للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإيثار
(تتمة لما سبق)
إن لما أنزل الله لنا من الرزق ثلاث مراتب:
(الأولى) الضرورة وهي ما لا بد منه للمحافظة على حياة المرء
الجسدية كرغيف يأكله وكساء يستره، بحيث إذا لم يحصل عليه تضرَّر جسمه
غالبًا أو خشي عليه التلف، وهي مرتبة الزهاد.
(الثانية) الحاجة وهي ما زاد على الضرورة ولم ينتهِ إلى الترف
والرفاهة، كأن يجد الإدام الواحد أحيانًا والحلوى والفاكهة أوقاتًا بمقدار ما يكفيه
أو يزيد قليلاً وهي مرتبة المتوسطين.
(الثالثة) الرفاهة وهي الحالة التي يحصل صاحبها ما شاء من الملاذ
تُستطاب له كل يوم الألوان باللحوم والبقول والفاكهة والحلوى كما يشاء ويُختار
بحسب حالة الزمان والمكان، وهي مرتبة المترفين من أهل الثراء والدثور.
فإلايثار بما زاد عن الضرورة عند هؤلاء - لا شك أنه أفضل من تمتيع النفس
به، وهو الذي كان شائعًا في الصحابة ومَن اهتدى بهدْيهم من أهل القرون
الأولى في الأمة.
ومَن كان له أهل وأقارب تجب عليه نفقتهم فضرورتهم كضرورته.
ويدل لهذه الأفضلية حديث أبي هريرة عند البخاري والنَّسَائي قال: قال النبي صلى
الله عيه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ
بمَن تعول) وفي رواية: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنىً) ومثل الصدقة
غيرها من الإنفاق المشروع كالهدية ومواساة الإخوان الذي تقدم عن بعضهم
تفضيله على الصدقة. وربما يفهم من الحديث أن الصدقة الفُضلى إنما تكون
مما زاد عن الحاجة لا عن الضرورة فقط، وهو ظاهر ولا ينافيه قوله تعالى:
{وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} (الحشر: ٩) ؛ إذ ليس في الآية أن ذلك الإيثار
هو أفضل الإنفاق، بل قصاراه أنه فضيلة يمتدح بها، وقد رجح الإمام الرازي
وغيره أن الآية نزلت في إيثار الأنصار والمهاجرين بالغنيمة مع مشاركتهم لهم
في دورهم وأموالهم، وجعلوا ما نقل عنهم في الصحيح من المؤاثرة للضيف وغيره
مما يدخل في عموم الآية، لكن أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
رسول الله، أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا - وفي
رواية غير الماء - فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا رجل يضيف هذا
الليلة يرحمه الله) فقام رجل من الأنصار وفي رواية: فقال أبو طلحة: أنا يا رسول
الله. فذهب به إلى أهله فقال أكرمي ضيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي
فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله أو ضحك (الشك من الراوي) من
فلان وفلانة [١] وأنزل الله تعالى فيهما: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ} (الحشر: ٩) ورُوي أن الآية نزلت في حكاية رأس الشاة الذي دار
على ثمانية من الصحابة. وقد تقدم.
قلت: وقد يكون الإيثار للغير أفضل في حق ذي الحاجة وذي الضرورة
في بعض وقائع لخصوصية كأن يرى ذو الضرورة مضطرًّا مشرفًا على
الهلاك، ولا يخاف ذلك على نفسه لو آثره بقوته، بل لا يبعد هنا وجوب
الإيثار. وفي مثل ضيف النبي عليه الصلاة والسلام الذي أجهده الجوع، وفي
ذي الحاجة الشحيح، أو الذي يتهم نفسه بالبخل والشح ويحاول تطهيرها من هذه
الرذيلة؛ لترجع إلى الاعتدال الذي هو أكمل الكمال.
والحاصل أن أصل الشرع يأمر بأن يقدم الإنسان المعصوم نفسه بالنفقة، ثم
الأزواج والأقارب من فروع وأصول الخدم على الترتيب المذكور في الفقه، ثم
يتصدق ويهدي من العفو والفاضل عمن تجب عليه نفقته ممن ذُكر، والأفضل
أن لا يتصدق بجميع ما يملك ويدع ورثته عالة يتكففون والثلث كثير كما في
حديث سعد في الصحيح (عند الستة) ومن ثم قال الإمام النواوي في شرح
مسلم: إن بعضهم استدل بالحديث على تفضيل الغني على الفقير وسكت عليه،
ويأمر (أي: الشرع) بالجود والسخاء والصلة والإحسان، وبالغ في ذم
البخل والبخلاء؛ لأنه من الأخلاق المذمومة التي تدنس النفوس الإنسانية، وتقف
بها عن الصعود إلى المراتب العلية، فالمهذب الكامل الذي زكيت نفسه من أدران
الشح والبخل كأويس القرني وأضرابه يقفون عند حدود الشرع في الإنفاق
بتقديم أنفسهم ثم الأقرب فالأقرب ملاحظين في ذلك ما تقدم شرحه عن الشيخ
محيي الدين - أعني أن تقديم أنفسهم ليس لأجل التمتع والتنعم - وإنما كان يبذل
أويس رضي الله عنه جميع ما فضل عن حاجته؛ لأنه لم يكن له أهل ولا ولد
يرثه، بل كان سائحًا منفردًا، والأفضل في حقه إنفاق العفو مع التوكل بخلاف
المعيل أو من يضطرب قلبه؛ لأنه لم يقم في مقام التوكل.
