للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ابن القيم الجوزية


المعرفة بالله تعالى
(٢)

فصل
قال: (الدرجة الثانية معرفة الذات مع إسقاط التفريق بين الصفات والذات،
وهي تثبت بعلم الجمع، وتصفو في ميدان الفناء، وتستكمل بعلم البقاء، وتشارف
عين الجمع) نشرح كلامه ومراده أولاً، ثم نبين ما له وعليه فيه، فكانت هذه
الدرجة عنده أرفع مما قبلها؛ لأن التي قبلها نظر في الصفات وهذه متعلقة بالذات
الجامعة للصفات، وإن كانت الذات لا تخلو عن الصفات فهي قائمة بها، ولا نقول:
إن صفاتها عينها ولا غيرها، لما في لفظ الغير من الإجمال والاشتباه، فإن
الغيرين قد يراد بهما ما جاز افتراقهما ذاتًا أو زمانًا أو مكانًا، وعلى هذا فليست
الصفات مغايرة للذات، ويراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر؛ فيفترقان
في الوجود الذهني لا في الوجود الخارجي، فالصفات غير الذات بهذا الاعتبار؛
لأنه قد يقع الشعور بالذات حال ما يغفل عن صفاتها فتتجرد عن صفاتها في شعور
العبد لا في نفس الأمر، وقوله (مع إسقاط التفريق بين الصفات والذات) التفريق
بين الصفات والذات في الوجود مستحيل، وهو ممكن في الشهود بأن يشهد الصفة
ويذهل عن شهود الموصوف، أو يشهد الموصوف ويذهل عن شهود الصفة،
فتجريد الذات أو الصفات إنما يمكن في الذهن فالمعرفة في هذه الدرجة تعلقت
بالذات والصفات جميعًا، فلم يفرق العلم والشهود بينهما، ولا ريب أن ذلك أكمل
من شهود مجرد الصفة أو مجرد الذات، ولا يريد الشيخ أنك تسقط التفريق بين
الذات والصفات في الخارج والعلم بحيث تكون الصفات هي نفس الذات [١] فهذا لا
يقوله الشيخ وإن كان كثير من أرباب الكلام يقولون إن الصفات هي الذات، فليس
مرادهم أن الذات نفسها صفة، فهذا لا يقوله عاقل، وإنما مرادهم أن صفاتها ليست
شيئًا غيرها، فإن أراد هؤلاء أن مفهوم الصفة هو مفهوم الذات فهذا مكابرة، وإن
أرادوا أنه ليس هاهنا أشياء غير الذات انضمت إليها وقامت بها، فهذا حق.
والتحقيق أن صفات الرب جل جلاله داخلة في مسمى اسمه، فليس اسمه الله
والرب والإله أسماء لذات مجردة لا صفة لها البتة، فإن الذات وجودها مستحيل،
وإنما يفرضها الذهن فرض الممتنعات، ثم يحكم عليها، واسم الله سبحانه والرب
والإله اسم لذات لها جميع صفات الكمال ونعوت الجلال، كالعلم والقدرة والحياة
والإرادة والكلام والسمع والبصر والبقاء والقدم وسائر الكمال الذي يستحقه لذاته،
فصفاته داخلة في مسمى اسمه، فتجريد الصفات عن الذات والذات عن الصفات
فرض وخيال ذهني لا حقيقة له، وهي أمر اعتباري لا فائدة فيه، ولا يترتب عليه
معرفة ولا إيمان، ولا هو علم في نفسه، وبهذا أجاب السلف الجهمية لما استدلوا
على خلق القرآن بقوله الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الرعد: ١٦) فأجابهم
السلف بأن القرآن كلامه، وكلامه صفاته، وصفاته داخلة في مسمى اسمه كعلمه
وقدرته وحياته وسمعه وبصره ووجهه ويديه فليس " الله " اسمًا لذات لا نعت لها ولا
صفة ولا فعل ولا وجه ولا يدين، ذلك إله معدوم مفروض في الأذهان، لا وجود
له في الأعيان كإله الجهمية، الذي فرضوه غير خارج عن العالم ولا داخل فيه،
ولا متصل فيه ولا منفصل عنه، ولا محايث له ولا مباين، وكإله الفلاسفة الذي
فرضوه وجودًا مطلقًا لا يتخصص بصفة ولا نعت، ولا له مشيئة ولا قدرة ولا
