للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقرير لجنة مشيخة الأزهر الشريف
المؤلفة لفحص مشروع تعميم التعليم الأَوَّلِي [*]

بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الكبير شيخ الجامع الأزهر
يا صاحب الفضيلة بما لك من الحق الشرعي والرياسة الكبرى الدينية في
الديار المصرية، أصدرت أمرك إلينا بتعيين لجنة منا لفحص مشروع تعميم التعليم
الأولي مع تقريره الذي أصدرته لجنة وزارة المعارف العمومية المؤلفة بالأمر
الوزاري في ٣٠ مايو سنة ١٩١٧، والذي فرغت من وضعه في ٢٥ نوفمبر سنة
١٩١٨ طالبةً أن ينفذ العمل به من أول أبريل سنة ١٩٢٠ ريثما تأخذ الحكومة العدة
لتنفيذه.
وها نحن أولاً نتشرف برفع تقريرنا هذا إلى فضيلتكم شاملاً لما عنَّ لنا في
الموضوع، والله الهادي إلى سواء السبيل:
(١) اللجنة ترحب بمشروع تعميم التعليم الأولي من حيث هو تعميم لتعليم
طبقات الأمة بأسرها، وتعتبره بدء خير جديد للأمة المصرية في سائر شؤونها
ومصالحها الدينية والدنيوية، قال الله - تعالى -: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: ٩) .
(٢) خلاصة المشروع من الوجهة التي تهمنا هو أن يعمل كل مجلس
مديرية في المديريات، وكل سلطة معادلة له في المحافظات على إيجاد مدارس
أولية في كل مدينة وقرية تضم كل سنة عددًا من البنين والبنات الذين تتراوح
أعمارهم بين السادسة والحادية عشرة بنسبة واحد في المائتين من مجموع السكان
وذلك بأن تأخذ ٤% من البنين و ٢.٥% من البنات حتى تكون نتيجة هذه
المدارس بعد عشرين سنة تعليم ٨٠% من مجموع البنين و٥٠ في المائة من
مجموع البنات بالقطر المصري، وذلك يعادل ١٠ في المائة من مجموع السكان
يتلقون في تلك المدارس دراسةً مناسبةً وفق منهج خاص تضعه وزارة المعارف
العمومية أو تقره، ويشمل على الأقل تعليم الديانة، والقراءة والكتابة، والحساب،
وغير ذلك من المواد التي يعينها وزير المعارف العمومية (فقرة ٤٥ و٤٧
ومادة ١ و٢) [١] .
***
تأثير المشروع من الوجهة الدينية
إن تعليم القرآن للأطفال، والعمل على حفظهم له في هذه السن (من سن
ست سنوات إلى إحدى عشرة سنة) أمر جرت عليه الشعوب الإسلامية منذ التاريخ
الإسلامي لا سيما الشعوب العربية، وخاصةً منها القطر المصري حتى قال ابن
خلدون في الفصل ٣٢ الذي كتبه في هذه الموضوع (اعلم أن تعليم الولدان للقرآن
صار شعارًا من شعار الدين أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم
لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن، وبعض
متون الحديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من
الملكات) ومعلوم أن الولدان هم أبناء هذه السن التي يقضي المشروع بالاستيلاء
عليهم فيها، ويكون القضاء على حفظ القرآن فيها، ولا ندري كيف غاب ذلك عن
لجنة الوزارة، وهي بنفسها تقول في تقريرها المرفق بالمشروع (فقرة ٥٩) عن
المستر (لكي) في كتابه (الديمقراطية والحرية) ج٢ ص٦٢ (والقاعدة الوحيدة
التي يعول عليها أن يجعل الشارعون نصب أعينهم رغبات الأمة وميولها كيفما
تنوعت أشكالها، وأن يسعوا إلى تحقيقها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً) [٢] .
