للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: صالح مخلص رضا


سورية بعد التحرير

(لا تدعوا إلى الفتنة فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار)
الأحنف بن قيس

أذكى أوار هذه الحرب الضروس قوم ظنوا أن لهم بها أجرًا ومغنم، وأضرم
نارها أقوام دعوا إليها دعاء مؤملين دفع مغرم، وساعد فيها شعب آخر ليمنع اقتراف
المأثم، ويحول دون فناء العالم، خدمة للإنسانية التي تتألم، دارت رحاها خمس
دورات، وجرت جيادها خمسة أشواط، وقطب رحاها ثابت، وقصب السبق
أُحرز- أو كاد - فوضعت السذاجة الأشعرية مبادئ لإخماد ثورتها، وإسكان
براكينها رحمةً بالإنسانية، فانقادت الفضيلة الشخصية لتلك المبادئ السامية فانجلى
المغير عن أراضٍ احتلها، وسلم الصياصي التي كان قد أحكم بناءها، وظن أن
فجر سعادة الإنسانية قد تنفس، وأن قد تساوت الأمم والشعوب في الواجبات
والحقوق، وانتشر لواء الحرية، وطوي عَلَم الاستعباد، ماذا جرى بعد أن وضعت
الحرب أوزارها؟
تناول ذلك الدهاء العمْري تلك المبادئ فحولها عن وضعها بالتأويل
والتحريف، واستخلص منها معاهدةً للصلح كانت علةً لجميع الحروب المنبثقة من
تلك المعاهدة، وستكون سبب حروب المستقبل وخراب العالم [١] فإذا كانت مبادئ
ولسن محكمةً عادلةً فإن المعاهدة مخشربة جائرة، جاس قوم خلال ديار قوم آخرين
فاستباحوا بيضتهم، وانتهكوا حرمتهم، والله من ورائهم محيط.
أجلبت أمم بخيلها ورَجِلها على الوادعين الساكنين الآمنين من جيرانها فكانوا
إلى الفتنة أسرع من اختطاف البازي، أو هَوي العقاب، فلما صرحت الرغوة عن
اللبن الصريح، واستبان الراجل من الراكب، وتميز الأجرب من الصحيح،
نكصوا على أعقابهم فولوا الدبر غير معقبين.
أيقظت المبادئ (الولسنية) أممًا وشعوبًا من سباتها، وفتحت للمرضى باب
الشفاء، وللموتى باب الحياة - وإن يكن المؤولون قد أوردوا معظم الشعوب شعوبًا
وجعلوا الخير المأمول منها مقلوبًا - فإن دم الحياة قد دب في الأجسام، وتيار
الانفلات من سلطة المستعمرين قد تمشى في العقول وتسرب إلى القلوب، وتقرب
ما كان قد تباعد، وانفلق صبح شعوبية راقية من بلاد كانت أعرق الأمم
بالأرستوقراطية، بل لم يكن يدين بعبادة البشر - أو الملوك - الأحياء أحد على وجه
البسيطة إلا ما كان في روسية (منبعث النور الآن) .
وكان من تلك الأمم والشعوب من تحفز للوثبة، وأعد للاستقلال العدة الأمة
العربية بأسرها، وخصوصًا أهل الشام والعراق وشبه الجزيرة منها.
كونت هذه الأمة الأحزاب، وألفت الجماعات، ووضعت الأنظمة والقوانين
لإدارة حركتها، والقيام بمهمتها، ثم توطيد نهضتها، وإنماء علومها وثروتها،
وأول مظهر من مظاهرها قيام ملك الحجاز على أسياده وأبناء دينه (الترك)
دفاعًا عن أبناء وطنه وجلدته - قام بالثورة وشد عضدَه فيها بنوه ومِن ورائهم
الأمة العربية في مهاجرها وأوطانها، وانسل من بقي من شبان العرب في الجيش
التركي، فانضموا إلى هذه الحركة طمعًا بتأسيس مملكة عربية تضم جناحي
الجزيرة إلى قلبها.
قام الثائرون قومتهم، وساعدوا الأحلافَ: حاضرُهم وباديهم، على كسر
شكيمة الترك وخضد شوكة الاتحاديين منهم، فانجلى الترك عن العراق والشام
والحجاز بعد أن قتلوا النابغين من شبان العرب، وألبسوا أهل القطرين (الشام
والعراق) لباس الجوع والخوف، وساموهم أنواع التعذيب والخسف.
