للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من مسقط
الفقه والعلوم العصرية في القرآن
والصناعات في المسلمين
س (٣٥-٣٧) من صاحب الإمضاء في مسقط:
(١) الفقه وما المقصود منه؟
(٢) القرآن والعلوم العصرية وما المقصود منه؟
(٣) تأخر المسلمين في الصنائع ما السبب فيه؟
١ - {َلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (التوبة:
١٢٢) القرآن العظيم.
٢ - (من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين) الحديث الشريف.
٣ - (تفقهوا قبل أن تسودوا) الحديث الشريف.
... ... ... ... ... ... ... عبد الله عبد العزيز البلوشي
... ... ... ... ... ... ... ... ... بمسقط

(ج) هكذا وردت هذه الأسئلة موجزة مجملة، فأما الفقه فهو في اصطلاح
علماء الشرع: العلم بالأحكام العملية الشرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، وأما
معناه في اللغة واستعمال القرآن والحديث فهو الفهم الدقيق الناشئ عن الفطنة
والمثمر للعمل والاعتبار كما حققناه في تفسيرنا، وآخر ما كتبناه فيه تفسير قوله
تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف: ١٧٩) إلخ آية من سورة الأعراف وتفسيرها في صفحة ٤١٨ من جزء
التفسير التاسع فيراجع فيه ويدخل في هذا المعنى ما ذكر في السؤال من آية وحديث.
وأول الآية التي ذكرها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} (التوبة: ١٢٢) أي للقتال بل يجب في الحالة العادية أن ينفر بعضهم بقدر الحاجة،
ويكون مع النبي صلى الله عليه وسلم من يتلقى منه العلم، ويتفقهون في الدين
وآخرها: {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: ١٢٢)
ولهذه الآية عند المفسرين وجهان أو أكثر لا محل هنا لبسطها.
وأما الحديث الأول فقد رواه أحمد والشيخان وغيرهما، وله تتمة، ومعناه
ظاهر، وأما الثاني فقد رواه البيهقي في شعب الإيمان، وذكره البخاري في معلقاته
بصيغة الجزم عن عمر رضي الله عنه من كلامه، ومعناه تفقهوا قبل أن تصيروا
سادة في قومكم أو بيوتكم فيشغلكم ذلك عن العلم والتفقه.
وأما مسألة القرآن والعلوم العصرية أي الكونية، فالظاهر أن السائل يسأل
عن المقارنة بينهما؛ لأنه رآها في بعض الصحف، فإن كلا منهما معروف في
نفسه، فنجيبه بأن العارفين يقصدون بهذه المقارنة أن القرآن أرشد المؤمنين به إلى
هذه العلوم في الآيات الكثيرة التي بين بها آياته تعالى في خلق السموات والأرض
وما فيهما وما بينهما، فإن دلالة الشمس والقمر والكواكب والسحاب والمطر والبحار
والأنهار والجبال وأنواع النبات والثمار على قدرته تعالى ومشيئته وحكمته ورحمته
ودلالة ما في مجموعها من وحدة النظام على وحدانيته كل ذلك لا يكمل للناظر فيها
إلا بقدر علمه بما فيها من الخواص العجيبة والنظام الدقيق، وقد فصَّلنا ذلك في
مواضعه من تفسيرنا.
