للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مصاب مصر والشام
برجال العلم وحملة الأقلام

٢- الشيخ حسن المدور
هو من بيت معروف في بيروت. اشتغل من أول نشأته بطلب العلوم العربية
والشرعية، وصحب الأستاذ الإمام أيام هجرته في بيروت وتلقى عنه، فاستنار
عقله، وأشرب حب الإصلاح في قلبه، ولكنه كان يداري الجامدين، ويخاف شر
المستبدين، فلهذا لم ينهض بالدعوة إلى الإصلاح، ولم يقم بمظاهرة الظاهرين بها
في زمن الاستبداد، على أنه كان يدرس ويفيد الطلاب باعتداله ورويته، وقد رغب
إليَّ منذ سنتين أن أرسل إليه ما طبع من تفسير القرآن الحكيم؛ ليقرأه درسًا في
الجامع الكبير، فلم أبادر في إرساله إليه، فكنت في ذلك مخطئًا، وما كنت ألتمسه
لنفسي من العذر في التأخير كان ضعيفًا.
وكان الفقيد كريم الأخلاق، حسن المعاشرة واسع الحلم، شديد الاحتياط في
أموره، فوجود فقيه مثله في بيروت كان ضروريَّا؛ إذ كان رحمه الله تعالى وسطًا
بين تشديد الجاهدين، وشذوذ المتساهلين المفرطين، فهو من الأفراد الذين لا
تستغني أمتنا الإسلامية في قطر ولا مصر عن واحد أو آحاد منهم في هذا العصر -
عصر التحول والانقلاب. وقد كان مسلمو بيروت مستفيدين من هذه المزية من
مزاياه وإن لم يعرفها له الجمهور منهم.
وقد صار في العهد الأخير أمينًا للفتوى في بيروت؛ فكان خير عون وظهير
لمفتيها لهذا العهد صديقنا الشيخ مصطفى نجا، ويسوؤنا أننا لا نعرف من ترجمة
هذا الصديق شيئًا كثيرًا نثبته في ترجمته؛ ليكون ذكرًا باقيًا له، فنحن نعلم أنه كان
يفيد طلاب العلم والمستفتين بعلمه وعقله وأدبه. ولا ندري أكتب شيئًا من الكتب
والرسائل المفيدة أم لا. وقد خسرت بيروت بفقده خسارة لا عوض لها الآن عنها،
لضعف الاشتغال بالعلوم الدينية فيها. وهو قد دخل في العقد السادس من عشرات
سني عمره، وكان جيد الصحة، فعرض له المرض أيامًا معدودات انتهت بأجله،
رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
***
٣- الشيخ محيي الدين الخياط
ولد بمدينة صيدا في رجب سنة ١٢٢٩ فكانت وفاته في أواخر السنة القمرية
المتممة للأربعين، ورأينا في بعض جرائد بيروت التي أَبَّنَتْهُ أن والده من السلالة
العلوية، وأنه لرغبته عن التفاخر بالأنساب لم يكن يعرف عنه كلمة تدل على ذلك،
وأن أمه ألبانية الأصل، وكانت كريمة الخلق ذكية الفؤاد، فهي التي تولت تربيته
وعنيت بتعليمه. وقد تعلم التعليم الابتدائي في مدرسة لجمعية المقاصد الخيرية في
بيروت، وتلقى بعض علوم الأدب والدين عن الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي
والشيخ يوسف الأسير البيروتي اللذين انتهت إليهما رئاسة العلوم العربية والشرعية
في بيروت. ثم كان جل تحصيله بجده واجتهاده في المطالعة والمراجعة والتعليم،
وعين بالكتابة العصرية ونظر الشعر فكان في الرعيل الأول من فرسانهما في وطنه،
وعلم في بعض المدارس، وحرر في عدة جرائد، وألف عدة كتب قرظها المنار
في أزمنة نشرها، حتى صار أشهر شبان النهضة الإسلامية في بيروت.