فرح أهل البلاد العربية بتقلص ظل الترك عن ربوعهم، وخصوصًا النابهين
منهم - اللهم غير الحكماء والعقلاء - بناءً على موعدة وعدها الأحلاف للملك حسين
ابن علي أخذت بها معاهدة إن كانت كمبادئ ولسن فإن معاهدة (سايكس بيكو) لها
كمعاهدة فرسايل لتلك. قد ضمنت معاهدة الشريف مع الحلفاء استقلال سورية
والعراق على شروط وقيود حفظت للمحررين حقوقا قديمة وحقوقًا حديثة، وحددت
معاهدة سنة ١٩١٦ مناطق النفوذ لكل من دول الأحلاف، فكان من جراء ذلك
التقسيم الذي تعاني سورية وحدها مضضه وتتجرع غصصه، تقسيم غير عقلي
ولا شرعي، ولا طبيعي، تقسيم جعل بأس الأهلين بينهم شديدًا، ووضع في قلوب
المحتلين بعضهم لبعض ضغنًا جديدًا، ومزق أحشاء البلاد كل ممزق، تقسيم يستحيل
معه دوام الراحة، وتمكين الاستعداد للرقي الذاتي، والاستقلال للترقي، ويعرقل مهمة
الانتداب، ويشل يد الاستقلال.
(مَن غَالَب الطبيعة غُلب) بأي وسيلة تقسم بلاد متصلة الحدود مشتركة
المنافع متحدة اللغة إلى ما يسمى المنطقة الغربية؟ ثم تقسيم هذه المنطقة إلى لبنان
والساحل، ومنطقة شرقية، ومنطقة جنوبية، أو مملكة صهيونية.
خلق الله هذه المملكة من الأرض متصلةً متداخلةً بعضها ببعض، وخرقت لها
السياسة ممالك، ونسبت إليها أقوامًا ليسوا في العير ولا في النفير.
أحيت السياسة من ثنايا الدهر وطيَّات الزمان اسم الفينيقيين، وأحدثت فكرة
الصهيونيين بعد أن محيت فينقية من لوح الوجود، وزلزلت طوارق الحدثان ملك
اليهود، وبدلت الأرض غير الأرض.
دعت الحاجة إلى إحياء الفوارق الدينية، وبعث العصبيات المذهبية، بعد أن
أزال ظلم الاتحاديين كوامن الأحقاد، واتحدت الأمة أيما اتحاد.
جرى كل هذا، وادعاء الإصلاح لا يزال قائمًا، وقضية الاستقلال معترف
بها، ولكن النفوس ملت الوعود بعد أن طالبت بالقيام بالعهود قبل أن يتسع الخرق
على الراقع وتزهق الأنفس وترى الديار بلاقع.
لذلك عقد المؤتمر السوري في دمشق , وأعلن استقلال سورية جمعاء [٢]
استنادًا على الحقوق الطبيعية والقومية والجغرافية والسياسية، واعتمادًا على
المبادئ (الولسنية) واعتراف الأحلاف بهذا الاستقلال.
ثم اجتمع مؤتمر عراقي في دمشق فأعلن استقلال العراق وانتخاب الأمير
عبد الله نجل الملك حسين ملكًا عليه.
تناقلت الصحف والبرق خبر هذا الاستقلال، ولم يعترف به الحلفاء بعد،
وقد رأينا أن نثبت هنا مقالةً نقلتها إحدى الصحف المصرية عن مجلة (الرفيو)
تحت العنوان الآتي:
استقلال البلاد العربية
(كنا أول من نادى بوجوب الاعتراف باستقلال البلاد العربية، وقد نشرنا
في اليوم الثاني لقرار مؤتمر دمشق ما يؤخذ منه صراحةً أن من حسن السياسة أن
تعترف فرنسة وإنكلترة بالأمير فيصل ملكًا على سورية والعراق وفلسطين،
فعاند البعض وكابر وأنكر علينا هذا القول، ولكن الحوادث جاءت الآن مؤيدةً
لنا، ونرى أيضًا أن الذين يديروا دفة السياسة في بلاد الحلفاء اقتنعوا الآن بوجوب
تحقيق رغبة الشعوب العربية.
