى بتسليط خوف أو
توقع بلاء من بعض الجهات عليه وصار بسبب قوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف
الملقى على ذلك الكرسي ثم إنه أزال الله عنه ذلك الخوف وأعاده إلى ما كان عليه
من القوة وطيب القلب. اهـ المراد من كلام الرازي.
(٢) وبمثل القول الثاني من تفسير الجسد عند الرازي قال البيضاوي
الشافعي والطوفي الحنبلي وأبو السعود الحنفي.
وجعل القسطلاني في شرحه للبخاري اعتماد البيضاوي لقول النقاش إشارة
إلى تصويبه واكتفى بذلك ولم يذكر اعتماد ابن حجر لغيره كما تقدم.
(٣) قال الألوسي الجامع في تفسيره روح المعاني بين المعقول والمنقول
والفروع والأصول ما نصه:
(أظهر ما قيل في فتنته عليه السلام أنه قال: لأطوفن الليلة على سبعين
امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله - ولم يقل إن شاء الله - فطاف
عليهن فلم تحمل إلا امرأة وجاءت بشق رجل. وقد روى ذلك الشيخان وغيرهما
عن أبي هريرة مرفوعًا وفيه (فوالذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا
فرسانًا) لكن الذي في صحيح البخاري أربعين بدل سبعين [٢] وأن الملك قال له:
قل إن شاء الله فلم يقل، وغايته ترك الأولى فليس بذنب، وإن عده هو عليه السلام
ذنبًا، فالمراد بالجسد ذلك الشق الذي ولد له ومعنى إلقائه على كرسيه وضع القابلة
له عليه ليراه) .
ثم ذكر أشهر الروايات التي وردت في تفسير الجسد بالشيطان، وأن منها ما
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وقال الحافظ ابن حجر وتلميذه
السيوطي: إن سنده قوي. وفيها أن الشيطان الذي تولى ملك سليمان وتشبه به كان
يأتي نساءه وهن حيض. ونستغني عن سرد هذه الروايات بما يأتي عن الحافظ ابن
كثير، ثم قال: الألوسي - بعد ذكر هذه الروايات - ما نصه:
وقال أبو حيان وغيره: إن هذه المقالة من أوضاع اليهود وزنادقة السوفسطائية
ولا ينبغي لعاقل أن يعتقد صحة ما فيها وكيف يجوز تمثل الشيطان بصورة نبي
حتى يلتبس أمره عند الناس ويعتقدوا أن ذلك المتصور هو النبي؟ ولو أمكن وجود
هذا لم يوثق بإرسال نبي نسأل الله سلامة ديننا وعقولنا ومن أقبح ما فيها زعم تسلط
الشيطان على نساء نبيه حتى وطئهن وهن حيض!
(الله أكبر هذا بهتان عظيم وخطب جسيم ونسبة الخبر إلي ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما لا تسلم صحتها وكذا لا تسلم قوة سنده إليه وإن قال بها من سمعت
(يعني ابن حجر والسيوطي فليعتبر الجمجموني) وجاء عن ابن عباس برواية
عبد الرزاق وابن المنذر ما هو ظاهر في أن ذلك من أخبار كعب ومعلوم أن كعبًا
يرويه عن كتب اليهود وهي لا يوثق بها [٣] على أن إشعار ما يأتي بأن تسخير
الشياطين بعد الفتنة يأبى صحة هذه المقالة كما لا يخفى [٤] .
ثم إن أمر خاتم سليمان عليه السلام في غاية الشهرة بين الخواص والعوام
ويستبعد جدًّا أن يكون الله تعالى قد ربط ما أعطى نبيه عليه السلام من الملك بذلك
الخاتم، وعندي أنه لو كان في ذلك الخاتم السر الذي يقولون لَذَكَرَه الله عز وجل في
كتابه والله أعلم بحقيقة الحال اهـ.
(٤) قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية ما نصه:
وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة
وغيرهم يعني شيطانًا (ثم أناب) أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته، قال
ابن جرير: وكان اسم ذلك الشيطان صخرًا، قاله ابن عباس رضي الله عنهما
وقتادة: وقيل آصف، قاله مجاهد وقيل صرد قاله مجاهد أيضًا، وقيل حقيق قاله
السدي. وقد ذكروا هذه القصة مبسوطة، وبدأ منها بذكر رواية سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة وهي طويلة وفيها خرافات غير معقولة ثم قال:
وقال السدي {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} (ص: ٣٤) أي ابتلينا سليمان {وَأَلْقَيْنَا
عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ} (ص: ٣٤) قال شيطانًا جلس على كرسيه أربعين يومًا.
