للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السؤال والفتوى
بلوغ الدعوة لكفار العصر
(س ٦٢) محمود أفندي ناصف الصراف بسكة الحديد السودانية في
(حلفا) ذكرتم في الجزء السابع أن (كل من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه
وسلم على وجه صحيح فلم يؤمن به عنادًا للحق فهو خالد في النار) , وهذا يستلزم
أن تكون الدعوة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان يدعو المشركين
للإسلام ويفرض عليهم الجزية أو الحرب في حالة إبائهم كما هو وارد في القرآن
ومذكور في التاريخ، فما حكم من لم تبلغه الدعوة بلاغًا شرعيًّا من القوم المتأخرين،
وكيف حالهم في الآخرة عند الله وهم لم يُدْعَوا للإسلام، ولم تبلغهم الدعوة على
الوجه الشرعي الصحيح.
(ج) إن دعوة خاتم النبيين عامة فحكمها واحد في زمنه وفي كل زمن بعده
إلى يوم القيامة. فمن بلغته على وجه صحيح يحرك إلى النظر فلم ينظر فيها , أو
نظر وظهر له الحق فأعرض عنه عنادًا واستكبارًا؛ فقد قامت عليه حجة الله البالغة
ولا عذر له في يوم الجزاء إذا لم يُرَقِّ روحه ويزكِّ نفسه بها ليستحق رضوان الله
تعالى , ومن لم تبلغه بشرطها أو بلغته ونظر فيها بإخلاص ولم يظهر له الحق
ومات غير مقصر في ذلك فهو معذور عند الله تعالى , ويكون حاله في الآخرة
بحسب ارتقاء روحه وزكائها بعمل الخير أو تسفلها ودنسها بعمل الشر. والخير
والشر معروفان في الغالب لكل أحد لا يكاد يختلف الناس إلا في بعض دقائقهما. ويا
سعادة من يتحرى عمل كل ما يعتقده خيرًا واجتناب كل ما يعتقده شرًّا.
وما ذكر في السؤال من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفرض على
المشركين الجزية أو الحرب غير صحيح ولا هو في القرآن ولا في التاريخ، بل
سهو من السائل , فإنه صلى الله عليه وسلم دعا مشركي العرب إلى الإسلام بالحجة
فعاندوه وآذوه وأخرجوه من وطنه , ثم صاروا يؤذونه في مهاجره ويكرهون أتباعه
على الشرك , ويصادرونهم في أموالهم حتى إذا أقدره الله تعالى على الدفاع أنشأ
يجاهدهم حتى أظفره الله تعالى بهم , ولم تضرب الجزية على أحد من المشركين بل
هي خاصة بأهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس لأن لهم أديانًا تعرفهم بالله
وتأمرهم بالخير وتنهاهم عن الشر , وإن مازجتها نزغات الوثنية ونال منها
التحريف والتأويل، حتى ضل أهلها عن سواء السبيل.
***
إرادة الله وكسب الإنسان
(س ٦٣) أمين أفندي محمد الشباسي بسكة حديد (سواكن) كنت أتحدث
مع بعض أصدقائي في أحوال المسلمين من حيث ميلهم إلى الشر أكثر من الخير,
وتفننهم في المعاصي وعدم ميلهم إلى ما فيه خيرهم الدنيوي والأخروي. فقال بأن
هذه إرادة الله بنا. فقلت له: إن هذا شر والله لا يريد الشر وكيف يريده لنا دون
غيرنا؟ فقال: إننا نستحق ذلك في علمه أزلاً فهذه إرادته. فقلت: إن هذا باطل
فقد بين الله لنا طريقي الخير والشر في القرآن وجعل لكل سلوك جزاء، ومنحنا
العقل لأجل أن نميز بينهما , فاذا أسأنا استعمال ما وهبه لنا من القوى والهداية كنا
أشقياء في الدنيا والآخرة , وإذا أحسنا استعمالها كنا سعداء فيهما , ولكننا أسأنا
الاستعمال وصرفنا قوانا الحسية والعقلية إلى الشر. فقال: من الذي صرف قوانا
العقلية نحو أحد الأمرين؟ فقلت له: الحواس وما عندنا من الجزء الاختياري.
فقال: إن العقل أكبر شيء في الإنسان وباقي الحواس دونه , فلا يصح أن تتغلب
عليه بل الله عز وجل هو الذي حول قواك نحو إرادته , فلا يقع في ملكه إلا ما
أراده وأرضاه , ثم قرأ هذه الجملة وادعى أنها آية من القرآن وهي: (إنه لا يصدر
عن أحد من عبيده قول ولا فعل ولا حركة ولا سكون إلا بقضائه وقدره) ولم أقف
عليها في المصحف , فهل هي من القرآن؟ وفي أي سورة هي؟ وهل ما قاله
صحيح؟ وإذا كان كذلك فكيف يكون العذاب؟ نرجو الفصل بيننا بما أطلعك الله
... إلخ اهـ بتصرف يسير.