وأما مسألة تقصير المسلمين في الصناعات وإتقان غيرهم لها فله أسباب
ترجع كلها إلى ضعف الحضارة العربية فذهابها بذهاب ملك العرب بعدوان الترك
عليهم وقضائهم على الخلافة العباسية في الشرق، وسلبهم لكل ما كان للعرب فيه
من ملك وعدوان الأسبان من الإفرنج على عرب الأندلس والقضاء على ملكهم
ودينهم فيها، ولولا هذا وذاك لظلت الحضارة العربية الإسلامية في نماء وارتقاء،
ولوصلت إلى ما وصل إليه الإفرنج الذين ورثوا حضارتهم ومتونهم من دون الترك
الضعيفي الاستعداد للعلوم والفنون، ومن أسباب هذا الضعف أنه لم يكن لهم لغة
تساعدهم على تلقيها، ولم يجعلوا اللغة العربية العلمية الفنية التشريعية لغة رسمية
لهم، بل لم يوسعوا لغتهم الضيقة بها وباللغة الفارسية ويجعلوها لغة تامة ذات
معاجم ونحو وصرف وبيان إلا منذ مدة قريبة تقل عن قرن كما بينا ذلك في مواضع
من المنار مرارًا، ولكن كان لبعض ملوك الأعاجم من المسلمين في حضارة الهند
وغيرها، وكان لهم فيها صناعات كثيرة ثم ضعفت فزالت بزوال ملكهم أيضًا، إلا
بقايا منها في بعض البلاد كالشام ومصر وهي الآن في طور شرق جديد يجمع فيه
بين الصناعات القديمة والصناعات الحديثة الإفرنجية.
ومن مصائب المسلمين أنهم ابتلوا بزعامة الجاهلين من أدعياء العلم الذين
يزعمون أن العلوم والفنون التي عليها مدار جميع الصناعات المعاشية والحربية
محرَّمة في الإسلام مع أنها من فروض الكفايات كما يراه السائل في تفسير
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: ٦٠) في أول هذا الجزء، وقد
طرقنا هذا البحث في المنار مرارًا.
***
حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) ورهن الانتفاع
س ٣٨ من صاحب الإمضاء بتونس:
إلى حضرة الأستاذ الإمام مفتي الإسلام سيدي محمد رشيد رضا مفتي المنار
المنير حفظه الله وأدام نفعه آمين.
وبعد فالرجاء من حضرتكم الجواب عن الحديثين الآتيين ونصهما: (من
تشبه بقوم فهو منهم) و (من تشبه بقوم فليس منا) .
١- فالمرغوب من فضيلتكم أن ترشدونا هل هما صحيحان أم لا؟ وما
قيمتهما من الصحة، وفي أي كتاب من الصحاح رُوِيَا؟ ويكون ذلك على صفحات
مناركم المنير مع شرحهما شرحًا كافيًا يتفق مع الحال والمراد، والله يجزيكم ويديم
النفع بكم والسلام.
٢- ما قولكم في رهن الانتفاع، وهل الأئمة كلهم كانوا متفقين عليه أم فيه
خلاف؟ وما الفرق بينه وبين ربا الفضل؟ وما الدليل على جوازه؟ أفيدونا بذلك
ولكم الأجر والثواب والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الخوجة
(ج) أما حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) فقد رواه أحمد وأبو داود من
حديث عبد الله بن عمر مرفوعًا والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة بن اليمان
ووضع له في الجامع الصغير علامة الحسن، وصححه ابن حبان، وهو يشمل
التشبه في الحسن والقبح والخير والشر، وأما تشبه المسلمين بالكفار ففيه كثير من
الأحاديث الصحيحة صريحة في منعه، وقد شرحنا ذلك في المنار مرارًا، وأما
حديث (من تشبه بقوم فليس منا) فلا أذكر أنني رأيته في شيء من كتب السنة
لأراجعه ومعناه غير ظاهر، وفوق كل ذي علم عليم.
***
حكم رهن الانتفاع
قال الإمام الخرقي الحنبلي في متنه المشهور: ولا ينتفع المرتهن من الرهن
بشيء إلا ما كان مركوبًا أو محلوبًا فيركب ويحلب بقدر العلف اهـ.
قال العلامة ابن قدامة في شرح هذه المسألة من المغني ما نصه في كفاية
الكلام في هذه المسألة في حالين (أحدهما) ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع
ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال لا نعلم في هذا خلافًا؛
لأن الرهن ملك الراهن فكذلك نماؤه ومنافعه فليس لغيره أخذها بغير إذنه.
فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض وكان دين الرهن من قرض
لم يجز؛ لأنه يحصل قرضًا يجر منفعة، وذلك حرام، قال أحمد: أكره قرض
الدور وهو الربا المحض يعني إذا كانت الدار رهنًا في قرض ينتفع بها المرتهن،
وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في
الانتفاع جاز ذلك روي ذلك عن الحسن وابن سيرين وبه قال إسحاق، فأما إن كان
الانتفاع بعوض مثل أَنْ استأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير
محاباة جاز في القرض وغيره؛ لكونه ما انتفع بالقرض بل بالإجارة، وإن حاباه
في ذلك فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض لا يجوز في القرض ويجوز في غيره،
ومتى استأجرها المرتهن أو استعارها فظاهر كلام أحمد أنها تخرج عن كونها رهنًا
فمتى انقضت الإجارة أو العارية عاد الرهن بحاله، قال أحمد في رواية الحسن بن
ثواب عن أحمد إذا كان الرهن دارًا فقال المرتهن: اسكنها بكرائها، وهي وثيقة
بحقي ينتقل فيصير دينًا ويتحول عن الرهن، وكذلك إن أكراها للراهن، قال أحمد
في رواية ابن منصور إذا ارتهن دارًا ثم أكراها لصاحبها خرجت من الرهن فإذا
رجعت إليه صارت رهنًا، والأولى أنها لا تخرج عن الرهن إذا استأجرها المرتهن
أو استعارها؛ لأن القبض مُسْتَدَام ولا تنافيَ بين العقدين وكلام أحمد في رواية
الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن للراهن في سكناها كما في رواية ابن منصور؛
لأنها خرجت عن يد المرتهن فزال اللزوم لزوال اليد بخلاف ما إذا سكنها المرتهن،
ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضمونًا عليه، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو
حنيفة: لا ضمان عليه ومبنى ذلك على العارية فإنها عندنا مضمونة، وعنده غير
مضمونة.
(فصل) فإن شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن فالشرط فاسد؛ لأنه
ينافي مقتضى الرهن، وعن أحمد أنه يجوز في المبيع، قال القاضي: معناه أن
يقول: بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك يخدمني شهرًا فيكون بيعًا
وإجارة فهو صحيح، وإن أطلق فالشرط باطل لجهالة ثمنه، وقال مالك: لا بأس
أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين، وكرهه في
الحيوان والثياب وكرهه في القرض، ولنا أنه شرط في الرهن ما ينافيه فلم يصح
كما لو شرطه في القرض.
(فصل) الحال الثاني ما يحتاج فيه إلى مؤنة فحكم المرتهن في الانتفاع به
بعِوَض أو بغير عوض بإذن الراهن الذي قبله، وإن أذن له في الإنفاق والانتفاع
بقدره جاز؛ لأنه نوع معاوضة، وأما مع عدم الإذن فإن الرهن ينقسم قسمين
محلوبًا ومركوبًا وغيرهما، فأما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق عليه
ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريًا للعدل في ذلك، نص عليه أحمد في رواية محمد
ابن الحكم وأحمد بن القاسم واختاره الخرقي، وهو قول إسحاق، وسواء أنفق مع
تعذر النفقة من الراهن؛ لغيبته؛ أو امتناعه من الإنفاق، ومع القدرة على أخذ
النفقة من الراهن واستئذانه، وعن أحمد رواية أخرى: لا يحتسب له بما أنفق،
وهو متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشيء، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه) ولأنه
ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع ولا الإنفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن اهـ
المراد منه وهو كاف في جواب السؤال.