قال: كان لسليمان عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها
جرادة وهي آثر نسائه وآمنهن عنده، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه ولم
يأمن عليه أحدًا من الناس غيرها فأعطاها يومًا خاتمه ودخل الخلاء فخرج الشيطان
في صورته فقال: هاتي الخاتم فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان عليه
الصلاة والسلام، وخرج سليمان بعده فسألها أن تعطيه خاتمه؛ فقالت: ألم تأخذه
قبل؟ قال لا. وخرج تائهًا ومكث الشيطان يحطم بين الناس أربعين يومًا، قال:
فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على
نسائه فقالوا لهن: إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا
أحكامه. قال: فبكى النساء عند ذلك، قال فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم
نشروا يقرءون التوراة قال فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه،
ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت من حيتان البحر
قال وأقبل سليمان عليه السلام في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من
صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه فسألهم من صيدهم وقال: إني أنا
سليمان فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ
البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته
قال: إنه زعم أنه سليمان قال: فأعطوه سمكتين مما قد كان عندهم ولم يشغله ما كان
به من الضرب حتى قام إلى شاطئ البحر فشق بطونهما فجعل يغسل
فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه فرد الله عليه بهاءه وملكه فجاءت الطير
حتى حامت عليه فعرف القوم أنه سليمان - عليه الصلاة والسلام - فقام القوم
يعتذرون مما صنعوا فقال: ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم
كان هذا الأمر لا بد منه.
قال: فجاء حتى أتى ملكه وأرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل
في صندوق من حديد ثم أطبق عليه وأقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به
فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم الساعة وكان اسمه حقيقًا قال: وسخر الله له الريح
ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي
إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (ص: ٣٥)
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تبارك وتعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ} (ص: ٣٤) قال: شيطانًا يقال له آصف، فقال له سليمان عليه
السلام: كيف تفتنون الناس قال أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه آصف
في البحر فساح سليمان عليه السلام وذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله
تبارك وتعالى من نساء سليمان فلم يقربهن ولم يقربنه وأنكرنه. قال فكان سليمان
عليه الصلاة والسلام يستطعم فيقول: أتعرفوني أطعموني أنا سليمان فيكذبونه،
حتى أعطته امرأته يومًا حوتًا ففتح بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر
آصف فدخل البحر.
فأرى هذه كلها من الإسرائيليات، ومِن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم حدثنا
علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا
حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ} (ص: ٣٤) قال: أراد سليمان - عليه الصلاة والسلام- أن يدخل الخلاء فأعطى
الجرادة خاتمه، وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في
صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأعطته إياه فلما لبسه دانت له الإنس والجن
والشياطين.
فلما خرج سليمان عليه السلام من الخلاء قال لها هاتي خاتمي. قالت قد
أعطيته سليمان. قال أنا سليمان. قالت كذبت ما أنت بسليمان. فجعل لا يأتي أحدًا
يقول له أنا سليمان إلا كذبه، حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة. فلما رأى
ذلك سليمان عرف أنه من أمر الله عز وجل، قال: وقام الشيطان يحكم بين الناس
فلما أراد الله تبارك وتعالى أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار
ذلك الشيطان. قال: فأرسلوا إلى نساء سليمان؛ فقالوا لهن تنكرن من سليمان شيئًا؟
قلن نعم: إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك؛ فلما رأى الشيطان أنه قد
فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتبًا فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي
سليمان ثم أثاروها وقرأوها على الناس، وقالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس
فأكفر الناس سليمان -عليه الصلاة والسلام - فلم يزالوا يكفرونه، وبعث ذلك
الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة؛ فأخذته وكان سليمان - عليه السلام
- يحمل على شط البحر بالأجر، فجاء رجل فاشترى سمكًا فيه تلك السمكة التي في
بطنها الخاتم فدعا سليمان - عليه الصلاة والسلام - فقال: تحمل لي هذا السمك؟
فقال: نعم، قال: بكم؟ قال: بسمكة من هذا السمك، قال: فحمل سليمان -
عليه الصلاة والسلام - السمك، ثم انطلق به إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى بابه
أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فأخذها سليمان عليه الصلاة والسلام
فشق بطنها؛ فإذا الخاتم في جوفها، فأخذه فلبسه، قال: فلما لبسه دانت له الجن
والإنس والشياطين، وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر
البحر فأرسل سليمان عليه السلام في طلبه وكان شيطانًا مريدًا فجعلوا يطلبونه ولا
يقدرون عليه حتى وجدوه يومًا نائمًا فجاءوا فبنوا عليه بنيانًا من رصاص؛ فاستيقظ؛
فوثب فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انماط معه من الرصاص. قال فأخذوه
وأوثقوه، وجاءوا به إلى سليمان -عليه الصلاة والسلام -فأمر به فنقر له تخت من
رخام، ثم أدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله
تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ} (ص:
٣٤) قال: يعني الشيطان الذي كان سلط عليه. إسناده إلى ابن عباس رضي الله
عنهما قوي.
ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس - رضي الله عنهما- إن صح
عنه من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان - عليه الصلاة والسلام -؛
فالظاهر أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في هذا السياق منكرات من أشدها ذكر
النساء، فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف، أن ذلك الجني لم
يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله - عز وجل - منه تشريفًا وتكريمًا لنبيه
عليه السلام) .
قال المفسر:
(وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف - رضي الله عنهم -
كسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل
الكتاب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقال يحيى بن عروبة الشيباني: وجد سليمان خاتمه بعسقلان فمشى في جرته
إلى بيت المقدس تواضعًا لله عز وجل رواه ابن أبي حاتم.
وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في صفة سليمان عليه الصلاة
والسلام جزءًا عجيبًا، فقال: حدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو
إسحاق المصري عن كعب الأحبار أنه لما فرغ من حديث (إرم ذات العماد) قال
له معاوية: يا أبا اسحق أخبرني عن كرسي سليمان بن داود -عليهما الصلاة
والسلام- وما كان عليه؟ ومن أي شيء هو؟ فقال: كان كرسي سليمان من أنياب
الفيلة مرصعًا بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ وقد جعل له درجة منها مفصصًا
بالدر والياقوت والزبرجد ثم أمر بالكرسي فحف من جانبيه بالنخل
نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ وجعل على رءوس النخل
التي عن يمين الكرسي طواويس من ذهب، ثم جعل على رءوس النخل التي على
يسار الكرسي نسورًا من ذهب مقابلة الطواويس، وجعل على يمين الدرجة الأولى
شجرتي صنوبر من ذهب عن يسارها أسدان من ذهب وعلى رءوس
الأسدين عمودين من زبرجد وجعل من جانبي الكرسي شجرتي كرم من ذهب قد أظلتا
الكرسي، وجعل عناقيدهما درًّا وياقوتًا أحمر ثم جعل فوق درج الكرسي أسدان
عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكًا وعنبرًا، فإذا أراد سليمان - عليه السلام -
أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقفان فينضحان ما في أجوافهما من
المسك والعنبر حول كرسي سليمان - عليه الصلاة والسلام- ثم يوضع
منبران من ذهب واحد لخليفته والآخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان، ثم يوضع أمام كرسيه سبعون منبرًا من ذهب يقعد عليها سبعون قاضيًا من بني
إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والطول، ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة
وثلاثون منبرًا من ذهب ليس عليها أحد فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه
على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وما عليه ويبسط الأسد يده
اليمنى وينشر النسر جناحه الأيسر ثم يصعد سليمان عليه الصلاة والسلام
على الدرجة الثانية فيبسط الأسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الأيمن فإذا
استوى سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي
أخذ نسر من تلك النسور عظيم تاج سليمان عليه الصلاة والسلام فوضعه على
رأسه فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحا المسرعة.
(فقال معاوية رضي الله عنه: وما الذي يديره يا أبا إسحق؟ قال: تنين من
ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني فإذا أحست بدورانه
تلك الأسود والنسور والطواويس التي في أسفل الكرسي درن إلى أعلاه، فإذا
وقف وقفن كلهن منكسات رءوسهن على رأس سليمان عليه الصلاة والسلام وهو
جالس ثم ينضحن جميعًا ما في أجوافهن من المسك والعنبر على رأس سليمان بن
داود - عليهما الصلاة والسلام - ثم تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود من
جوهر التوراة فتجعلها في يده فيقرأها سليمان عليه الصلاة والسلام على الناس وذكر
تمام الخبر وهو غريب جدًّا) اهـ. المراد من تفسير ابن كثير. فهذه
أقوال أشهر كتب التفسير المعتمدة المعروفة في المسألة مع وصف كعب لكرسيه المذكور فيها وهو من الأكاذيب التي عجز عن مثلها مصنف (ألف ليلة وليلة)
وانتظر تعليقنا في الجزء التالي عليها...
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))