(ج) أما العبارة فليست من القرآن حتمًا , وعجبنا كيف خفي ذلك عليكم
والمصحف في أيديكم. على أن نظمها مخالف لنظم القرآن , وأزيدك أن لفظ
القضاء لم يرد في القرآن لا معرفًا ولا مضافًا ولا مجردًا , وأما المسألة المتنازع
فيها؛ فكل منكما أخطأ في بعض قوله فيها وأصاب في بعض , وكلامك أقرب إلى
الحقيقة , وكلامه أميل إلى التصورات النظرية، فقولك: إن الله لا يريد الشر مني
على أن الإرادة بمعنى الرضى , وذلك غير صحيح. وإنما الإرادة هي ما يخصص
الله به الممكنات ببعض ما يجوز عليها من الأمور المتقابلة. وقوله: إنه لا يقع في
ملكه إلا ما أراده ورضيه غير صحيح في الرضى. فإن الكفر يجري في ملكه وقد
قال في كتابه: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْر} (الزمر: ٧) ومن هنا تعرف أن فرقًا
بين الإرادة والرضى.
وحقيقة القول في المسألة: أن الله تعالى خلق الإنسان وأعطاه القوى البدنية
والنفسية والحواس الظاهرة والباطنة , وأقدره على الأعمال النافعة والضارة , وهداه
إلى التمييز بينها بالمشاعر والعقل والدين فهو يربي نفسه وعقله بكسبه. وأعماله
الاختيارية تابعة دائمًا لأفكاره العقلية وأخلاقه ووجداناته النفسية فهي كسبية تتبع
كسبيًّا , فمهما فسد التعليم والتربية كانت الأعمال قبيحة ضارة , ومهما صلح التعليم
والتربية كانت الأعمال صالحة نافعة حتمًا. هذا ما نشاهده من سير الإنسان منفردًا
ومجتمعًا فهو قطعي لا يقبل النزاع. وقام الدليل العقلي على أن هذا النظام الكامل
في الإنسان هو من مبدع الكائنات كلها , ولا تنافي بين الأمرين. والبحث عن كيفية
تعلق قدرة الله وإرادته في إقامة الإنسان أو غيره من الكائنات على ما هو عليه سفه
من العقل وبدعة في الدين. أما الأول فلأن العقل لا يقدر على اكتناء سر الإبداع
والتكوين , وأما الثاني فلأن الشرع نهانا عن الخوض في القدر لأنه فتنة تثير
الشكوك وتجر إلى الكفر وينتهي الأمر بصاحبها إلى أن يبرئ نفسه من ذنبه
وتقصيره , ويرمي به ربه عز وجل بذلك {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ} (الشورى: ٣٠) .
وغدا يعتب القضاء ولا عذ ... ر لعاص فيما يسوق القضاء
***
الشفاعة والأنداد
(س ٦٤) الشيخ أنور محمد يحيى شيخ عزب في (الترعة الجديدة من
الشرقية) :
يفهم من عبارة المنار في الجزء التاسع أن الأنداد على قسمين قسم يطلب منه
العمل بالاستقلال , وقسم يطلب منه أن يشفع عند الله تعالى وصرحتم بأن الشفيع
يكون ندًّا؛ لأنه يستنزل من يشفع عن رأيه ويحوله عن إرادته. فالذي يفهم من هذا
التصريح أن الذي يجب اعتقاده عدم الشفاعة عند الله تعالى مع أن الله قال في كتابه
العزيز: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: ٢٥٥) وقال {وَلاَ
يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: ٢٨) وقال اللقاني في جوهرته:
وواجب شفاعة المشفع ... محمد مقدمًا لا تمنع
وغيره من مرتضى الأخيار ... يشفع كما قد جاء في الأخبار
فهل يوجد نص في وجود الشفعاء؟ أرجو من حضرتكم بيان هذا الموضوع
على لسان مناركم جعلكم الله ملجأ لكل قاصد، ونجح لكم المقاصد.
