الشبهة الثانية على القرآن زعمهم التعارض في كلامه استشهد ذلك الكاتب على سخافته هذه بأمور نأتي عليها واحدة واحدة ونبين الصواب كما فعلنا في الشبهة الأولى: (الشاهد الأول) زعم أن وجود الآيات المتشابهات فيه ينافي كونه مبينًا. وهذا دليل على أنه لم يفهم معنى المتشابهات ولا معنى البيان فهذا المسيح عليه السلام يزعم المنتقد أنه إله وقد كان الكثير من كلامه مع تلاميذه وهم الراسخون في دينه - غير مفهوم لهم فهل يرى هذا دليلاً على عجز مقام الألوهية عن البيان أم يستدل بالشيء في مكان ويترك الاستدلال به في مكان؟ ولم ينقل عن الراسخين من الصحابة شئ من الاشتباه في القرآن كما ينقل النصارى عن تلاميذ المسيح (رضي الله عن الجميع) . المتشابهات في القرآن آيات تشابهت وجوه دلالتها على معانيها القريبة والبعيدة حتى ليتسنى لأصحاب الزيغ تأويلها بالباطل وصرفها إلى غير الصواب، وهذا أمر لا مندوحة عنه؛ لأنه ضروري في ذاته وذلك أن أهم ما يجيء به الوحي هو العلم بالله تعالى وبعالم الغيب لترتفع بذلك مدارك العقول وتعلو همم النفوس، ومن المعلوم أن الناس وضعوا ألفاظ اللغات لما يعرفون من المعاني في هذا العالم فيتعين على من يريد إخبارهم بشيء مما لا يعرفون أن يستعير بعض ألفاظهم الموضوعة لما يعرفون وينصب القرائن لمنع الاشتباه، ولا شك أن أفهام الناس تختلف في فهم القرائن وأن الذي يريد الفتنة يسهل عليه أن يتبع ما تشابه من القول لأن له معنى يدل على ما وضع له في الأصل ومعنى آخر تناوله بالكناية أو الاستعارة وغيرها من ضروب التجوز وهو المراد فيحمله على غير المراد ويضل به الناس فإذا أطلق النبي على الله تعالى لفظ (الأب) في مقام بيان الرحمة والعناية حمله أهل الزيغ على الأبوة الحقيقية وقالوا: إنه أبوه الذي ولده، ويصرفون من يفتنونهم عن القرائن العقلية التي تحيل الأبوة الحقيقية على الله تعالى، والقرائن القولية التي تطلق لفظ الأب على غير النبي كقول المسيح عليه السلام - إن صح النقل -: (إني ذاهب إلى أبي وأبيكم) وكذلك يقال في لفظ الابن إذا أطلقه النبي على نفسه يحمله أهل الزيغ على البنوة الحقيقية مع قيام القرائن العقلية واللفظية على إحالته كسابقه، ومن ذلك إطلاقه على صانعي السلام فيما ينقلونه عن المسيح عليه السلام. وإذا أراد المعترض أن يعرف الفرق بين بيان القرآن وبيان الإنجيل وبين أتباعهما، فلينظر إلى أثر المتشابهات في الأمتين، يجد أن قومه (النصارى) كلهم قد اتبعوا ما تشابه مما حفظوا من كتابهم ابتغاءَ تأويله. وأن المسلمين قد اتبعوا المحكم وردوا المتشابه إليه فجمعوا بين العقل والنقل إلا فريقًا منهم لا يقام له وزن كالباطنية والمجسمة. (الشاهد الثاني) زعم أن قوله تعالى في سورة الأعراف {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (الأعراف: ٢٨) ، وقوله: عز وجل في سورة الأنعام: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام: ١٣١) يناقضان قوله جل شأنه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: ١٦) قال: لأنه أثبت فيها الأمر بالفسق وهو أمر بالفحشاء، وإهلاك أهل قرية لأن مترفيهم فسقوا فيها كما أمروا ظلم. لا أقول إن صاحب هذا القول سيئ الفهم إلى هذه الدرجة ولكنني أرجح أنه متعمد للتحريف فإن من له أدنى شمة من فهم اللغة والعقل لا يستجيز أن يعمد إلى قول سيد في عبده: إنني أمرت عبدي فخرج عن طاعتي فعاقبته، فيفسره بأنه أمره بالخروج عن طاعته فخرج فعاقبه على الامتثال. الفسوق في اللغة: الخروج عن الشيء يقال: فسقت الرطبة عن قشرها وفسقت الفأرة عن جحرها، والفسوق عن أمر الله هو الخروج عنه وعدم امتثاله. أما حذف معمول (أمرنا) فهو ما تقتضيه البلاغة هنا؛ لأن المقام مقام بيان جزاء الفسوق عن أمر الله تعالى أيًّا كان، لا بيان ضروب التكليفات الشرعية، وما يأمر الله تعالى به معروف بالإجمال. ولا يخطر على بال عاقل أن يقدِّر أحد هذا المعمول بنقيض ما تقضي به الضرورة فيقول: إن الله قال أنه أمر هؤلاء الناس ولم يقل بماذا أمرهم، ونقول نحن: إنه أمرهم بالفسوق! ! هذا غير معقول في نفسه ثم إن العبارة تنافيه بذاتها فإن الفسوق يقتضي أن يكون هناك شئ يفسق عنه، فإذا كان الأمر متعلقًا