إرادة ولا كلام، وكإله الاتحادية الذي فرضوه وجودًا ساريًا في الموجدات ظاهرًا
فيها هو عين وجودها، وكإله النصارى الذي فرضوه قد اتخذ صاحبة وولدًا،
وتدرع بناسوت ولده، واتخذ منه حجابًا، فكل هذه الآلهة مما عملته أيدي أفكارها،
وإله العالمين الحق هو الذي دعت إليه الرسل وعرفوه بأسمائه وصفاته وأفعاله فوق
سماواته على عرشه بائن من خلقه، موصوف بكل كمال، منزه عن كل نقص، لا
مثال له ولا شريك ولا ظهير، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد: ٣) ، غني بذاته عن كل ما
سواه، وكل ما سواه فقير إليه بذاته.
قوله: (وهي تثبت بعلم الجمع، وتصفو في ميدان الفناء) يعني أن هذه
المعرفة الخاصة تثبت بعلم الجمع، ولم يقل (بحال الجمع ولا بعينه ولا مقامه) فإن
علمه أولاً هو سبب ثبوتها، فإن هذه المعرفة لا تنال إلا بالعلم فهو شرط فيها،
وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في الجمع عن قريب، فإذا علم العبد انفراد الرب
سبحانه بالأزل والبقاء والفعل وعجز من سواه عن القدرة على إيجاد ذرة أو جزء
من ذرة، وأنه لا وجود له من نفسه فوجوده ليس له ولا به ولا منه، وتوالي هذا
العلم عن القلب لا يُسقط ذكر غيره سبحانه عن البال والذكر، كما سقط غناه
وربوبيته وملكه وقدرته، فصار الرب سبحانه وحده هو المعبود والمشهود المذكور،
كما كان وحده هو الخالق المالك الغني الموجود بنفسه أزلاً وأبدًا، وأما ما سواه
فوجوده وتوابع وجوده عارية ليست له، وكلما فني العبد عن ذكر غيره وشهوده
صفت هذه المعرفة في قلبه، فلهذا قال (وتصفو في ميدان الفناء) استعار الشيخ
للفناء ميدانًا، وأضافه إليه لاتساع مجاله؛ لأن صاحبه قد انقطع التفاته إلى ضيق
الأغيار، وانجذبت روحه وقلبه إلى الواحد القهار، فهي تجول في ميدان أوسع من
السماوات والأرض، بعد أن كانت مسجونة في سجون المخلوقات، فإذا استمر له
عكوف قلبه على الحق سبحانه، ونظر قلبه إليه كأنه يراه، ورؤية تفرده بالخلق
والأمر والنفع والضر والعطاء والمنع استكملت في هذه الدرجة معرفته، واستكملت
بهذا البقاء الذي أوصله إليه الفناء، وشارفت عين الجمع بعد علمه، فغاب العارف
عن معرفته بمعروفه، وعن ذكره بمذكوره، وعن محبته وإرادته بمراده ومحبوبه
فلذلك قال:
(ويستكمل بعلم البقاء ويشارف عين [٢] الجمع) ولهذه المعرفة ثلاثة أركان [٣]
أشار إليها الشيخ بقوله: (إرسال الصفات على الشواهد، وإرسال الوسائط على
المدارج، وإرسال العبارات على المعالم) شواهد الصفات هي التي يشهد بها ويدل
عليها من الكتاب والسنة وشهادة العقل والفطرة وآثار الصنعة، فإذا تمكن العبد في
التوحيد علم أن الحق سبحانه هو الذي علمه صفات نفسه بنفسه، لم يعرفها العبد
من ذاته ولا بغير تعريف الحق له بما أجراه له سبحانه على قلبه من معرفة تلك
الشواهد والانتقال منها إلى شهود [٤] المدلول عليه، فهو سبحانه الذي شهد لنفسه في
الحقيقة، إذا تلك الشواهد مصدرها منه فشهد لنفسه بما قاله وفعله وجعله شاهدًا
لمعرفته فهو الأول والآخر، والعبد آلة محضة ومنفعل ومحل لجريان الشواهد،
وآثارها وأحكامها عليه ليس له من الأمر شيء، فهذا معنى إرسال الصفات على
الشواهد، فإذا أرسلها عليها تبين له أن الحكم للصفات دون الشواهد، بل الشواهد
هي آثار الصفات فهذا وجه.