(ج) قد سبق لنا في المنار بيان حقيقة الشفاعة , وأن من الآيات الكريمة ما
ينفي الشفاعة قطعًا كقوله تعالى: {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} (البقرة: ٢٥٤) وقوله: {
مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: ١٨) ومنها ما هو ظاهر في
جواز الشفاعة بإذن الله لمن ارتضاه وهي ليست نصوصًا قطعية في وقوعها , وأما
الأحاديث فهي صريحة في ثبوت الشفاعة في الآخرة , وهي آحاد لا يؤخذ بها
وحدها في العقائد , ويمكن حمل الآيات النافية للشفاعة والتي تحكيها عن عقائد
المشركين في معرض الإنكار كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ
وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: ١٨) على ما ينطبق على
الآيات والأحاديث التي تجيزها وتنطق بوقوعها , فلا يكون هناك تناقض ولا
تعارض , وذلك أن الشفاعة المنفية الممنوعة هي ما حكاه القرآن العزيز عن
المشركين وهي التي بمعنى الشفاعة عند الحكام لقضاء المصالح عند العجز عنها من
طرقها وأسبابها. والشفاعة الجائزة خاصة بالآخرة , وهي عبارة عن دعاء من
الشافع المشفع يأذن له به الله يستجيبه إظهارًا لكرامة عبده الشفيع، وقد سبق في
علمه القديم وتعلقت إرادته سبحانه بأن ما به الشفاعة كائن في وقته لا يتأخر ولا
يتقدم , فالشافع لم يغير شيئًا من علمه تعالى ولم يؤثر في إرادته ولم يحمله على
شيء لم يكن ليفعله لولاه.
ومن هذا التقرير يفهم أن ما عليه أكثر العامة من الاستشفاع بالأولياء أصحاب
القبور المعلومين والمجهولين لأجل دفع المكاره وجلب المنافع هو من النوع الأول
الذي يمنعه الدين , ويخل بالاعتقاد الصحيح بالله تعالى. فإنهم كثيرًا ما يصرحون
بتشبيه الشفاعة عند الباري تعالى بشفاعة المقربين من الملوك الظالمين لبعض
المجرمين , وتأثير شفاعتهم لهم. وهذا محال على الله تعالى, بل إن الملوك
العاديين الحكماء ما كانوا يقبلون شفاعة أحد , وإنما يعملون ما يعتقدون أنه الحق.
فتأمل.
***
المحرم بالرضاع
(س٦٥) أحمد أفندي المشد المحامي في (ملوي) : هل يحرم على
مرتضعٍ زواجُ جميع بنات مرضعته أم التي رضع معها فقط.
(ج) من رضع من امرأة صارت أمه وحرم عليه جميع بناتها , ولا يحرمن
على إخوته الذين لم يرضعوا منها، وإذا رضعت بنت من امرأة حُرِّمَ على جميع
أولاد المرأة التزوج بها دون سائر أخواتها اللائي لم يرضعن.
***
الكشف ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة
(س٦٦) الشيخ حاتم إبراهيم مأذون ناحية تندة التابعة (ملوي)
جرت بيني وبين بعض أهل العلم مناظرة في شأن أهل الكشف ورؤية النبي
عليه السلام يقظة , فأنكرتهما مستدلاًّ على نفي الأول بقوله تعالى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ
مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (النمل: ٦٥) , وقوله: {وَعِندَهُ
مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: ٥٩) وقوله: {عَالِمُ الغَيْبِ} (الجن
: ٢٦) ... إلخ وكثير من الآيات وحديث عائشة المشار إليه بقوله تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان: ٣٤) الآية. وما نسمعه ممن عدوا الولاية -
وهي حق كل تقي - حِرْفَةً؛ نوع من الكهانة كما أخبر عليه السلام حينما قيل له:
إنهم يقولون في الشيء: كن فيكون. وكما وقع له مع ابن صياد. وعلى نفي الثاني
بأنه عليه السلام مدفون بحيث لو استكشف لرؤي نائمًا , وحياته البرزخية لا نشعر
بها , فلا كلام فيها , وبأن ذلك لو كان جائزًا لكانت عائشة التي قبره في بيتها أجدر
بذلك , ولكان من اللازم إرشاد الصحابة حينما اشتعلت بلادهم فتنًا وتقاتلت أئمتهم
وتفرقت جماعتهم. وبالجملة فلم يؤثر عن الصحابة والتابعين وتابعيهم أنهم رأوه
يقظة وما يزعمه أهل الطرق من أن الرفاعي قبَّل اليد الشريفة فليس بأول أكذوبة
لهم. وادعى هو إثباتهما مستدلاًّ بأن الكشف وقع من الصالحين الذين لا يظن فيهم
الكهانة كعبد العزيز الدباغ والسيد البدوي والدسوقي وكثير من الأولياء وأن عمر
بن الخطاب رضي الله عنه نادى وهو على المنبر: يا سارية الجبل. وأنى يكون
ذلك بدون كشف , وبأن الرؤية حصلت لكثير من الأولياء كما صرح بذلك (الإبريز) .
ولا مانع من ذلك فإنها من الكرامات , وزعم أن الشيخ محمد عبده ادّعى ذلك ,
فنرجو من سيادتكم تثبيتنا على أمر موافق للعقل والنقل كما هو شأنكم في تربية
المسلمين.
