للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السخاء والبخل - تتمة

أَتَعَجَّبُ من ضلال عامة الناس في فهم حقيقة السخيّ، على ما له من نفوسهم
القدر العليّ، وإلباسهم البخلاء الشحاح، لبوس أهل الجود والسماح، أليس هذا
الخطأ من أهل العلم والأدب أجدر بنبث بئار العجب، بعدما رفع الله تعالى في
القرآن من ذكر أهل البر والإحسان، وجعل بذل المال في سبيله آية الإيمان،
وإمساكه آية الكفر والخسران؟ اقرأ إن شئت قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} (الماعون: ١- ٣) ، وقوله جل علاه: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ} (فصلت: ٦-٧) وارجع إلى سورة الحجرات، واتل ما ورد في
الأعراب من الآيات، فقد بينت حقيقة المؤمنين بعد إنكار دعوى الإيمان على
أولئك المسلمين، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: ١٥) .
وناهيك بما ورد من الوعيد الشديد لمن يكنز المال، ووعد المتصدقين بمضاعفة
الأعمال، وبعدما جعل الشرع في أموال المسلمين وكسبهم من حرث ونسل وتجارة
ذلك الحق المعلوم، وفرض عليهم القيام بالنفقات الضرورية على من يعجز عن كسب
يذهب بضرورته، ويسدُّ من خلته، سواء كان من المسلمين، أم كان من الذميين،
وما هذا الإلزام بالبذل، إلا لتزكية النفس من رذيلة البخل، وتعويدها على الجود،
مما يسمح به الوجود، وقد ورد في معنى هذه الآيات أحاديث كثيرة من أشدها وعيدًا
حديث البخاري في الأدب، والترمذي في صحيحه وهو: (خصلتان لا يجتمعان في
مؤمن: البخل، وسوء الخلق) وفي رواية لغيرهما: (البخل والكذب) وحديث ابن
أبي شيبة وهناد والنسائي والحاكم والبيهقي وهو: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب
عبد أبدًا) .
هذا شأن السخاء والبخل في نظر الدين، وما سلم رجال الدين معه من
الخلاف في تعريفهما عندما أنشؤوا يضعون الحدود الجامعة المانعة للاصطلاحات
الشرعية لبعد العهد باللغة وما يتبادر منها، فقالت طائفة: إن البخل هو منع الواجب
من نحو زكاة ونفقة قريب. وهدم بعضهم هذا الحد قائلاً: إن الذي يعطي عياله ما
يفرضه القاضي من النفقة، ثم يضايقهم في لقمة زادوها، أو ثمرة من ماله أكلوها
يُعَدُّ بخيلاً، ومن كان بين يديه طعام فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه فهو
بخيل، وكذلك من يَرُدَّ اللحم إلى القصَّاب، والخبز إلى الخباز لنقصان حبة أو
نصف حبة يوصف بالبخل كما وصفوا مروان بن أبي حفصة.
وقال قوم: إن البخيل من يستصعب العطية في نفسه، وردّ هذا القول لإطلاق
لفظ العطية؛ فإن السخي الجواد قد يصعب عليه أن يبذل جميع ما يملك أو ما هو
في أشد الحاجة لنحو وفاء دين أو نفقة من تجب عليه نفقته، بل السخي الحقيقي
يستصعب وضع المال في غير موضعه، وإعطاءه لغير مستحقه كمن يعلم أنه ينفقه
في معصية، أو يستعين به على مفسدة.
واختلفت أقوالهم في السخاء والجود، فقال بعضهم: هو عطاء بلا مَنّ،
وإسعاف من غير رؤية. وهو قول غير مرضي؛ لأن البخيل قد يعطي لغرض من
الأغراض التي شرحناها في النبذة الأولى، ولا يمن لئلا يحبط عمله ويخيب سعيه
وقد يُسْعِف ولا يرى نفسه مُسْعِفًا لعلمه بأنه يمنُّ ليستكثر، ويُسْعِف لِيُسْعَف، وقيل:
هو العطاء من غير مسألة. وهو كما ترى. وفصل القشيري في رسالته بين
السخاء والجود، وفصل بينهما وبين البخل نقلاً عن أستاذه الدَّقاق، فقال: من
أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه
شيئًا فهو صاحب جود، ومن لم يبذل شيئًا فهو صاحب بخل. وهو قول مردود
غير محيط الحدود، وقيل: الجود: بذل الموجود. وهو قول من لا يميز في العطاء
بين التبذير والسخاء.
والحد الصحيح الذي يشهد له النص الصريح، هو أن السخاء أريحية،
وصفة نفسية، تقف بصاحبها في وسط، بين تفريط القبض وإفراط البسط، بحيث
يبذل المال بارتياح، إذا حَسُنَ في الشرع والعقل البذل والسماح، فإن بذل بغير
ارتياح فهو متكلف محمود؛ لأنه يربي نفسه على الجود، ولا يلبث أن يزول
التكلف فيكون سخيًّا، وتأنس نفسه بالبذل فيكون جوادًا حقيقيًّا، والبخل كيفية من
كيفيات النفس الخبيثة، وخلق من أخلاقها الرديئة، إذا عرض لصاحبه موجب البذل
في معروف، أو إغاثة ملهوف، أو مساعدة جمعية خيرية، أنشئت للمنافع الملية -
ينقبض صدره، وينقبض لصدره كفه، فيبخل بالدرهم والدينار، ويجود بالتعلات
ويسخو بالأعذار.