لقيته في بيروت قبل هجرتي إلى مصر، فإذا هو شاب يتدفق غيرة على
الأمة وشعورًا بسوء حالها، وشدة حاجتها إلى الإصلاح ومجاراة الأمم الحيّة. ولما
أنشأت المنار جعلته وكيلاً له في بيروت وما يتصل بها، فقبل ذلك بالارتياح،
وكان مغتبطًا بالمنار أشد الاغتباط، على ما كان في ذلك من الخطر والتعرض لأذى
الحكومة الحميدية، ولكنه عهد بعد ذلك بتوزيعه وجمع مال اشتراكاته لصاحب له
من ذوي المطامع الدنيئة وفاسدي الأخلاق، فغشنا به - غير متعمد - عدة سنين
سامحه الله وعفى عنه.
كان الفقيد صاحب همة علية، وحب للاستقلال الفكري والحرية، وميل شديد
للسياسة، ولو أتيح له أن يعيش في بلاد كتاب العصر المصلحين. ولكنه كان
ضعيف الثقة باستقلال نفسه في العمل، فلم يتجرأ على الهجرة ولا على النهوض
بعمل مستقل غير مضمون الربح، ولهذا باع قلمه لأصحاب الجرائد بالأجرة مراعيًا
مشاربهم ومذاهب سياستهم فيها، فكان لا يؤلف كتابًا إلا بعد أن يتعاقد مع رجل
يطبعه على نفقته، ويكون ملكًا لطابعه من دونه، وكان الباعث له على ذلك الحاجة
إلى المال، وحب التعجل بربح قطعي بلا نفقة ولا انتظار، وكان من لوازم هذه
الطريقة من الكسب بالقلم اختيار ما يروج عند الطابعين وسرعة التأليف، فالوقوف
به عند حد في استطاعة المؤلف ما هو أعلى منه، ولولاها لم يحصر جُلَّ ما كتبه
في كتب التعليم الابتدائي، فإنه لم يؤلف إلا كتب دروس التاريخ الإسلامي والعربية
والفقه والمطالعة للمدارس الابتدائية. وعلّق على ديواني أبي تمام وابن المعتز
تفسيرًا لغريبهما، سلك فيه مسلك الاختصار المخل، وأوقعه الاستعجال في كثير
من الغلط، على أنه كان من أحرص كتاب العصر على ضبط اللغة وصحة العبارة،
والثقة مما يضبطه بدقة المراجعة.
فكان يضاهي الشيخ إبراهيم اليازجي في هذا. وكان يعرف اللغة التركية،
وترجم عنها قصة (الوطن) لنامق كمال بك الشهير. وكان يرجى من خدمته للغة
العربية ما هو أعظم من ذلك، ولكن كان من سوء حظ الأمة العربية أن فقدته عندما
بلغ أشده واستوى، وقوي في إتقان خدمة الأمل والرجاء عرضت له حمى وهو
في عنفوان قوته، فقضت في أسبوع واحد على حياته، فخسرت بفقده الأمة العربية
قلمًا سيّالاً، وذهنًا جوالاً، وهمة لا تعرف ملالاً ولا كلالاً.
***
٤- الشيخ محمد جمال الدين القاسمي
هو علامة الشام، وبادرة الأيام، والمجدد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعمل
والتعليم، والتهذيب والتأليف، وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف، والارتقاء
المدني الذي يقتضيه الزمن، الفقيه الأصولي، المفسر المحدث، الأديب المتفنن،
التقي الأواب، الحليم الأواه، العفيف النزيه، صاحب التصانيف الممتعة، والأبحاث
المقنعة، صديقنا الصفي، وخلنا الوفي، أخونا الروحي، قدّس الله روحه، ونوّر
ضريحه، وأحسن عزاءنا عنه.
نشأ الفقيد في بيت من بيوت العلم والدين في دمشق الشام، ولد سنة ثلاث
وثمانين ومئتين وألف. وتلقى مبادئ العلوم العربية والشرعية عن والده الشيخ سعيد
ابن الشيخ قاسم الملقب بالحلاق، والقاسمي نسبة إلى الشيخ قاسم هذا.
ووالدته علوية يتصل نسبها بنسب الشيخ إبراهيم الدسوقي الشهير. وقد عني
الفقيد في آخر عمره بإثبات هذا النسب، وكتب له شجرة، وجاء مصر في العام
الماضي لشؤون تتعلق بذلك فسررنا بلقائه، وجددنا ما لا تخلقه الأيام من عهود إخائه.