(ج) إنك لست مكلفًا بأن تصدق بما ينقل من الكشف ومن رؤية النبي صلى
الله عليه وسلم في اليقظة. والكشف ضرب من علم الغيب في الظاهر , وقد رأيت
ما كتبناه فيه في جواب الأسئلة الزنجبارية وقبلها , وقد وعدنا بأن سنزيده تفصيلاً
فانتظر ذلك.
وأما الرؤية فقد كتبنا في كتابنا (الحكمة الشرعية) ما نقل فيها عن الصوفية
والعلماء وما يحكم به العقل والدين مفصلاً في عدة كراريس , ولعلنا نلخص ذلك في
الكلام على بقية أنواع الكرامات. وإنك لتجد الآن غناء في بحث رؤية الأرواح إذا
راجعته في المجلد السادس.
واعلم أن البحث في هذه المسألة علمي لا ديني إذ الدين لم يكلفنا باعتقاد أن
الناس يرون الأرواح المجردة , ولكن نقل ذلك عن كثير من الناس ثلة من الأولين
وقليل من الآخرين , واختلف فيه: هل هو حقيقي أو خيالي؟ وبعض الصوفية
يقول: إنه لا يكون في اليقظة , ولكن في حال بين اليقظة والنوم. وقد سلك
الإفرنج له طريقًا صناعية , ولكن الاستعداد له متفاوت وفاقًا بينهم وبين المتقدمين ,
ولا يزال أمرهم فيه مبهمًا كما أشرنا إلى ذلك من قبل. وإذا ثبت أن لمعرفة بعض
المغيبات سببًا طبيعيًّا وَجَبَ استثناؤه من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ,
ويمكن أن يقال: إنه ليس بغيب حقيقي؛ لأننا إذا قلنا: إن الغيب كل ما غاب عنك؛
كان أكثر الموجودات المجهولة غيبًا , وكان لا سبيل إلى معرفة مجهول قط
فوجب إذًا أن يراد بالغيب ما لا طريق لمعرفته بكسب البشر لا من طريق المشاعر
ولا من طريق العقل والروح , ويخرج بهذا ما يعرف الآن قبل ظهوره من الأحداث
كالأنواء والزلازل بواسطة آلات طبيعية , وما يعرف بالحساب كالخسوف
والكسوف , ويقاس على ذلك كل ما له طريق طبيعي يوصل إليه بالسير عليه ولو
روحانيًّا. وبهذا التقرير نُكْتََفى مؤنة البدعة في الدين، ونقطع الطريق على
الدجالين، ولا نقطع طريق العلم ولا اجتهاد الإنسان في إظهار مواهبه الروحانية.
***
شرب اللبن في يوم الأربعاء
وأكل السمك في يوم السبت
(س ٦٧) أحمد أفندي صبحي في (أشمون) نرى كثيرًا من إخواننا
المسلمين (وهم العامة وقليل من غيرهم) يقولون: إن شرب اللبن يوم الأربعاء
وأكل السمك يوم السبت مكروه شرعًا , وورد فيهما أحاديث شريفة , وهذا الاعتقاد
متمكن فيهم لا يتحولون عنه. فنرجو الإفادة: هل ورد فيه شيء في السنة؟ فإن لم
يكن فمن أين سرى إلى المسلمين؟ ونسأله تعالى أن لا يحرمنا من وجودكم.
(ج) ليس في هذه المسألة حديث مروي , وإنما سرت إلى المسلمين من
أهل الكتاب اليهود والنصارى مسألة السبت من الأولين , ومسألة شرب اللبن من
الآخرين , فإننا نرى طوائف منهم لا يشربون اللبن ولا يأكلونه مطبوخًا في يوم
الأربعاء. وسمعت بعض العامة ينسب إلى علي كرم الله وجهه أنه قال: ما
استسمكت في سبتها قط ولا استلبنت في أربعائها قط ... إلخ ومرادهم ظاهر ,
والعبارة ليست بعربية فضلاً عن كونها مأثورة عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه.
***
الاستشفاء بجلوس النساء والأطفال تحت المنبر
(وحال الخطباء والأئمة في بلاد مصر)
(س ٦٧) حامد أفندي البكري في (دمياط) دخلت مسجد شطا يوم جمعة
للصلاة فلما صعد الإمام المنبر , وحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله
عليه وسلم؛ بكى صغير تحت المنبر وصاح , فشوش على الناس , فقرع الإمام
المنبر بالسيف مرات متواليات , ورفع صوته بما يقول , فلم يسكت الصغير ,
ولم يقم أحد لأخذه , فقال الإمام: أما فيكم أحد يأخذ هذا الصغير؟ أخرجوه ومن
معه , فقام رجل وأخذه وأخرج معه ثلاث نسوة بعد جلوس طويل انتهى بنزوله ,
وقوله لهن: والله إن لم تخرجن لأضربنكن بالسيف , فوقفت إحداهن بالصغير أمام
المنبر بين الناس , فقال: أخرجوها هي ومن معها , فإن هذه بدع ولا يجوز
دخولهن في مساجد الله بهذا الشكل، فصاح عليه أحد سكان هذه القرية قائلاً:
أنت مالك ومالها.