ووجه ثانٍ أيضًا، وهو أن الشواهد بوارق وتجليات تبدو للشاهد، فإذا أرسل
الصفات على تلك الشواهد توارى حكم تلك البوارق والتجليات في الصفات، وكان
الحكم الصفات، فحينئذ يترقى العبد إلى شهود الذات شهودًا علميًّا عرفانيًّا كما تقدم
قوله: (وإرسال الوسائط على المدارج) الوسائط هي الأسباب المتوسطة بين
الرب والعبد التي بها تظهر المعرفة وتوابعها، والمدارج هي المنازل والمقامات
التي يترقى العبد فيها إلى المقصود، وقد تكون المدارج الطرق التي يسلكها إليه
ويدرج فيها، فإرسال الوسائط التي من الرب على المدارج التي هي منازل السير
وطرقه توجب كون الحكم لها دون المدارج؛ فيغيب عن شهود المدارج بالوسائط
وقد غاب عن شهود الوسائط بالصفات؛ فيترقى حينئذ إلى شهود الذات، وحقيقة
الأمر أن يعلم أن الرب سبحانه ما أطلعه على معرفته إلا بشواهد منه سبحانه
وبوسائط ليست من العبد، فهو قادر على قبض تلك الشواهد والوسائد، وعلى
إجرائها على غيره؛ فإن الأمر كله له وتلك الوسائط لا توجب بنفسها شيئًا قال الله
تعالى لرسوله: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً
* إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} (الإسراء: ٨٦-٨٧) وقال للأمة على لسانه: {قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ} (الأنعام: ٤٦) وقال تعالى: {قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ} (يونس: ١٦) ويعلم العبد أن ما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله من شواهد
معرفته والإيمان به هي معالم يهتدي بها عباده إليه، ويعرفون بها كماله وجلاله
وعظمته، فإذا تيقنوا صدقه ولم يشكوا فيه، وتفطنوا لآثار أسمائه وصفاته في
أنفسهم، وفي سواهم انضم شاهد العقل والفطرة إلى شاهد الوحي والشرع، فانتقلوا
حينئذ من الخبر إلى العيان، فالعبارات معالم على الحقائق المطلوبة، والمعالم هي
الأمارات التي يعلم بها المطلوب، فإذا أوصل العارف كل معنى مما تقدم ذكره على
مقصوده وصرف همته إلى مجريه وناصبه ومصدره، اجتمع همه عليه، وتمكن
في معرفة الذات التي لها صفات الكمال ونعوت الجلال، ومقصوده أن يبين في هذه
الأركان الثلاثة حال صاحب معرفة الذات، وكيف ترتب الأشياء في نظره ويترقى
فيها إلى المقصود.