وأما مَن لم يوق شح نفسه فالأفضل له المبالغة في البذل والإيثار بما وراء
سد الرمق من الحاجيات إلى أن ترجع نفسه إلى الاعتدال الذي هو السخاء
الحقيقي، وما دام السالك لم يبلغ مرتبة الكمال القصوى، فهو يتهم نفسه بالطمع
والوقوف مع الحظوظ، ولا يطمئن لما توسوس به إليه من أنها تزكت من أدران
البخل، وتحلت بحلي السخاء والجود، وإن كانت في واقع الأمر قد تزكت
والتحقت بنفوس الأولياء العارفين الأبرار، فصاحب هذه النفس يظل يؤثر الغير؛
لاتهامه نفسه بما ذكر. يؤثر ذلك عن جماعة من مشاهير الأولياء كالحسين بن
منصور الحلاج [٢] والشيخ أحمد بن الرفاعي. وكان أحمد يقول: طريقتنا مبنية
على ثلاثة أشياء: لا تسأل ولا ترد ولا تدخر. نقله عنه العارف الشعراني
وغيره، ونقله البحريني نفسه في (ص٣٦) وهنا أوردنا في كتابنا (الحكمة
الشرعية) كلامًا نفيسًا في الادخار عند الصوفية لا ينبغي ذكره في الجرائد؛
لأنه خاص بأهله، ثم قلنا:
ويحتمل أن الإيثار من بعض الصحابة عليهم الرضوان، والمبالغة في
الإنفاق التي لا تنطبق على الوجه الذي قلنا: إنه أصل الشرع - كان يقصد به
تهذيب النفوس لاتهامها بالبخل والشح، وربما يشعر بذلك قوله تعالى بعد
مدحهم بالإيثار: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: ٩) ولا
يلزم منه تفضيل مثل أويس على هؤلاء؛ لأنه من أحوال بدايتهم، وما تقدم عنه
هو حاله في نهايته. على أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وهم
قد سبقوا بفضيلة الصحبة التي لا تُوزن بها فضيلة ولا تعادَل بها منقبة
لذاتها فضلاً عما يحتفّ بها من الفضائل والمزايا.
وخلاصة القول أن البخل مذموم والتبذير أو الإسراف مذموم والسخاء -
الذي هو وسط بينهما - هو المحمود والممدوح شرعًا وعقلاً.
بين تبذير وبخل رتبة ... وكلا هذين إن زاد قتل
ومَن خرج عن مرتبة الاعتدال في خلق من الأخلاق فسبيل إرجاعه إليها
حمْله على المبالغة في الطرف المقابل، أعني أنه يؤمر بالإفراط إن كان في
جانب التفريط وبالعكس؛ ومن ثم ورد الشرع في ذم الإفراط والتفريط ومدح
الاعتدال والعدل، مع أنه جاء في سيرة الشارع وأصحابه وتابعيهم بإحسان -
حكايات كثيرة في المبالغة في السخاء والحِلم والتواضع وغيرها من السجايا الفاضلة،
بحيث تصل إلى حد الإفراط، والمراد بذلك الإرشاد والتهذيب لمن هو في طرف
التفريط؛ ليرجع إلى الاعتدال، ومن ذلك إيثار صاحب الضرورة أو الحاجة
غيرَه بما هو محتاج أو مضطر إليه مثله أو أزيد، والمرجع إلى محكم التنزيل القائل
بالقسط والاعتدال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ
قَوَاماً} (الفرقان: ٦٧) ، {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ
فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} (الإسراء: ٢٩) والله أعلم وأحكم وهو أقوم قيلاً.اهـ.
فعُلم من هذا أن الاقتصاد أصل من أصول الفضائل الإسلامية، ولكن
المسلمين أهملوا مراعاته، والأوربيون أعطوه من العناية ما ينبغي له. وألَّفوا
فيه الكتب، وأوجبوا تعليمه في جميع المدارس؛ لأنه من مقومات المدنية، فحتَّامَ
- يا قوم - لا نكاد نرى من أغنيائنا إلا سفيهًا مبذرًا، أو شحيحًا مُقترًا، بل
كاد يعم الإسراف والتبذير كل غني وفقير، يتلهى المستمسك منهم بدينه
بإلهيات شعرية، وجُمل خطابية، كقولهم: (أنفقْ ما في الجيب يأتيك ما في
الغيب) والمنحرف عن هدْي الدين لا تسلْ عن جنونه وفنونه، وسنعود إلى
مباحث الاقتصاد والبخل والسخاء في فرصة أخرى، إن شاء الله تعالى.