إن المعاهدة التركية التي سيضعها مؤتمر سان ريمو ستعين حدود المملكة
التركية، وتفصل منها عشرة ملايين من العرب الذين اشتركوا في هذه الحرب مع
الحلفاء ضد تركيا فاستحقوا بذلك أن ينالوا الحرية والاستقلال بلا شرط ولا قيد،
أعني أنه يجب على الحلفاء أن يتنازلوا عن كل تفويض أو وكالة على هذه البلاد،
وبهذه الكيفية يعود السلام الدائم إلى هذه البلاد فلا نعود نسمع فيها قعقعة السلاح،
ولَدَى النظر في تنظيم آسية الصغرى يجب أن لا تترك الشعوب العربية ألعوبةً في
يد المصادفات السياسية.
إن تكوين مملكة عربية قوية يضع حدًّا لكل هذه الاضطرابات، ويعيد الأمن
والسلام إلى هذه الربوع الشاسعة، ويضع أيضًا مستقبلها الاقتصادي. وفي هذه
الحالة تكون فرنسة أول من يستفيد من نمو الزراعة وازدياد التجارة والصناعة
التي لها فيها مركز ممتاز من قديم لا يجب تضييعه، إننا في الغالب نترك مزاحمينا
الأكثر مباراةً ونشاطًا يسبقوننا إلى اغتنام الفرص، ولكن إذا جرينا على سياسة
مخالفة لهذا الرأي فسيسبقنا غيرنا، ولا ندهش يومًا إذا وجدنا أنفسنا في عزلة عن
الاتحاد الأوربي، كما حدث في المسألة الروسية وغيرها، وقد علمتنا التجارب
في الماضي أن ننتفع بها على الأقل في هذا الوقت، وأن نتبع في آسية الصغرى
الاحتراس والإقدام، بحيث إذا تأخرنا قدمًا عن البلاد العربية فلا عذر لنا إذا ضاع
نفوذنا الاقتصادي.
إن إنكلترة التي ترقب الحوادث عن بُعد تستعد الآن للتنازل عن دعواها في
العراق، وإننا ننصح لها بأن تسرع في ذلك، ولا ننسى أن حلفاءنا من أصحاب
التجربة الذين يعرفون كيف يغتنمون الفرص، والذين متى رأوا أنه لا يمكنهم العمل
بخلاف ذلك ينفذونه طبقًا للظروف، وهي حكمة سياسية) .
(ومن المرجح أن اعترافنا باستقلال سورية سيقابل في شمالي أفريقية بكل
سرور وابتهاج، وسيوطد نفوذنا فيها. ولا بد أن تبتهج جميع الأمم أشد الابتهاج إذ
ترانا نعامل بالرفق والاعتبار إخوانها الذين يسكنون بين البحر الأبيض المتوسط
والخليج الفارسي) .
(ونحن نلاحظ مع الارتياح أن إنكلترة تحبذ هذه الخطة) .
(وها نحن نشعر بتغيير محسوس في لهجة الجرائد الفرنسية من بضعة أيام
مما يجعلنا نرحب بهذا التغيير الذي يفتح أعين من بيدهم زمام السياسة الخارجية
ليروا الحقيقة، وهذا ما اتبعته الجرائد الفرنسية الكبرى، ولكن يجب عليها أن لا
تقف في نصف الطريق، وأن تستمر المجاهدة، ومتى صار الاعتراف باستقلال
سورية يجب علينا المساعدة في تأييده؛ لتحيا حياةً مضمونةً) .
(إن فرنسة تظهر عظمتها بضمانة حقوق وحرية كل فرد، وبذلك ستنال
ثمار حكمتها وحذقها) .
(ومن المحقق أن التدابير القديمة التي لا تزال توجهها ضد الملك فيصل
ستحفظ لفرنسة محلاًّ غير لائق في الحكومة السورية، وقد بين ذلك الجنرال نوري
بك الذي أوفده الملك فيصل إلى باريس ليوضح لحكومات الحلفاء مركز سورية
والعراق، وعلى الخصوص قرار مؤتمر دمشق في حديث له أفضى به آخر هذا
الشهر لمندوبي الصحف الفرنسية، وفي الاستطاعة أن نعتمد على شرف الملك
فيصل، وفوق ذلك فإن سورية دائمًا في حاجة إلى فرنسة، فلذلك يجب أن نتأكد
أننا سنقابَل دائمًا في سورية كأصدقاء يمكن الإصغاء باحترام إلى نصائحهم
واقتراحاتهم، وستحفظ لنا مستقبلاً زاهرًا في هذه المملكة التي تسمى - بحق - شقيقة
فرنسة في مدنيتها القديمة، والتي لا تطلب إلا أن تعيش الآن عيشةً راضيةً تحت ظل
ومساعدة الحلفاء، وسيجد صناعنا وتجارنا وأساتذتنا في البلاد العربية ميدانًا واسعًا
لإظهار نشاطهم ومقدرتهم ومشروعاتهم) .
