للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


هكذا فليكن
يحضر في هذا اليوم من أوروبا رجل العلم والفضل، ومثال الهمة والإقدام
صاحب العزة سعد بك زغلول، المستشار في محكمة الاستئناف الأهلية. لماذا رحل
إلى أوروبا وبماذا رجع؟ هل كانت رحلته لأجل أن يستنشق هواءً غير هواء بلاده،
ويحتسي ماءً غير ماء النيل، مبالغة في الترف والرفاهة؟ أم ذهب ليستحم في المياه
المعدنية خدمة لجسده؟ أم ظعن لمعاقرة الخمور ومعانقة الحور، والتمتُّع
بالشهوات، والانغماس في اللذات؟ أم سافر للتشرف بتلك البلاد والتفاخر بمخالطة
أهلها وتقليدهم واحتذاء مثالهم في حركاتهم وسكناتهم وسائر عادهم (جمع عادة) .
وهل رجع يحمل أثقالاً من الأزياء والحلي والماعون النفيس كما يفعل المتطرزون
(المتأنقون في الملبس) من المصريين الذين يتبجحون في المسابقة إلى احتذاء
الإفرنج في آخر طراز (مُودَة) يبتدعونه. أم عاد بأوزار من الخمور والأشربة
الخبيثة، وأنواع من الأعطار النفيسة، كما هو شأن المتنوقين والمتورنين
(المبالغين في التنعم والتطيب) من هذه البلاد؟ أم راح يملأ ماضغيه فخرًا بما نال
من الشرف الرفيع بمثافنة المسيو فلان، ومخاصرة المدام فلانة، وبما رأى في
الأوبرا والباللو والأوتيل؟
كل ذلك لم يكن، وما كان لهذا الفاضل أن يقضي أيام إجازته كما يقضيها
السفهاء من الناس، وإنما سافر ليؤدي الامتحان النهائي لنوال شهادة الحقوق
(لسانسيه) فأداه أحسن أداء، ورجع نائلاً الشهادة على أكمل وجه.
رُبَّ ناظر فيما كتبنا يعجب أن مستشارًا في محكمة الاستئناف يذهب إلى
أوروبا لأداء الامتحان وأخذ الشهادة في علم الحقوق، ويُحب أن يقف على شيء من
سيرة الرجل العلمية، وإننا نشير إلى مجمل منها بوجيز القول لتكون أسوة للمجدين
وحجة على المقصرين، فنقول:
جاور سعد بك في الأزهر، وأخذ من علومه جملة صالحة، ونهض به من
خمول الأزهريين، إنه صادف أستاذًا حكيمًا نفث في روعه روح الإقدام والهمة،
وحبب إليه أن يكون عضوًا عاملاً في الأمة، ألا وهو العلامة الشيخ محمد عبده
الشهير، فجدَّ الرجل واجتهد، وارتقى من حرفة المحاماة إلى مرتبة القضاء في
الاستئناف، ولم يكن هذا كله بالذي يقنعه أو يقف بهمته عن تحصيل المعارف، تعلم
اللغة الفرنساوية بإتقان ودرس فيها علم الحقوق، وما أدراك ما علم الحقوق، حتى
نال الشهادة التي علمتَ، كل هذا ومدرسته بيته، ولقد بلغ من اجتهاده أنه يدرس في
اليوم والليلة ست عشرة ساعة إلى ثماني عشرة ساعة رغمًا عن كثرة عمله القضائي
وغيره، ولقد اعتراه من كثرة الدرس أرق شديد بقي له ليالي لا يطعم النوم، فكان
يقضي الليل كله بالمطالعة، لعمر الحق لو أنجبت الملايين العشرة من المصريين
ألف رجل مثل هذا الرجل لنهضوا بمصر نهضة الأبطال، وأنالوها سعادة
الاستقلال، داحضين بأعمالهم حجة الاحتلال، فنرحب بالقادم ونهنئه ببلوغ الآمال
منشدين قول الشاعر:
هكذا هكذا وإلا فلا لا ... ليس كل الرجال تدعى رجالا