عهدنا بالمقتطف الأغر العناية بتقريظ الكتب وانتقادها - لاسيما الكتب النافعة - بأن لا يقرظ الكتاب إلا بعد قراءته، أو قراءة جملة صالحة منه يعرف بها موضوعه ومسلكه فيه، ومما رأيناه فيه وراء حدود الغرابة الانتقاد على كتاب (القسطاس المستقيم) لحجة الإسلام الغزالي عند تقريظه في الجزء الحادي عشر الأخير حيث قال: (ومما نراه في حد الغرابة من هذا الكتاب قول مؤلفه أن سائلاً سأله عما إذا كان يزن حقيقة المعرفة بميزان الرأي والقياس، أو بميزان التعليم، فأجاب متنصلاً من ميزان الرأي والقياس؛ لأنه ميزان الشيطان، فلا نكاد نُصدِّق أن عالمًا فاضلاً كالغزالي ينفي ميزان الرأي والقياس، ويعتمد على ميزان التعليم في غير المعرفة الدينية؛ ولذلك نظن أن في القسم الأول من الكتاب نقصًا، وأنه حُذف منه ما يحصر المعرفة المقصودة هنا بالمعرفة الدينية، وإلا فإذا أُريد بها سائر المعارف كالزراعة والصناعة والطب وكل العلوم والفنون، فالاعتماد فيها على الرأي والقياس كالاعتماد على الحس والمشاهدة) . (المنار) لو طالع المنتقد الفاضل الكتاب لعلم أنه في الدين، وأن السائل سأل عن المعرفة الدينية، فلا حاجة إلى الظن بأن في القسم الأول منه نقصًا، على أنه لا حاجة في الوقوف على ذلك لمطالعة الكتاب كله؛ فإن وصف السائل بأنه من أهل التعليم، وأنه يأمر باتباع الإمام المعصوم كافٍ في بيان أن السؤال عن حقيقة المعرفة الدينية فحسب، فما بالك وقد سأل الغزالي الله فيمن يزعم من أصحابه أن القياس ميزان المعرفة أن يكفي الدين شره (فإنه للدين صديق جاهل، وهو شر من عدو عاقل) نعم إن السائل الذي يذكر الغزالي مناظرته في الكتاب من أهل التعليم الباطنية القائلين بأن القلب لا يطمئن في الدين إلا إذا وُجد في كل عصر إمام معصوم يُرجع إليه في الخلاف والمشكلات، والإمام الغزالي أنكر ذلك عليه، وحاجَّه فيه حتى ألزمه وأقنعه، فقوله في صديق الدين الجاهل بعد ما ذكر: ولو رزق سعادة مذهب أهل التعليم لتعلم أولاً الجدال من القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: ١٢٥) ... إلخ، يوقع المطلع على الكتاب في اشتباه، ويوهم أن الغزالي من أهل مذهب التعليم؛ وإنما هو خصيمهم، ولكن قوله: (لتعلم أولاً الجدال من القرآن) ينفي ذلك الاشتباه، ويذهب بهذا الوهم؛ فإن أهل التعليم لا يتعلمون إلا من إمامهم المعصوم، ويسلِّمون له بكل ما يقول تسليمًا، ولعله سمى مذهب نفسه مذهب التعليم ووصفه بالسعادة استمالة لخصمه ليُقبل عليه، فيعرف مراده من التعليم. الغزالى يقسِّم الناس في هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام: (١) الخواص الذين لا يعتقدون بشيء حتى يثبت عندهم بالدليل والبرهان، وهم الذين يُدْعَون بالحكمة، وهم الذين يزنون بميزانها وهو القسطاس المستقيم الذي يذكره بعد، و (٢) العوام السُّذَّج، وهم الذين يُدْعَون بالموعظة الحسنة والإقناعيات، و (٣) أهل الجدال والمشاغبة والمراء والعناد، ولهؤلاء أحكام وأطوار، فتارة يحتاج إلى مجادلتهم ويجب أن تكون بأحسن الطرق وأقربها إلى القبول، وأبعدها من المراء، وتارة يسفَّهون ويجهلون، فيطلب الإعراض عنهم لقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: ١٩٩) وتارة يعتدون على الحق بالقوة ويصدون عن سبيل الله بالسيف، فتستبدل المجالدة بالمجادلة، ويستدل الغزالي على هذا في أثناء الكتاب بقوله تعالى في شأن الرسل: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد: ٢٥) ِ يقول: الدعوة بالكتاب مجردًا إنما هي للعوام، وبالميزان للخواص، والمقابلة بالحديد إنما تكون للمُحادين المعاندين، الذين يمارون في البرهان، ويُعرضون عن البيان، فتأمل مجمل مذهبه هذا، واقرأ ما جاء في المقتطف الأغر بعد تلك الجملة قال: (فإذا صح ذلك فميزان المعرفة عند أهل كل دين كتبهم التي يعتقدون أنها منزلة من إلههم، وعلى هذا النحو قال الإمام الغزالي: (إني أعرف واضع هذا الميزان ومعلمه ومستعمله؛ فإن واضعه هو الله تعالى ومعلمه جبريل ومستعمله الخليل ومحمد وسائر النبيين) ومتى رسخ اعتقاد الإنسان في نفسه هذا الرسوخ سهل عليه أن يثق ثقة تامة بكل ما في كتابه، واستغنى عن كل دليل وميزان آخر) اهـ. (المنار) إن المنتقد الفاضل يرى قصارى مذهب الغزالي أن يسلِّم الإنسان بكتابه الديني تسليمًا مطلقًا، ويستغني به عن كل دليل وميزان آخر، وقد علمت مما ذكرنا عنه آنفًا من التفصيل والتقسيم والتقييد خلاف ذلك، فكيف لو قرأت كتابه كله وتدبرته، وإنني أحب أن يطالع الدكتور يعقوب أفندي صروف هذا الكتاب كله بدقته المعهودة، ويصحح ما كتب عنه في المقتطف، وما أنا بموقن أنه هو الكاتب للنقد، وإن لم يكن أحد من البشر مبرَّأ من السهو والخطأ، وأذكره بالفرق بين القياس في معرفة الدين الذي ينفيه الغزالي، والقياس المنطقي الذي يثبته إذ يقول لا ثقة بعلم من لا يعرف المنطق والقياس في سائر العلوم، وإن كان هذا مما يحيط به علمه الواسع.