(وإذا تقرر الاعتراف باستقلال سورية والعراق فسيحفظ في فلسطين
منطقة خاصة تحت الرقابة البريطانية، ومعلوم أن فلسطين تشمل الأماكن المقدسة،
وعددًا عظيمًا من اليهود مختلطًا بأجناس مختلفة تعيش معًا في الشرق، فيجب اتخاذ
ما يكفل حقوق كل واحد في هذه المنطقة، واحترام الأماكن المقدسة التي يقدسها
العموم، ولا يوجد ما يبرهن على عدم كفاءة العرب لأخذهم هذه المسئولية على
عاتقهم؛ لأن الشعوب العربية تحترم أكثر من غيرها حقوق وعادات وعقائد
الآخرين الذين يستظلون ظلها) .
(إن فرنسة لا يمكنها أن تمد يدًا لتقطع أوصال البلاد العربية، بل يجب
عليها أن تعمل مع حلفائها بما يطابق رغبات الشعوب، مثل هذه الرغبة ستجلى في
حل مسألة لبنان، ومؤتمر دمشق والملك فيصل يعترفان - ولا يد للبنان - بالحق
في أن يفصل في شأنه ويعرب عن مصيره، ولأهل لبنان الحق في تأليف مملكة
أو جمهورية، وأن يضعوا شرائعهم بحرية تامة، وكل رجائنا أن لا يكره اللبنانيون
على الانضمام إلى حكومة سورية) .
انتهى ما نقلناه عن مجلة الريفيو. وذكرت نحوه جرائد أوربية أخرى، وقد
أوضح مؤتمر (سان ريمو) المقصود من الانتداب والوصاية، وأيد اتفاق
الأحلاف على مخلفات الرجل (المتوفى) وسواء أكنا استقلاليين أم كنا احتلاليين
فإنه ليؤلمنا تأخير البت في مصير بلادنا، وإن سَرَّنا أنه كان من أسباب تكون الأمة
وتنشئة الحياة الاستقلالية فيها، فإن أماني ضاعت وآمالاً خابت، وشرةً أخمدت
في كثير من بلاد وأقوام الأمة السورية، ولم تكن الضائقة الاقتصادية والسياسية
بعد التحرير بأخف منها أيام الاستبداد.
لو أحسن أولو الشأن صنعًا لصينت نفوس، وحفظت أعراض، ولاستُغني
عن مناوشات وحروب كثيرة، بل لو كان المستشارون (غير الرسميين) من
الوطنيين غير ذوي أضغان لسهل كل عمل يراد دون التقتيل والتنكيل، وإغراء
الأهلين بعضهم ببعض مما يزرع الأحقاد بين طوائف الأمة، فتكون وبالاً مستقبلاً
على الحاكم والمحكوم.
ثم ما بالنا نرى أشد الناس اغتباطًا بالتحرير والإصلاح أسرعهم إلى الهجرة
في إبَّانه؟ مع أن بلادهم جعلت تحت سيطرة أمة المدنية التي هي أكثر الناس
إحسانًا إليهم.
اقرأ فصلاً نقلناه في هذا الجزء عن كتاب فلسفة الحرب، ثم اقرأ ما نقلنا في
هذا المقال عن الريفيو، وراجع ما يقوله الوزراء وأصحاب الأقدار بهذا الصدد،
وما يتوخى الأحلاف في مستقبل سورية، وقابل حالة سكان سورية الجنوبية
والشرقية والشمالية والغربية، واحكم على مستقبل الأمة في عصر الحرية
السعيد الذي يتبعه - لا محالة - تعطيل ناموس تنازع البقاء، أو بقاء الأصلح،
واعلم بأن كل سلطة منحدرة من العلو، وأن (صاحب السلطة لم يُعطَ السلطة عبثًا) .
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن
تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ} (آل عمران: ٢٦) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... صالح مخلص رضا