مثال ذلك أن الشواهد أرسلته إلى الصفات بإرسالها عليها فانتقل من مشاهدتها
إلى مشاهدة الصفات والوسائط التي كان يراها آية على المدارج انتقل فانتقل منها
إلى المدارج ولم يلقها وإنما تعلق بما هي آية له، والعبارات التي كانت عنده ألفاظًا
خارجة عن المعبر عنه صارت أمارات توصله إلى الحقيقة المعبر عنها، فبهذه
الأركان الثلاثة يصير من أهل معرفة الذات عنده.
قوله: (وهذه [٥] معرفة الخاصة التي تؤنس من أفق الحقيقة) أي تُدرك
وتُحس من ناحية الحقيقة، والإيناس الإدراك والإحساس قال الله تعالى: {فَإِنْْ
آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء: ٦) ، وقال موسى: {إِنِّي
آنَسْتُ نَاراً} (القصص: ٢٩) والمقصود أن العارف إذا علق همه بأفق الحقيقة،
وأعرض عن الأسباب والوسائط لا إعراض جحود وإنكار بل إعراض اشتغال
ونظر إلى عين المقصود أوصله ذلك إلى معرفة الذات الجامعة لصفات الكمال،
والله سبحانه وتعالى أعلم.
***
فصل
قال: (الدرجة الثالثة معرفة مستغرقة في محض التعريف، لا يوصل إليها
الاستدلال، ولا يدل عليها شاهد، ولا تستحقها وسيلة، وهي على ثلاثة أركان:
مشاهدة القرب [٦] والصعود عن العلم، ومطالعة الجمع، وهي معرفة خاصة
الخاصة) إنما كانت هذه المعرفة عنده أرفع مما قبلها؛ لأن ما قبلها متعلقة بالوسائط،
والشواهد متصلة إلى المطلوب، وهذه متعلقة بعين المقصود فقط، طاوية
للوسائط والشواهد، فالوسائط صاعدة عنها إليه، وهي غالبة على حال العارف
وشهوده، وقد استغرقت إدراكه لما هو فيه بحيث غاب عن معرفته بمعروفه وعن
ذكره بمذكوره، وعن وجوده بموجوده.
فقوله: مستغرقة في محض التعريف والمعرفة صفة العبد وفعله، والتعريف
فعل الرب وتوفيقه، فاستغرقت صفة العبد في فعل الرب وتعريفه نفسه لعبده وقوله:
(لا يوصل إليها بالاستدلال) يريد أن هذه المعرفة في الدرجة الثالثة لا يوصل
إليها بسبب؛ فإن الأسباب قد انطوت فيها، والوسائل قد انقطعت دونها، فلا يدل
عليها شاهد غيرها، بل هي شاهد نفسها، فشاهدها وجودها ودليلها نفسها , ولا
تعجل بإنكار هذا فالأمور الوجدانية كذلك ودليلها نفسها وشاهدها حقيقتها، فتصير
هذه المعرفة للعارف كالأمور الوجدانية، كاللذة والفرح والحب والخوف وغيرها من
الأمور التي لا يطلب من قامت به شاهدًا عليها من سوى أنفسها.
ولعمر الله إن هذه درجة من المعرفة منيفة ورتبة شريفة تنقطع دونها أعناق
مطايا السائرين؛ فلذلك لا يوصل إليها بالاستدلال ولا يدل عليها شاهد ولا تستحقها
وسيلة، والأعمال والأحوال والمقامات كلها وسائل، وهي لا تستحق هذه الدرجة
من المعرفة، وإنما هي فضلُ مَنْ الفضلُ كله بيده وهو ذو الفضل العظيم؛ وكون
الوسائل المذكورة لا تستحقها لا تمنع من القيام بها على أتم الوجوه، وبذلك الجهد
فيها، ومع ذلك فلا تستحقها الوسائل.