***
صلاة المغرب بعد غروب الشمس
بنصف ساعة في عدن
س ٣٠ من صاحب الإمضاء في (عكابة) بعض قرى اليمن:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
جناب حضرة الأستاذ المحترم صاحب الفضل والفضيلة الإمام العالم العامل
مفتي الأنام وخليفة شيخ الإسلام السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغرَّاء
حفظه الله سرمدًا، وجعله للأنام منارًا ومرشدًا، ونفعنا بعلومه وجعله للإسلام
والمسلمين ذخرًا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد إهدائكم مزيد السلام التام،
وأفضل التحية والإكرام، أما بعد فليقين علمي بإخلاصكم في خدمة الإسلام
والمسلمين ولحرصي على فتاويكم الشافية الكافية أقدم لفضيلتكم هذا السؤال الآتي
وأرجو نشر جوابه على صفحات مناركم المنير، وسأبقى بغاية الانتظار لفتواكم
الشافية، زادكم الله علمًا وهدًى.
سيدي ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، أحيا الله بهم شريعة سيد المرسلين
في جماعة من مجاوري بندر (عدن) يصلون العشاء الآخرة بعد مضي نصف
ساعة من غروب الشمس ويزعمون أنهم يشاهدون مغيب الشفق الأحمر، وأنه لا
يدوم بقاؤه زيادة على هذا القدر، فهل يمكن مغيبه في هذه البلدة بعد هذا القدر،
وهل تصح صلاتهم، ويحوز لمن سمع أذانهم أن يصلي العشاء تقليدًا لهم أم لا؟
مع أن أصحاب التقاويم يقطعون بعدم إمكان مغيبه قبل ساعة وثُمُن، أفيدونا بالجواب،
ولكم من الله جميل الأجر والثواب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
وسلم، وختامًا سيدي أرجوكم قبول فائق الشكر والاحترام والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... من المخلص
... ... ... ... ... ... الشيخ عبد العزيز بن عطار العريقي
... ... ... ... ... ... القاطن في قرية عكابة من قطر اليمن

(ج) إن الوقت الشرعي لدخول العشاء عند جماهير المسلمين هو مغيب الشفق
الأحمر بعد غروب الشمس، وهو يختلف باختلاف الأقطار والفصول ويُعْلَم
بالمشاهدة، لا بالنظريات والأقيسة ولا تقدير أصحاب التقاويم الذين لم يستقرئوا كل
بقعة في الأرض فما على السائل إلا أن يراقب جهة الغرب في المكان المسئول عنه
وينظر بعينيه كم يكون بين اختفاء الشفق الأحمر وبين غروب الشمس، فإن كان
لديه مانع من ذلك فليعهد بذلك إلى مَن يثق به من أهل عدن.
والأصل في هذا حديث تحديد جبريل المواقيت للنبي صلى الله عليه وسلم،
وفيه أنه صلى العشاء أول مرة حين غاب الشفق، وقد أخرج ابن خزيمة في
صحيحه عن ابن عمر مرفوعًا (ووقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق)
والصحيح في مذهب الشافعي، وكذا مذهب أكثر فقهاء العترة وعليهما جمهور أهل
اليمن، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وغيرهم أن الشفق هو الحمرة التي
تُرَى في الأفق بعد غروب الشمس فإذا زالت دخل وقت العشاء، وإن بقي في الأفق
شيء من الصفرة التي تعقب الحمرة، وإن مذهبه الجديد أن وقت المغرب بقدر ما
يتطهر المرء ويستر عورته ويؤذن ويقيم ويصليها ثلاث ركعات، ولكن كبار علماء
المذهب رجَّحوا القول القديم بامتدادها إلى أن يغيب الشفق الأحمر؛ لأن الحديث
صح بذلك، وقد علَّق القول به في كتاب الإملاء على صحة الحديث؛ لأن قاعدة
مذهبه أنه إذا صح الحديث يؤخذ به ويرمى بكلامه المخالف له عرض الحائط.
ومذهب الإمام الباقر وأبي حنيفة والمزني من أصحاب الشافعي أن الشفق هو
البياض الذي يُرَى في الأفق بعد غروب الشمس فلا يدخل وقت العشاء إلا بذهاب
ذلك البياض الذي تكون له بقية بعد ذهاب الحمرة، ونَقْل أئمة اللغة يشهد لقول
الشافعي، وجمهور علماء الأمة، وهو أن الشفق: الحمرة بعد غروب الشمس،
والله أعلم.