للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فريضة الحج
ودعاية ملاحدة السياسة الشريفية لتركها
بفتاوى يفترونها

لما ولَّى الله إمام السُّنة الملك عبد العزيز بن سعود أمر حرمه وحرم رسوله،
لم يجد أعداؤه وسيلة للحيلولة بين العالم الإسلامي وبين رؤية عدله وإقامته لشرع
الله وإحيائه لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا دعوتهم إلى ترك فريضة الحج
وهدم هذا الركن العام من أركان الإسلام انتقامًا منه لهدمه هياكل الوثنية التي بنيت
على قبور آل البيت والصالحين برغم السنة النبوية.
ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الله فرض الحج بنص كتابه
المحكم على من استطاع إليه سبيلاً، وقال عقب ذلك: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: ٩٧) فمن استحل تركه بغير فقْد هذا الشرط
(الاستطاعة) فهو كافر خارج من دين الإسلام؛ ولذلك لم تؤثر تلك الدعاية إلا في
بعض الجاهلين، والحجاج يزدادون عامًا بعد عام، وينشرون فضل ابن السعود في
العالم.
وقد علمنا في هذه الأيام أن دعاة بيت المُلك المفقود من الحجاز جددوا هذه
الدعاية نفسها، وأرسلوا الكتب من مصر إلى جاوة وسنغافورة وعدن واليمن
والهند وسائر الأقطار الإسلامية التي لهم معارف فيها يحثونهم على صد الناس عن
الحج، بدعوى أن مُلك ابن سعود في الحجاز وفي نجد أيضًا على وشك السقوط
بانتصار بعض الخارجين عليه في نجد بقيادة ابن الدويش، ويستندون في هذه
الدعوى على ما ينشرون في جرائد مصر من الأراجيف؛ ولكنهم من جهة أخرى
يشيعون أن الدويش هذا متفق مع أولاد الملك حسين والإنكليز على ثل عرش ابن
سعود ليعيدوا الحجاز إلى الملك حسين أو نجله علي، فإن كانوا واثقين بهذا وبقرب
وقوعه فالمعقول أن يدعوا الناس إلى الإقبال على الحج لا على تركه.
وقد ورد عليَّ اليوم كتاب من بعض المسلمين الغيورين على دينهم في عدن،
ذكروا فيه أن دعاة هدم ركن الإسلام العام عادوا إلى الدعاية الأولى بتفنن جديد في
الكذب، فقد جاءوا فيه بعد رسم المخاطبة:
(لا يخفاكم يا سيدي أنه جاء أخيرًا إلى هذه البلدة فرقة من الناس أذلهم الله
وأصابهم بداء البغض لجلالة الملك عبد العزيز آل السعود أيَّده الله، ولا عمل لهم
إلا التجول في الأسواق وثلب هذا الملك الجليل الوافر العرض، وكنا لا نلتفت إليهم
ولا نأبه بما يقولون حتى ابتدءوا ينشرون الفتاوى بأن الحج لا يجب في هذه الأيام
بسبب وجود الحكومة النجدية في البلدان المقدسة.
وأخيرًا أظهروا للناس أنهم كاتبوكم وأقنعوكم بالأدلة وأجبروكم على
الموافقة على فتواهم هذه.
أما نحن فإننا أخبر بهم، ونعلم أنه لا يرضى بقولهم إلا مخبل؛ ولكن
خشينا على عامتنا أن يسري إليهم هذا الداء، أي داء بغض العرب الناشئ عن
بغض مليكها الجليل.
فبادرنا بكتابة هذه الأسطر إليكم راجين منكم جوابًا تخدمون به الدين
والدولة، ونرجو أن يكون ردكم على صفحات الشورى الغراء؛ لأنها أشهر الجرائد
هنا وتطَّلع عليها أكثر أهالي هذه البلدة، وفي الختام اقبلوا فائق الاحترام) اهـ.
(الجواب) كنت أود لو أرسل إليَّ هؤلاء الغيورون نسخة من الفتوى التي
أشاروا إليها لنرى على أي قاعدة من قواعد الجهل والكفر استحل هؤلاء المساكين،
هدم هذا الركن الإسلامي الركين، وأي نص من نصوص الكتاب والسنة أو من
اجتهاد الأئمة أوردوا في فتواهم استدلالاً على أن وجود الحكومة السعودية في
الحجاز مُسْقِط لفريضة الحج عن المستطيع خلافًا لنص كتاب الله تعالى؟ إذ لا يبعد
أن تدل الفتوى على أن فرض استقبال الكعبة المشرفة في الصلاة قد سقط عن
المصلين بوجود هذه الحكومة هنالك، وولايتها على بيت الله تعالى! فإن الجهل
ليس له حد يقف عنده.
يسهل علينا أن نقنع كل مسلم، وإن كان عاميًّا جاهلاً بضلالة هؤلاء الداعين
لهم إلى هدم بعض أركان دينهم اتباعًا لأهواء السياسة والملك، إذ لا يجهل أحد منهم
أن الحج من أركان الإسلام المفروضة على كل مستطيع له، وكتاب الله وكتب
السنة الصحيحة موجودة بين أيديهم فكذبهم عليهما مفضوح، وإذا كان كذبهم علينا
ظاهرًا أنكره العقلاء بدلالة عقولهم، وها نحن أولاء نظهره لغيرهم على صفحات
هذه الجريدة وغيرها، فكيف بكذبهم على الله ورسوله وأئمة المسلمين؟
وأما الذي يصعب إظهار كذبهم وافترائهم فيه فهو ما يرجفون به في تعظيم
أمر ثورة الدويش في نجد على ملكه وإمامه، وبيان أن ما يتوقعونه من الشر
ويفرحون به ليس خيرًا لهم، بل هو شر لهم ولغيرهم، ولماذا يصعب إظهار
افترائهم فيه؟ لأنهم يدعون أن ما يقوله كل أحد غيرهم كذب، وأن ما يقولونه هم
هو الحق والصدق وحده، فليس علينا إلا أن ننتظر قليلاً كما انتظرنا كثيرًا في
حادثة حصر الإمام ابن سعود لجدة والمدينة المنورة وما كانوا يذيعونه من أخبار
ضعفه وقرب طرده من الحجاز، فظهر كذبهم وإرجافهم للعالمين، والعاقبة للمتقين.
(علاوة) هذا ما كتبناه في اليوم الذي وصلت إلينا فيه رسالة عدن ونشرناه
في جريدة الشورى إجابة لطلبهم، وقد كتبنا في الجزء الماضي مقالة مستقلة في
فتنة نجد: أسبابها ونتيجتها وأهمها الدسائس الشريفية، ومن توفيق الله تعالى لابن
السعود حماقة أعدائه وجهل دعاتهم التي تنتهي دائمًا بظهور خذلان الله تعالى لهم
{أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: ١٢٦) .