فقال له: اسكت. فجاوبه الرجل بقوله: (دانت موش عالم هو انت إمام ,
والله نطلعك من هنا هي صلاتنا وراك راح تدخلنا الجنة) فنزل الإمام وقال له:
صل بالناس. فقمت أنا وواحد صاحبي وصالحناه , فصعد المنبر , وأردنا ملاطفة
الثاني فلم يزده ذلك إلا نفورًا حتى قال: (أنا موش عاوز أصلي وراك ولا انا عاوز
الجنة اللي جايه لنا من صلاتنا وراك، والله ما عُتُّ مصلي وراك يا راجل انت)
فمانعته الخروج خوفًا عليه من ارتكاب هذا الإثم , فأبى إلا تنفيذ يمينه. حصل
ذلك , والناس قد هاجوا وعلا ضجيجهم , والإمام يقول: لا تفوتنا الصلاة فإنها
تمتد إلى قبيل العصر. فلما سكت الناس خطب وصلى بهم , فسألت عن جلوس
النسوة تحت المنبر , فقيل لي: إن الصغير مريض , والنساء يعتقدن أنه يبرأ
بجلوسهن به تحت المنبر أثناء الخطبة. فهل أصاب الإمام في عمله أم أخطأ؟
وما جزاء هذا الآثم؟ وما رأيكم في هذا الاعتقاد؟ وهل ورد أن يكون للمنبر بابان
متقابلان كما تعهدون في المنابر؟ أفيدونا أفادكم الله.
(ج) أصاب الإمام في منع النساء والأطفال من القعود تحت المنبر
للاستشفاء , وأخطأ ذلك الجاهل المعارض له , وما قاله يشبه أن يكون هزؤًا بالدين
واستخفافًا واحتقارًا للجنة. ولبعض الفقهاء كلام في تكفير من يستهزئ بالعبادة
وبالجنة أو النار , وإذا لم يكن مثل هذه الأقوال مما يرتد به المسلم فهو مما لا
يصدر عادة عن عارف بالدين يذعن له ويحترمه , وأكثر هؤلاء المقلدين لا سلطان
للدين على عقولهم وقلوبهم , وإنما يصلي أحدهم لأنه تعود على هذه الحركات التي
يسمونها صلاة , فإذا عارض الصلاة هواه أو غضبه تركها بلا مبالاة. وينبغي
للناس احترام إمامهم وخطيبهم ما داموا راضين بإمامته , ولكن الحكام هم السبب في
احتقار الناس لأئمة الصلاة والخطباء لأنهم يعهدون بهذا المنصب الذي هو من
مناصب ورثة الأنبياء إلى الفقراء الجهلة , ولو جعلوهم من العلماء المدرسين ,
وجعلوا رواتبهم كافية مانعة من احتياجهم إلى الطمع في الصدقات لاحترمهم الناس
وكان في احترامهم إعلاء لشأن الدين. ألا ترى أن ذلك الأحمق قد أنكر على
الخطيب , وأظهر احتقاره وعدم العمل بما أمر به محتجًّا عليه بأنه غير عالم. ومن
تدبر أمثال هذه الوقائع يتجلى له ما في مشروع الأستاذ الإمام في إصلاح المساجد
من الفائدة , ولكن أهواء السياسة قد هبت من قصر الإمارة على لائحة ترتيب
المساجد فنسفتها وألقتها في قصر الدوبارة وصار الأمر فيها إلى اللورد كرومر ولا
يدري إلا الله ما هو صانع فيها. أما جعل المنبر بالكيفية المعروفة فليس له أصل
في الدين فلا مانع منها ولا مقتضي لها.
***
استيئاس الرسل عليهم السلام
(س ٦٧) ومنه: عرضت لي شبهة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ
الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ
القَوْمِ المُجْرِمِينَ} (يوسف: ١١٠) فأرجو توضيح المراد منها.
(ج) الأظهر المنطبق على قواعد العقائد أن المراد باستيئاس الرسل يأسهم
من إيمان قومهم , وفي قوله تعالى: {كُذِبُوا} (يوسف: ١١٠) بضم الكاف
قراءتان سبعيتان إحداهما بتشديد ذال (كذبوا) ولا إشكال فيها والثانية بالتخفيف.