وكتبنا له كما أحب كلمات على نسبه. وقد صار بعض تلاميذه وأصحابه
يطلقون عليه لقب (السيد) بعد تحرير هذا النسب؛ بناء على القول بعموم شرف
الأسباط. ولكن العرف الذي عليه أكثر المسلمين على خلاف هذا القول.
والكثيرون من أهل سوريا يطلقون لقب (السيد) على من ليس له لقب علمي ولا
رسمي، ولعل ذلك من نزغات الأمويين، في هضم حقوق العلويين، والشيخ غني
عن هذا اللقب، الذي لا يفهم المراد منه أحد.
وقد تلقى العلوم المتداولة في الشام عن الشيخ بكري العطار أشهر علمائها
وفقهاء الشافعية فيها، وكان يحضر مجالس الأستاذ الكبير الشيخ عبد الرزاق
البيطار مجدد مذهب السلف في الشام، وقد استفاد من علمه وعقيدته الأثرية وهديه
وأخلاقه المرضية، ما لم يستفده من غيره، وصحب الأستاذ المعنّ المفنّ الشيخ
طاهراً الجزائري، فاستفاد من صحبته علمًا بحال العصر، ومعرفة بنوادر الكتب
وغرائب المسائل، وصحب العالم المستقل الشيخ سليم البخاري، وأترابًا من خيرة
شبان العصر المدنيين كرفيق بك العظم ومحمد أفندي كرد علي وغيرهما وجماعتهم.
فكان لصحبة هؤلاء الشيوخ والشبان - وهم خير من أنبتت الشام في هذا الزمان -
تأثيرًا عظيمًا في حياته العلمية، من حيث فتحت لاستعداده الفطري،
واستقلاله الوهبي، أبواب البحث والتحقيق، وعدم الوقوف عن المسلمات من
التقاليد، ونبهته إلى حاجة الأمة إلى الإصلاح المدني كحاجتها إلى الإصلاح الديني
وجاء مصر مع الأستاذ البيطار - على عهد الأستاذ الإمام - فاغتبطا بلقائه واغتبط
بلقائهما، وصارت المكاتبة بعد ذلك متصلة بينه وبينهما. وإنما كان جمال الدين
ذلك الرجل بجوهر نفسه، وقوة استعداده، وكم من طالبِ علمٍ سمع مثل ما سمع،
ولقي من الشيوخ والشبان مثل من لقي، فأنكر كل ما خالف - وعلى كل من خالف -
ما عرف وألف. ولم يهده ذلك إلى طلب علم جديد، ولا إلى مراجعة النظر
واستشارة الدليل. فالحق أن الأفراد الذين امتازوا في هذا العصر من أمتنا بالعلم
الصحيح والتصدي للإصلاح، إنما امتازوا أولاً بقوة الاستعداد، والميل الفطري
إلى الاستقلال، ثم سلوك النظر والاستدلال، فمن كان هذا نفعه لقاء أهل
الاختصاص، والاطلاع على أحاسن الكتب والأسفار، فيكون في ذلك كالنحلة في
الروض، تجني من ناضر الأزهار ويانع الثمار أطيب ما فيها.
رغبت بعض المدرسين، في قراءة كتاب إحياء علوم الدين، فقلب أوراقه
كلها أو بعضها، فلم يقع اختياره على شيء يقرؤه منها، إلا بعض حكايات
الصالحين، وبعض الآثار في فضائل الأعمال، فهو لم يستفد من علم الغزالي مسألة
ما، ولم يعقل من خصائص الكتاب شيئًا. ذلك بأن هم ذلك المدرس كان محصورًا
فيما رأى عليه أمثاله، وهو انتقاء ما يرضي الناس ويلذ لهم، ولا يذكرهم بشيء
من جهلهم، ولا يكشف لهم الستار عن شيء من عيوبهم، ولا ينذرهم سوء عاقبة
إفراطهم وتفريطهم.
