وحجج المسلمين النبذة الحادية عشرة عصمة الأنبياء والخلاص {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًًا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: ١٢٣-١٢٤) . ذكرنا في نبذة سابقة أننا طلاب مودة والتئام، وأن المناقشات في الأديان والمذاهب قليلة الجدوى، وربما أضرت ولم تنفع؛ لأن أكثر الناس مقلدون، وما أضيع البرهان عند المقلد! ! وقلنا: إن هؤلاء المبشرين الإنجيليين اضطرونا إلى الرد على تمويههم بما يرسلون إلينا من الكتب والجرائد التي تطعن في عقائد المسلمين، ويلحون علينا بأن نرد عليها، وقد انضم إلى إلحاحهم طلب كثيرين من المسلمين يقولون ليس في القطر مجلة إسلامية أنشئت لخدمة الدين مع العلم إلا المنار، فيجب عليها رد الشبهات التي توجه إلى الإسلام، فبهذا وذاك صار من الواجب علينا بحكم ديننا الرد على هذه الكتب والجرائد ونأثم شرعًا بتركه. (كلما داويت جرحًا سال جرح) كنا نردُّ على آخر كتاب لهم جمع خلاصة شبهاتهم، وإذا نحن بجريدة (بشائر السلام) ترد إلينا من غير طلب ولا سبق مبادلة، ثم في هذه الأيام أرسلت إلينا جريدة (راية صهيون) الإنجيلية مكتوبًا عليها: (أرجو الاطلاع على مقالة خطية الأنبياء والرد عليها) . تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد ولكن القليل من آيات الحق يكفي لإزهاق الكثير من الباطل، لذلك نقول: ابتداء هذه المقالة (إن المسلمين يقولون: إن الله أرسل أنبياء كثيرين إلى العالم وأعظمهم ستة، وهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى - أي المسيح - ومحمد، وكثيرون يقولون بأن كل هؤلاء الأنبياء كانوا بلا خطية، ولذلك كانوا قادرين على إيهاب الخلاص لتلاميذهم؛ ولكن لو كانوا خطاة فما كانوا يتيسر لهم ذلك، إذ لا يمكن للخطاة أن يخلصوا الآخرين من الخطية) هذا ما قاله بحروفه، ثم تعقبه بدعوى أن من عدا المسيح من هؤلاء الأنبياء كانوا عصاةً مذنبين مستدلاًّ بما جاء في قصصهم في كتب العهد العتيق. فأما معصية آدم فمعروفة، وأما نوح فذكر أنه شرب الخمر، واعترف الكاتب بأن التوراة لم تذكر له خطيئة غير هذه؛ ولكنه جزم بأنه لابد أن يكون خاطئًا، وأما إبراهيم (فقد ورد عنه أنه كذب مرتين من باب الخوف من الناس) وأما موسى فذكر الكاتب من خطيئته أنه (حينما أمره الله أن يذهب إلى فرعون قد أظهر خوفًا عظيمًا وجبنًا زائدًا جعل الله أن يغضب عليه، وحينما كان بنو إسرائيل في البرية بعد خروجهم من أرض مصر قد فرط موسى مرة بشفتيه حتى أن الله لم يسمح له نظرًا لهذا الذنب أن يدخل أرض كنعان، بل جعله أن يموت في القفر) واستدل على خطيئاتهم من القرآن العزيز بما ورد من الآيات في طلبهم المغفرة إلا المسيح فإنه لم يرد عنه ذلك، وختم المقالة بعد كلام طويل في الثناء على السيد المسيح عليه الصلاة والسلام بدعوة المسلمين إلى الإيمان به - وهم المؤمنون حقًّا - والاتكال عليه في خلاصهم - وهم لا يتوكلون إلا على الله وحده - ويعني بالإيمان به أن يكون موافقًا لمذهب بروتستنت فإنه كتب نبذة في الصفحة الأولى من هذا العدد بأن سائر الطوائف (مسيحيون بالظاهر، وأما في الحقيقة فليسوا كذلك) وأن الله سيلقيهم في النار التي لا تطفأ، أما الرد على المقالة فمن وجوه: (الأول) أن أفضل الأنبياء عند المسلمين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ويسمونهم أولي العزم، وليس آدم منهم لقوله تعالى {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (طه: ١١٥) ومن العلماء من منع التفاضل بين الرسل، وقال: إن ذلك لا يُعرف إلا بالوحي. (الثاني) أن المسلمين لا يعتقدون أن الأنبياء هم الذين ينجون الناس بسبب عصمتهم من العذاب، ويدخلونهم بجاههم في رحمته؛ وإنما يعتمدون على الله تعالى وحده في ذلك، ويعتقدون أن سبب النجاة الإيمان الصحيح والعمل الصالح، وأن الأنبياء ما أرسلوا إلا مبشرين ومنذرين، فهم يُعَلِّمون الناس الإيمان الصحيح المقبول عند الله تعالى والعمل الصالح الذي يرضيه، فمن آمن وعمل صالحًا ترجى له النجاة بفضل الله تعالى الذي وفقه وهداه، ومن كفر بعد بلوغ الدعوة بشرطها فلا يزيد الظالمين كفرهم إلا خسارًا. (الثالث) أن هؤلاء المعترضين لم يعرفوا معنى عصمة الأنبياء عند المسلمين، فتوهموا أنهم يقولون بذلك لإثبات أن الأنبياء ينجون الناس؛ لأنهم معصومون، فنجيبهم بأن المسلمين قام عندهم الدليل العقلي على ذلك، وهو أن الله تعالى جعل الأنبياء هداة ومرشدين ليُقتدى بهم، فلو ابتلاهم بالمعاصي التي هي مخالفة الشريعة التي يأتون بها لما كانوا أهلاً للهداية؛ لأن الله أودع في فطرة البشر أن يقتدوا بالأفعال أكثر من الأقوال، وقد أخبرونا أن الله تعالى أمر بالاقتداء بهم، فلو كانوا يرتكبون مخالفة أمره لكان في أمره بالاقتداء بهم تناقض وأمر بالشر وهو محال، وليس معنى عصمتهم أنهم مخالفون للبشر في جميع أطوارهم فلا يخافون مما يخيف في الدنيا، ولا يتألمون مما يؤلم ولا يتوقون الشر (سنوضح هذا المقام في الأمالي الدينية بعد) . (الرابع) أنه لم يُنقل عن سيدنا نوح في العهد العتيق إلا شرب الخمر، وفي هذه الأناجيل أن المسيح شرب الخمر أيضًا، فإن قلنا بأن من لم يُنقل عنه أنه عصى يصلح أن يكون مخلِّصًا للناس، فنوح يصلح لذلك كالمسيح، بل إن من صالحي هذه الأمة المحمدية كثيرين لم تحفظ عليهم المعصية. (الخامس) ما نقله عن سيدنا إبراهيم مصرح بأنه كان للضرورة وإرادة التخلص من شر وظلم أكبر من كذبة في الظاهر لها تأويل في نفس القائل كقول إبراهيم عن زوجته: (هذه أختي) يعني في الدين، ومن القواعد المعقولة والمشروعة أنه إذا تعارض ضرران يجب ارتكاب أخفهما، فإذا حاول ظالم أن يغتصب امرأتك ليسترقها أو يفجر بها وقدرت أن تنجيها منه بكلمة كاذبة - وجب عليك ذلك، وتكون الكذبة معصية في الصورة طاعة في الحقيقة. (السادس) أن ما ذكره عن سيدنا موسى من الخوف ليس فيه معصية لله ومخالفة لشريعته؛ وإنما هو شأن من الشؤون البشرية الجائزة وهو خوف هيبة وإجلال للوظيفة العظيمة التي كُلِّف بها. (السابع) إذا لم يصح الدليل العقلي على عصمة الأنبياء، فعدم نقل المعصية عن المسيح لا ينافي وقوعها منه؛ لأنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء عدم وجوده في نفسه. (الثامن) أن طلب الأنبياء المغفرة من الله تعالى لا يدل على أنهم كانوا بعد النبوة عصاة مخالفين لدين الله تعالى؛ ولكنهم لمعرفتهم العالية بالله تعالى، وما يجب له من الشكر والتعظيم يعدون ترك الأفضل إذا وقع منهم في بعض الأوقات ذنبًا وتقصيرًا، ألم تر أن للمقربين من الملوك والسلاطين ذنوبًا غير مخالفة القوانين يطلبون من الملوك العفو عنها (ولله المثل الأعلى) وسيأتى إيضاح ذلك في الأمالي الدينية. (التاسع) إذا فرضنا أن دليل المسلمين على عصمة الأنبياء غير صحيح، فلا حجة للمسيحيين عليهم في شيء؛ وإنما ذلك شبهة على الدين المطلق. ((يتبع بمقال تالٍ))