أثبتنا في النبذ التي كتبناها عن الحرب في العدد ١٢ و١٥ أن أسطول الأميرال سرفيرا الأسباني قد حصر في ميناء سنتياغو، فإذا حاول الخروج أسره أسطول الأميرال سمبسون الأميركاني أو دمره تدميرًا، وأن الأسبانيين قد أضر بهم السغب واللغوب (الجوع والتعب) ، بحيث لا يستطيعون التمادي في المطاولة، ولا بد أن يلجئوا قريبًا للاستسلام أو الاستبسال والاستماتة، وإن حالة جزائر فيلبين في خطر مبين، وإن أسطول الأميرال كمارا الذي جاء بورسعيد قاصدًا إغاثة تلك الجزائر لا يرجى أن يستفيد من سعيه وكده، وإنه إذا كان لديه من الفحم ما يبلغه مقصده يخشى عليه من فتك الأسطول الأميركاني به. قلنا هذا ورأينا جريدة التيمس وافقتنا على ما قلنا، كما وافقنا بعض كتبة الجرائد في الولايات المتحدة، ثم جاءت الحوادث مؤيدة له، فلقد حاول الأسطول الأسباني الفرار فهاجمه الأسطول الأميركاني ودمره تدميرًا، وأسر الأميرال سرفيرا مع بعض جنوده، وهلك الباقون غرقًا وحرقًا، والأخبار مفصلة في الأخبار البرقية، أما أسطول كمارا فقد ألجأته الحكومة المصرية إلى مبارحة بورسعيد من غير أن يحمل منها فحمًا؛ لأن الدولة العلية صاحبة البلاد قد أعلنت الحياد في هذه الحرب، وإقامته في ثغورها أو أخذه الفحم منها يعد مساعدة منها لأسبانيا على الولايات المتحدة. ولقد بلغ من تشديد الحكومة المصرية على الأسطول: أن النار شبت في مستودع الفحم في إحدى البوارج وهي في السويس، فطلبت الإعانة على إخمادها فلم تصادف معينًا، لكنها سمحت لبارجة الأميرال التي تعطل بعض آلاتها البخارية في القنال أن تمكث ريثما يصلح الخلل فيها. مر الأسطول في القنال وهو مؤلف من ١٢ سفينة، وقد دفع عنه رسم المرور لشركة القنال في باريس ٣٤٤١٠٦ فرنكات، وجاوز السويس ما عدا بارجة الأميرال، فإنها بقيت في ميناء البلد بحجة إصلاح الخلل الذي أصابها، وقد ظن بعض الناس أن دعوى الخلل حيلة للمُكْث حتى ترد عليها الأوامر من أسبانيا، وربما كان صاحب هذا الظن غيدارًا (الغيدار الذي يظن سوءًا فيصيب) ، ولم يكد يبعد الأسطول مسافة عشرة أميال في البحر الأحمر حتى تأثره الأميرال كمارا ببارجته المتخلفة وأمره بأن يرجع أدراجه (أي من حيث أتى) ، فمر في القنال راجعًا إلى بورسعيد، وقد سافر بعضه إلى قرطاجنة وسيتبعه الباقي، والسبب في ذلك الخوف عليه من الأميركان أن يدمروه كما دمروا أخويه من قبل في منلا وسنتياغو، وقيل: إن هنالك سببًا آخر وهو أن حكومة الولايات المتحدة سيرت أسطولاً إلى نفس أسبانيا فإرجاع الأسطول إنما هو لأجل حماية جزائر كناري (الجزائر الخالدات) وسواحل البلاد من أسطول الأعداء المنتظر، ويوشك أن يكون السبب إرادة الصلح وتوقعه. لقد كان لتدمير أسطول سرفيرا أسوأ وقع في أسبانيا، وَجِلَتْ لِنَبَئِهِ القلوب، وذرفت العيون ورثى مَن في قلبه أثر للرأفة والرحمة لملك هذه البلاد الصغير، ورق لوصيته ووالدته الأسيفة، وكتمت الحكومة الأمر عن أهل البلاد فرقًا من حدوث اضطراب وهياج من مفاجأة الخبر، ومن العجيب أنها كتمته حتى عن أسطول كمارا، فلقد أنكر هذا الأميرال الخبر عندما أُعلم به في السويس. كل هذا الخذلان والخسران لم يخمد حمية الأسبانيين، ومازال فيهم من يقول باستمرار الحرب مادام في كوبا عسكري واحد منهم، وجاء في أخبار بريد أوروبا أن أسقف سيغوفيا أصدر منشورًا حض فيه على الحرب المقدسة. لكن البلاد لم تعدم الهادئين المتبصرين الذين يودون الصلح ويشعرون بخطر الاستمرار على الحرب، سواء كانت مقدسة أو منجسة، وقد أصدرت جمعية الحزب الاشتراكي منشورًا قالت فيه: إن الاستمرار على الحرب - بعد أن فقدت أسبانيا عُدد الدفاع - ضرب من الجنون، وإن جميع العمال يطلبون الصلح. بل أحس ماعدا الحرب العسكري بما أحس به الحزب الاشتراكي والعمال، وأمسوا يودون الصلح ويتوقعونه، وإن أظهر ناظر الحربية وناظر البحرية الإصرار على الاستمرار؛ لأن المستبسل لا ينظر إلى ما وراءه. يصر هذان الناظران الأعميان على ما يضر بدولتهما ضررًا يكاد يكون موتًا، أما كفاهما تحطيم الأسطولين وفناء العسكرين (البري والبحري) ، فقد ورد في رسالة برقية من سنتياغو لمدريد أنه لم يبق من الأسبانيين سوى ألفي مقاتل، فكيف يلقون نيفًا وعشرين ألفًا من الأميركيين والكوبيين كاملي العدد؟ ! ويزعم السنيور سغستا وزير أسبانيا الأول أن في جزيرة كوبا الآن نحو مائة ألف جندي خلا المتطوعين، وتعجز الولايات المتحدة عن الظفر بهم إذا غادرت سنتياغو وأوغلت في الجزيرة بعد ظفرها بأسطول سرفيرا، ولقد قال الوزير هذا القول قبل تدمير الأسطول، ولعل فكره قد تغير بسبب الانكسار وجنح للسلم، وإن كان فيها ترك كوبا بالكلية وإعطاء الامتيازات للفيلبين فإن عاند أجهز الأميركيون على أسبانيا، وقضوا عليها قضاءً، لا تنجو منه إلى أبد الآبدين.