وفي تطبيق القواعد عليها وجهان: أحدهما أن الضمير في (ظنوا) لأقوام الرسل ,
أي ظن الأقوام أنهم كذبوا فيما أوعدوا به من وقوع العذاب عليهم، وثانيهما: أن
الضمير للرسل , وكذبوا ههنا بمعنى تمنوا أو بمعنى وجب عليهم الأمر , ومعناه
كذبتهم أنفسهم فيما تمنوا وأملوا , أي خابت آمالهم في قومهم أو في كيفية انتقام الله
لهم. قال في القاموس: وكذب قد يكون بمعنى وجب , ومنه: (كذب عليكم الحج
كذب عليكم العمرة، كذب عليكم الجهاد , ثلاث أسفار كذبن عليكم) أو من كذبته
نفسه إذا منته الأماني , وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون. وقال في الأساس:
وكذب نفسه وكذبته نفسه إذا حدثته بالأماني البعيدة والأمور التي لا يبلغها وسعه
ومقدرته. والمعنى حتى إذا يئس الرسل من إيمان قومهم وظنوا - أي أيقنوا - أن
أمانيهم في إيمانهم وآمالهم في قبولهم الدعوة ضائعة جاءهم نصرنا.
وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها قراءة التخفيف فقد روى البخاري وغيره
من طريق عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن هذه الآية قال: قلت: أَكُذِبُوا
(بالتخفيف) أم كُذِّبُوا (بالتشديد) ؟ فقالت: بل كُذِّبُوا - تعني بالتشديد - قلت:
والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن. قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا
بذلك. قلت: لعلها كُذِبُوا (مخففة) قالت: معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها.
قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بهم وصدقوهم , وطال
عليهم البلاء , واستأخر عنهم النصر حتى اذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم,
وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك.
وقرأ بعض الصحابة: (كَذَبُوا) بالتخفيف مبنيًّا للمعلوم , وهي قراءة مجاهد
أي أيقن قومهم أنهم كذبوا. والظن يستعمل في الفصيح بمعنى اليقين وبمعنى الوهم
وحديث النفس , والقرائن هي التي تعين ولذلك حمل بعضهم الظن هنا على حديث
النفس , وله شواهد من اللغة.
***
جنة آدم
(س ٦٨) ومنه: هل الجنة التي هبط منها آدم هى الجنة التي وعد المتقون
في الدار الآخرة أم هي جنة من جنات الدنيا؟ واذا كانت الثانية فما معنى قوله
تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} (البقرة: ٣٦) .
(ج) إن جنة آدم ليست هي دار الجزاء في الآخرة , ولك أن تراجع
تفصيل ذلك في تفسير قصة آدم (في ص ٢٠٣ من مجلد المنار الخامس) وفيه أن
المختار عدم البحث عن مكانها , وأن معنى {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى
حِينٍ} (البقرة: ٣٦) أن إقامتكم في الأرض محدودة خلافًا لزعم الشيطان أن
الشجرة التي أكلتم منها هي شجرة الخلد وملك لا يبلى. ولا ينافي هذا أن تكون
الجنة في الأرض , وهناك كلام في كون القصة تمثيلاً فراجعوه.
***
التوسل بالأنبياء والأولياء
(س ٦٨) كثر كلامنا في هذه المسألة , ولا يزال الناس يسألون عنها وقد
وقفنا قبل إتمام طبع هذه الجزء من المنار على فتوى فيها للأستاذ الإمام فألحقناه
بباب فتاوى المنار وهي فصل الخطاب وهذا نصها:
فضيلتلوا أفندم مفتي الديار المصرية متعنا الله بوجوده آمين.
أبدي أنه قد بلغني أن بعض الناس كتب إلى فضيلتكم سؤالاً يدعي فيه أني
أنكرت جاه النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل به إلى الله تعالى وبأوليائه رضوان
الله عليهم أجمعين , والحقيقة أني لم أنكر شيئًا من ذلك ولم أتكلم به , بل الحقيقة أنه
سألني جمع من الناس عن حقيقة ما يعتقدونه ويقولونه بألسنتهم من التوسل بجاه
النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل بأوليائه معتقدين أن النبي أو الولي يستميل
إرادة الله تعالى عما هي عليه كما هو المعروف للناس من معنى الشفاعة والجاه عند
الحكام، وأن التوسل بهم إلى الله تعالى كالتوسل بأكابر الناس إلى الحكام. فلما
رأيت منهم ذلك , وأن هذا أمر مخل بالعقيدة كما تعلمون , وأن قياس التوسل إلى
الله تعالى على التوسل بالحكام محال؛ فأجبتهم بما أعتقده وأدين الله به من تقرير
عقيدة التوحيد هي أنه لا فاعل ولا نافع ولا ضار إلا الله تعالى، وأنه لا يدعى معه
أحد سواه كما قال تعالى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: ١٨) وأن النبي
صلى الله عليه وسلم , وإن كان أعظم منزلة عند الله تعالى من جميع البشر وأعظم
الناس جاهًا ومحبة وأقربهم إليه , ليس له من الأمر شيء , ولا يملك للناس ضرًّا
ولا نفعًا ولا رشدًا ولا غيره كما في نص القرآن , وإنما هو مبلغ عن الله تعالى ولا
يتوسل إليه تعالى إلا بالعمل بما جاء على لسانه صلى الله عليه وسلم واتباع ما كان
عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون من هديه وسنته , وأنه لا سبب لجلب
المنافع ودفع المضار إلا ما هدى الله الناس إليه , ولا معنى للتوسل بنبي أو ولي إلا
باتباعه والاقتداء به يرشدنا إلى هذا كثير من الآيات الواردة في القرآن العظيم كقوله
تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: ٣١)
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} (الأنعام: ١٥٣) إلى غير ذلك من الآيات.