قوله: (وهي على ثلاثة أركان: مشاهدة القرب والصعود عن العلم ومطالعة
الجمع) إنما كانت هذه الثلاثة أركانًا لها لأن صاحب هذه المعرفة قد وصل من
القرب إلى مقام يليق به بحسب معرفته فكلما كانت معرفته أتم كان قربه أتم؛ فإن
شهود الوسائط والوسائل حجاب عن عين القرب، وإلغاؤها وجحودها حجاب عن
أصل الإيمان، وأما صعوده عن العلم فليس المراد به صعوده عن أحكامه؛ فإن ذلك
سقوط ويزول إلى الحضيض الأدنى، لا صعود إلى المطلب الأعلى، وإنما المراد
أنه يصعد بأحكام العلم عن الوقوف معه وتوسيطه بينه وبين المطلوب؛ فإن
الوسائط قد طوي بساطها في هذا الشهود والعرفان، أعني بساط الوقوف معها
والنظر إليها؛ فيدرك مشهوده ومعروفه به سبحانه لا بالعلم وبالخبر، بل بالمشاهدة
والعيان، وإن كان لم يصل إلى ذلك إلا بالعلم والخبر؛ لكنه قد صعد من العلم إلى
المعلوم المخبر عنه.
وأما مطالعة الجمع فهي الغاية عند هذه الطائفة، ونحن لا ننكر ذلك لكن: أي
جمع هو؟ هل هو جمع الوجود كما يقوله الاتحادي؟ أم جمع الشهود كما يقوله
صاحب الفناء في توحيد الربوبية؟ أم هو جمع الإرادة كلها في مراد الرب تعالى
الديني الأمري؟ فالشأن في هذا الجمع الذي مطالعته من أعلى أنواع المعرفة، نعم
ها هنا جمع آخر مطالعته هي كل المعرفة، وهو جمع الأفعال في الصفات، وجمع
الصفات في الذات، وجمع الأسماء في الذات والصفات والأفعال، فمطالعة هذا
الجمع هي غاية المعرفة وأعلى أنواعها، وهي لعمر الله معرفة خاصة الخاصة،
والله المستعان، وبه التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله) . اهـ.
(المنار)
إن أكثر الناس يرون هذا الكلام غريبًا لا يكاد يُفْهَم، ويعدون هذه المعرفة
خيالية لا تكاد تُعقل، ومثل هؤلاء العارفين في نظر جمهور أهل العلوم النظرية
والفنون العملية كمثل خواص الأدباء الذين يتمتعون بجمال المعاني الدقيقة، متجلية
في العبارات الرشيقة، في نظر عوام أهل البلادة ذوي العي والفهاهة، أو كمثل
بعض أهل الذوق السليم، العاشقين لجمال هذا الكون العظيم يؤمون روضة غناء،
أو غابة غبياء، يسابقون إليها أشعة الشمس، ليمتعوا بجمالها الحس والنفس، في
نظر مجرم فظ، غليظ الطبع، لا يرى حظًّا من تلك الروضة إلا أن يجتث
أزهارها ويقطع أشجارها؛ ليتخذ الأولى علفًا لحماره، والثانية وقودًا لناره، أو
كمثل المغرمين بآلات الطرب، وسماع الألحان في العشق والأدب، في نظر
المتبتل أو العجوز الثاكل.
على أن جميع اللذات المعنوية ما أشرنا إليها منها وما لم نشر إليه، هي
مبادئ ووسائل لتلك اللذة الروحية العليا التي يجدها العارفون بالله تعالى، فكل ما
في الكون من الجمال والكمال فهو بعض جماله وكماله عز وجل، إذ هو صنع الله
الذي أتقن كل شيء، وكل طائفة من طوائف البشر المرتقية تتمتع بنوع من أنواع
جمال الكون والعارفون بالله هم الذين يتمتعون بكل نوع من تلك الأنواع تمتعًا أرقى
وأعلى من تمتع المنفردين بالارتقاء فيه، ويتمتعون بما هو أعلى من ذلك وأجل
وأكمل، وقد ضربنا لذلك المثل، والله أعلى وأجل.