بالفسوق نفسه يكون أمرًا بلا شيء، مثاله أن تقول لرجل: أمرتك بأن تخرج، ولم يكن في شيء يخرج عنه حين أمرته لا حسي كبيت ولا معنوي كعمل. فإن قيل: إن الأمر في الآية ينصرف إلى الفسوق عما هم فيه مما يختص بهم في الجملة، نقول إن ما كانوا فيه هو الترف فيكون معنى قوله في الآية (ففسقوا فيها) أنهم خرجوا من الترف ورجعوا إلى القصد وهذا نقيض ما تدل عليه الآية بالبداهة وهو أن الاستمرار على الترف بعد الأمر بما جرت عادة الله تعالى أن ينزل وحيه به من الأمر بالقصد والاعتدال في الأخلاق والأعمال هو الذي يكون سبب التدمير، وينتهي بالآثم إلى شر مصير. هذا الذي قلناه متبادر إذا تجلى لأي عامي في لغته يتيسر له أن يفهمه بلا توقف، وليس هو من المتشابهات التي تبتغى بها الفتنة بالتأويل والتحريف. وللآيات وراء هذا معانٍ عالية، وفيها معارف سامية، وهي أرفع من أن يدركها ذلك الطرف الحسير، أو يتطاول إليها ذلك الفهم القصير، ذلك أن آية (الأنعام) وآية (الإسراء) تهديان إلى أنفع سنن الله في نظام نوع الإنسان ونواميس الاجتماع البشري. تدل آية (الأنعام) على أن الأمم لا تهلك بمجرد التلبس بظلم تكون عليه مادام أهلها غافلين عما يجب عليهم الأخذ به من ضده، لا ينذرهم به منذر ولا يدعوهم إلى الحق داعٍ. فإذا جاء النذير وقذف بحقه على باطلهم وبعدله على ظلمهم يدمغه؛ فإذا هو زاهق وإذا بالأمة في عداد الهالكين وفي آية أخرى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: ١١٧) ؛ والمراد بالظلم: الشرك، كما روي من حديث ابن مسعود مرفوعًا عن أحمد والبخاري ومسلم والترمذي في تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} (الأنعام: ٨٢) يعني أن الأمم لا تهلك وإن كانت مشركة بالله تعالى مادامت مُصلحة في أعمالها وأحكامها. ويطابق هذا قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً ٠٠٠٠} (الإسراء: ١٦) الآية، فهذه الآيات تعلمنا أن سعادة الأمم أو شقاءها في هذه الحياة إنما هو نتيجة سيرتها في أعمالها. لا أن السعادة هبة إلهية على ما لا يُعلم سره والشقاوة نقمة إلهية على ما جُهل أمره، وتعلمنا أيضًا أن الباطل إنما يطول أمده وتُبطئ نتيجته في الإهلاك، إذا لم يكن هنالك حق يصادمه. ومن هنا أخذ الأستاذ الإمام كلمته الحكيمة: إنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه، ومن هنا نفهم السر في استيلاء الإفرنج على الأمم الشرقية وهو أنهم مصلحون في أعمالهم، وقد أوضحنا هذه المسائل من قبل في مقالات متعددة. وحسبنا هذا في الرد على شبهة المحرفين. (الشاهد الثالث) زعم أن قوله تعالى في فرعون {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً} (الإسراء: ١٠٣) يناقض قوله عز وجل فيه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (يونس: ٩٢) ، وقد شنع هنا على المسلمين أنهم أوَّلوا الآية وهو يزعم أنه نجا ببدنه وروحه وإن كانت الآية ناطقة بأن بدنه هو الذي ينجو. ومحل الشبهة عنده في لفظ (ننجيك) فإن ظهور الجثة بعد الموت بالغرق لا يسمى تنجية، وفاته أن هذا التعبير للتهكم على حد {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران: ٢١) ومن تتبع ضروب التجوز في كلام البلغاء وحاول حملها على الحقيقة - وهي لا تصح عليها - يمكنه أن يموه بأن أكثر الكلام البليغ كذب، على أن الذي ينجو من الغرق يطلق عليه اسم الغريق فلو فرضنا أن الله تعالى نجى فرعون من الغرق الذي ألمَّ به وبقومه لما كان قوله (أغرقناه) مناقضًا لقوله (ننجيك) فقد يغرق إنسان إنسانًا ويريه خطر الهلاك ثم ينتشله وينجيه، ولكن هذا ليس مرادًا هنا. الحكمة في ظهور بدن فرعون موسى بعد الغرق ظاهرة فإنه استعبد الناس وادعى الألوهية بما موّه على الجاهلين بسحره. ولو لم يظهر بدنه لادعى المغرورون فيه ما يدعي عبَدَة الحاكم العُبَيدي إلى اليوم - من أنه قد عرج إلى عالم أعلى. وارتقى إلى مقام أسمى. فهذا هو معنى قوله تعالى {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (يونس: ٩٢) ولو نجا بروحه وبدنه لما كان في ذلك آية على انتقام الله منه لكفره بنبيه وإيذائه لقومه. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))