هذا هو اعتقادي , وهو الذي قلته للناس , فإن كنتم ترون فيه خطأ فأرجو بيانه ,
وإن كان هو الصواب فأرجو إقراري عليه كتابة لأدافع بذلك من أساء بي الظن
لازلتم هادين مهديين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد موسى
... ... ... ... ... ... ... ... من محلة فرنوي بحيرة
جواب المفتي
(ج) بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم اعتقادك هذا هو الاعتقاد الصحيح ولا يشوبه شوب من الخطأ , وهو ما يجب
على كل مسلم يؤمن بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أن يعتقده , فإن الأساس
الذي بنيت عليه رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو هذا المعنى من التوحيد
كما قال الله له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} (الإِخلاص: ١-٢) والصمد
هو الذي يقصد في الحاجات , ويتوجه إليه المربوبون في معونتهم على ما يطلبون,
وإمدادهم بالقوة فيما تضعف عنه قواهم , والإتيان بالخبر على هذه الصورة يفيد
الحصر كما هو معروف عند أهل اللغة , فلا صمد إلا هو , وقد أرشدنا إلى وجوب
القصد إليه وحده بأصرح عبارة في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: ١٨٦) وقد قال الشيخ محيي الدين بن
عربي شيخ الصوفية في صفحة ٢٢٦ من الجزء الرابع من فتوحاته عند الكلام على
هذه الآية: (إن الله تعالى لم يترك لعبده حجة عليه، بل لله الحجة البالغة , فلا
يُتَوسل إليه بغيره فإن التوسل إنما هو طلب القرب منه، وقد أخبرنا الله أنه قريب
وخبره صدق) اهـ ملخصًا.
على أن الذين يزعمون جواز شيء مما عليه العامة اليوم في هذا الشأن إنما
يتكلمون فيه بالمبهمات , ويسلكون طرقًا من التأويل لا تنطبق على ما في نفوس
الناس , ويفسرون الجاه والواسطة بما لا أثر له في مخيلات المعتقدين , فأي حالة
تدعوهم إلى ذلك وبين أيديهم القرون الثلاثة الأولى , ولم يكن فيها شيء من هذا
التوسل ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه. وكتب السنة والسير بين أيدينا شاهدة بذلك,
فكل ما حدث بعد ذلك؛ فأقل أوصافه أنه بدعة في الدين , وكل بدعة ضلالة , وكل
ضلالة في النار. وأسوأ البدع ما كان فيه شبهة الإشراك بالله , وسوء الظن به كهذه
البدع التي نحن بصدد الكلام فيها. وكأن هؤلاء الزاعمين يظنون أن في ذلك
تعظيمًا لقدر النبي صلى الله عليه وسلم أو الأنبياء والأولياء. مع أن أفضل التعظيم
للأنبياء هو الوقوف عند ما جاءوا به , واتقاء الزيادة عليهم فيما شرعوه بإذن ربهم,
وتعظيم الأولياء يكون باختيار ما اختاروه لأنفسهم. وظَنُّ هؤلاء الزاعمين أن
الأنبياء والأولياء يفرحون بإطرائهم وتنظيم المدائح وعزوها إليهم , وتفخيم الألفاظ
عند ذكرهم , واختراع شئون لهم مع الله لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله
ولا رضيها السلف الصالح؛ هذا الظن بالأنبياء والأولياء هو أسوأ الظن لأنهم
شبهوهم في ذلك بالجبارين من أهل الدنيا الذين غشيت أبصارهم ظلمات الجهل قبل
لقاء الموت , وليس يخطر بالبال أن جبارًا لقي الموت وانكشف له الغطاء عن أمر
ربه فيه يرضى أن يفخمه الناس بما لم يشرعه الله فكيف بالأنبياء والصِّدِّيقين.