نعم إن كل فرد من أولئك الأفراد القلائل الذين نعدهم في هذا العصر من
المصلحين - وصديقنا المترجم منهم - لم يكن امتيازهم إلا بصفاء جوهرهم وقوة
استعدادهم الفطري للاستقلال والكمال. مع التوفيق للطلب والاشتغال، واتفاق لقاء
بعض أصحاب المزايا من الرجال، ذلك بأنه ليس في أمتنا مربّون، ولا معلمون
مصلحون، لا في البيوت ولا في المدارس، ولو وجد فينا كثير من القادرين على
التربية الصحيحة والتعليم الاستقلالي، لوُجِدَ في كل بلد - لا في كل قطر فقط -
كثير من أمثال القاسمي.
ظهر الشيخ جمال الدين في الشام على حين فترة من العلماء، فقد كان من
أدرك من كبار شيوخها آخر الذين عنوا بدراسة الكتب المعهودة التي يطلق على
مدارسيها لقب (علماء) على أن العلم الصحيح - وهو العلم الاستقلالي المبني على
الدليل كان قد حجر عليه وحكم بتحريمه من عدة قرون، فلم يكن أحد يشم ريحه ولا
يشم وميضه إلا قليلاً، وصار الناس كالخفافيش لا يفتحون في هذا النور عينًا، ولا
يحيلون في شعاعه فكرًا.
ظهر الفقيد وفي دمشق الشام أفراد ورثوا عن آبائهم وأجدادهم عمائم العلماء
وألقابهم والرواتب التي كانوا يأخذونها من أوقاف المسلمين ولم يرثوا عنهم من العلم
بتلك الكتب شيئًا. فاتهم العلم ولم يفتهم صرف الأوقات كلها في استنباط الحيل
للتمتع بجاهه ومجده، تبعًا للتمتع بألقابه وأزيائه ونقده، فكان من أكبر الخطوب
عليهم أن يروا في الشام عالمًا يتصدى للتدريس والتصنيف، ويبين حاجة البلاد إلى
الإصلاح والتجديد، فإذا تصدى لذلك أحد يكيدون له المكايد، وينصبون له الحبائل،
ويبغونه الفتنة، ويجعلونه في موقف الظنة، فيسعون به إلى الحكام، أنصار كل
منافق، ويهيجون عليه العوام، أتباع كل ناعق، فماذا يعمل العالم المصلح بينهم.
إذا كان عمل القاسمي للإصلاح وتجديد علوم الدين صغيرًا في نفسه، فهو
كبير جدًّا في بلاده وبين قومه، فما القول فيه إذا كان عمله كبيرًا في الواقع، وقد
عظم المطلوب وقل المساعد؟
كان رحمه الله تعالى يقرأ الدروس العربية والشرعية للطلبة وللعامة،
ويخطب في المسجد خطبة الجمعة، ويصنف الرسائل والأسفار الممتعة، ويصحح
ما يرى نشره نافعًا من كتب المتقدمين، ويشرح المختصر ويختصر المطول منها،
ويسعى في طبعها ونشرها، ويبث روح الاستقلال والاستدلال في ذلك كله بالحكمة
والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. وكم سعى فيه، وكاد له أولئك
المعممون الجامدون فأنجاه الله منهم، وإن أكبر الكبائر التي يتهمون بها كل من
يدعو مثله إلى العلم والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هي
محاولة هدم الدين بفتح باب الاجتهاد والاستدلال، وما يستلزمه ذلك - بزعمهم -
من تحقير الأئمة، ومن اتبعهم من علماء الأمة!! وقد اتهم مرة بذلك مع بعض
أصدقائه وعقد لهم مجلس في المحكمة الشرعية وسألهم القاضي عن تلك التهمة،
وأخذ الفقيد من دونهم إلى دار الشرطة، وحبس فيها بضع ساعات.
كان له رحمه الله تعالى دروع سابغات من أخلاقه وسيرته تقيه بغي أعداء
العلم والإصلاح من حسّاده؛ إذ كان نزيه اللسان، بعيدًا عن المراء والجدال، متجنبًا
للإزراء بغيره، والتعريض بغميزة خصمه أو مدح نفسه، غير مزاحم لوارثي
العمائم على الحطام، ولا مسابق لهم إلى أبواب الحكام، إلى ما كان عليه من العبادة،
والعفة والاستقامة.
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))