فمن أعذار البخلاء، الإحالة على المشيئة والقضاء {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: ٤٧) ويقولون: لو أراد الله بهؤلاء الفقراء خيرًا لأعطاهم،
ولو اقتضت حكمته أن يكونوا أغنياء لأغناهم. ولا يقولون: إن الله تعالى فضلنا
عليهم، فَلْنُفْض بشيء من فضل نعمه إليهم، وجعل بعضنا لبعض فتنة، فلنصبر
على منحتهم النوال كما صبروا على المحنة، وحسبنا أن اليد العليا خير من اليد
السفلى.
ومن أعذارهم أن أكثر السائلين، يظهرون على الغني بأخلاق المساكين،
فصلتهم ليست من البر، ولا يعود على المرء منها أجر، ومن أعذارهم أن إنفاق
المال في غير مقابلة عمل يغري الناس بالبطالة والكسل؛ ولذلك يذمه الأوربيون
وهم في ذلك محقون، وبذل المال وإمساكه هو سبب خسراننا وفلاحهم، وعلة
خذلاننا ونجاحهم.
فإن قيل لهؤلاء وأولئك: إن كنتم صادقين في اعتذاركم، وممسكين لما ذكرتم
من تعلاتكم وأعذاركم، ومُسْتَنين بسنة الأوربيين؛ لأنهم في نظركم من المصيبين،
وليست أيديكم بسلاسل البخل مغلولة، ولإبداء الشح الذميم مشلولة، فامسكوا عن
السائلين، وامنعوا الكسالى والبطَّالين، فالشريعة قد ذمت السؤال، وورد: إن الله
يكره العبد البطَّال؛ ولكن ما تقولون في العجزة والضعفاء، واليتامى والفقراء؟ هل
تجدون لكم عذرًا في تركهم سدى، أو تجدون على نار تقليد الأوربيين هدى؟ وما
تقولون في الإنفاق على المدارس العلمية، والجمعيات الدينية، التي بها نجح
الأوربيون، لا بالبخل والشح كما تزعمون؟ فلماذا لا تتلون فيها تلوهم، ولا
تحذون حذوهم؟ ألم يأتكم في كل يوم أنباء بذلهم الألوف والملايين على معاهد العلم
والصناعة والدين [١] ؟
ولا تحسبن أيها القارئ الكريم، الذي لم يكتنه خُلق الشَّحَاح اللئيم، أن هذه
الحجج الناصعة، والبراهين القاطعة، تقطع لسانه أو تمحو بهتانه، فتكون للسانه
خير عقال، وتحل يديه من السلاسل والأغلال، كلا إنه بعد بيان الآيات، ليتعذر
بعدم الثقة بالجمعيات، فإن كانت مؤسسة لإعانة العجزة والبائسين، يقول: إنما نحن
في حاجة إلى تربية أولاد الفقراء والمساكين. وإن كان من موضوعها التربية الملية
يقول: نحن أحوج إلى المدارس الصناعية، وإن كان من موضوعها ذلك، وقيل له:
إنه لا يتم إلا بمساعدة أمثالك. يقول: ليس عندنا استعداد للقيام بما يكون به الإسعاد
ولا يسمع لمن يقول: يجب إذن أن نسعى في إيجاد ذلك الاستعداد، ولا يتم ذلك إلا
بالبذل والإمداد؛ لأنه يرى أن إضاعة المال أن يدخل في غير الصندوق، أو يخرج
لغير الاستغلال، ويصح أن يقال في هؤلاء الأشحاء، ما قيل في الجبناء؛ لأن
الجبن والشح من جب واحد.
يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
وأختم القول بأنه لا عذر لمسلم في دينه، ولا لوطني في وطنه، ولا لإنسان
في إنسانيته أن يرى أمته تتلاشى وتنحلّ، وملته تذوب وتضمحل، وهو يعلم أن
حياة الأمم في هذا العصر بالمال؛ لأنه هو الذي يرقي العلوم والفنون، وهو الذي
يربي النفوس والأخلاق، وهو الذي يوجد الصناعة، وينمي التجارة ويثمر الزراعة
وهو الذي ينهض بالدولة ويعطيها القوة والصولة، بل هو كل شيء؛ إذ لا يتم
بدونه شيء، يعلم هذا كله ثم لا يجود لإنقاذها بشيء من فضل ماله، لا سيما في
هذه البلاد المصرية، وفيها مثل الجمعية الخيرية، القائمة على خير أساس، ينفع
البلاد والناس، ومثل جمعية العروة الوثقى وجمعية المساعي المشكورة، وغيرهما
من الجمعيات الدينية الأدبية كجمعية شمس الإسلام، وجمعية مكارم الأخلاق،
وجمعية شمس المكارم، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليساعد هذه الجمعيات
كلها أو بعضها، أو ما يوافق مشربه منها بحسب الاستطاعة {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن
سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ
اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: ٧) .