إن لفظ الجاه الذي يضيفونه إلى الأنبياء والأولياء عند التوسل مفهومه العرفي
هو السلطة , وإن شئت قلت: نفاذ الكلمة عند من يستعمل عليه أو لديه , فيقال:
فلان خَلَّصَ فلانًا من عقوبة الذنب بجاهه لدى الأمير أو الوزير مثلاً. فزَعْم أن
لفلان جاهًا عند الله بهذا المعنى إشراك جلي لا خفي , وقلما يخطر ببال أحد من
المتوسلين معنى اللفظ اللغوي , وهو المنزلة والقدر , على أنه لا معنى للتوسل
بالقدر والمنزلة في نفسها لأنها ليست شيئًا ينفع , وإنما يكون لذلك معنى لو أولت
بصفة من صفات الله كالاجتباء والاصطفاء , ولا علاقة لها بالدعاء , ولا يمكن
لمتوسل أن يقصدها في دعائه , وإن كان الألوسي المسكين بنى تجويز التوسل بجاه
النبي خاصة على ذلك التأويل , وما حمله على هذا إلا خوفه من ألسنة العامة
وسباب الجهال , وهو مما لا قيمة له عند العارفين. فالتوسل بلفظ الجاه مبتدع بعد
القرون الثلاث , وفيه شبهة الشرك والعياذ بالله , وشبهة العدول عما جاء به رسول
الله صلى الله عليه وسلم , فلِمَ الإصرار على تحسين هذه البدعة.
يقول بعض الناس: إن لنا على ذلك حجة لا أبلغ منها وهي ما رواه الترمذي
بسنده إلى عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال: إن رجلاً ضرير البصر أتى النبي
صلى الله عليه وسلم , فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: إن شئت دعوت وإن
شئت صبرت فهو خير لك. قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء,
ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة , إني
توجهت بك إلى ربي ليقضي لي في حاجتي هذه , اللهم فشفعه فيّ. قال الترمذي:
وهو حديث حسن صحيح غريب.
ونقول أولاً: قد وصف الحديث بالغريب , وهو ما رواه واحد ثم يكفي في
لزوم التحرز عن الأخذ به أن أهل القرون الثلاثة لم يقع منهم مثله , ووهم أعلم منا
بما يجب الأخذ به من ذلك , ولا وجه لابتعادهم عن العمل به إلا علمهم بأن ذلك من
باب طلب الاشتراك في الدعاء من الحي , كما قال عمر رضي الله عنه في حديث
الاستسقاء: (إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا , وإنا نتوسل
إليك بعم نبيك العباس فاسقنا) قال ذلك رضي الله عنه والعباس بجانبه يدعو الله
تعالى , ولو كان التوسل ما يزعم هؤلاء الزاعمون؛ لكان عمر نستسقي ويتوسل
بالنبي صلى الله عليه وسلم , ولا يقول: كنا نستسقي بنبينا , والآن نستسقى بعم
نبيك , وطلب الاشتراك في الدعاء مشروع حتى من الأخ لأخيه , بل ويكون من
الأعلى للأدنى كما ورد في الحديث , وليس فيه ما يخشى منه , فإن الداعي ومن
يشركه في الدعاء وهو حي كلاهما عبد يسأل الله تعالى , والشريك في الدعاء
شريك في العبودية , لا وزير يتصرف في إرادة الأمير كما يظنون {سُبْحَانَ رَبِّكَ
رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: ١٨٠) .
ثم المسألة داخلة في باب العقائد لا في باب الأعمال. ذلك أن الأمر فيها
يرجع إلى هذا السؤال: (هل يجوز أن نعتقد بأن واحدًا سوى الله يكون واسطة
بيننا وبين الله في قضاء حاجاتنا أو لا يجوز) أما الكتاب فصريح في أن تلك العقيدة
من عقائد المشركين , وقد نعاها عليهم في قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ
يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: ١٨) , وقد جاء
في السورة التى نقرؤها كل يوم في الصلاة: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) فلا
استعانة إلا به , وقد صرح الكتاب بأن أحدًا لا يملك للناس من الله نفعًا ولا ضرًّا ,
وهذا هو التوحيد الذي كان أساس الرسالة المصطفوية كما بينا , ثم البرهان العقلي
يرشد إلى أن الله في أعماله لا يقاس بالحكام وأمثالهم في التحول عن إراداتهم بما
يتخذه أهل الجاه عندهم؛ لتنزهه جل شأنه عن ذلك , ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى
هذه العقيدة فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين إما بالمقدمات العقلية
البرهانية أو بالأدلة السمعية المتواترة , ولا يمكنه أن يتخذ حديثًا من حديث الآحاد
دليلاً على العقيدة مهما قوي سنده , فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث
الآحاد لا تفيد إلا الظن {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: ٣٦) والله
أعلم.
في ٢٧ جمادى الثانية سنة ١٣٢٢ ... ... ... ... محمد عبده