(٣) بل رمى أحد الأعضاء بهذا العنوان، كما جاء في التقرير (فقرة
٨٣) [٣] إلى أبعد من ذلك حيث لفت أنظار اللجنة قائلاً: إن الإعفاء من الخدمة
العسكرية لحفظ القرآن القاضي به قانون القرعة الصادر في سنة ١٩٠٢ عقبة في
سبيل التعليم الأولي، ونحن مع دهشتنا من هذا الحكم لبعد المسافة ما بين سن
القرعة، وسن المشروع نعجب من موافقة اللجنة بإجماع عليه حتى قالت بالفقرة
٨٧ (أن نجاح هذا المشروع أو أي مشروع آخر يرمي إلى ترقية التعليم الأولي
يتوقف على إزالة هذا العائق الذي يصرف الناس عن الاهتمام بالتعليم
الأولي) [٤] .
(٤) من حيث إن المشروع يقضي باستيلاء وزارة المعارف تدريجيًّا مع
الهيئات الإدارية التي تشاركها على ٨٠ في المائة على الأقل من أبناء المسلمين من
سن ست سنوات إلى إحدى عشرة سنة - فهو يقضي على المعاهد الدينية من أساسها؛
لأن ينبوع المعاهد هو تلك المكاتب الأهلية التي تقوم بتعليم القرآن الكريم وحفظه؛
ولا يمكن لقانون الأزهر والمعاهد الدينية أن يتخلى عن شرط حفظ القرآن؛ لأنه
شرط ضروري لمن ينتسب للمعاهد الدينية، ويتلقى علوم الدين التي تستمد كلها من
القرآن. كما يقضي ذلك المشروع أيضًا على جميع الوظائف الشرعية التي يشترط
في مبدئها حفظ القرآن الكريم، وما جاء في (الفقرة ٩٠) [٥] من تقرير لجنة
الوزارة (أن من يرغب من النشء في الانتظام في تلك المعاهد الدينية فلديهم متسع
من الوقت بعد إتمام مقرر المدارس الأولية - أي بعد السنة الحادية عشرة إن فرض
نجاحه فيها - للوصول إلى غرضهم هذا بالتعلم في مدارس إعدادية يشرف عليها
رجال الدين) غير كاف في الإجابة، ولا مذلل لتلك العقبة التي يضعها المشروع
في سبيل المعاهد الدينية لوجوه:
(أ) المدارس الإعدادية التي تحيل عليها لجنة الوزارة هي شيء لا في عالم
الوجود ولا في عالم المشروعات، فضلاً عن كون تعميمها في جميع المدن والقرى
حتى تقوم بحاجة البلاد من تخريج القدر الكافي لطلاب المعاهد الدينية، ومن وجود
الحفاظ بها - أمر لا يكاد يكون ممكنًا، ولا يبلغ درجة انتشار المكاتب الأهلية الحالية
التي تقوم بذلك الآن.
(ب) إذا فرض أن التلميذ الذي يريد الانتظام في سلك المعاهد الدينية لم
يساعده الحظ، ورسب في بعض امتحاناته السنوية بتلك المدارس الأولية، ثم التحق
بالمدارس الإعدادية المذكورة؛ ليتمكن من الالتحاق بالمعاهد الدينية - فكم يكون قد بلغ
من السن عند الخروج منها؟ وهل يسمح له الحظ دائمًا من التمكن من تتميم
الدراستين بالمدارس الأولية والمدارس الإعدادية قبل فوات السن المحدودة للدخول
في المعاهد الدينية، أو يحال بينه وبينها؟ ثم إذا صح أنه تمكن من الدخول في
المعاهد في آخر سنة يسوغ القانون الدخول فيها للطالب، والمعاهد الدينية أقل مدة
التعليم فيها خمس عشرة سنة، فلا ينتهي الطالب من دور التعليم إلا وهو في طريق
الكهولة، وهذا ما لا يرضاه رجال الإصلاح.
(ج) باعتبار أن آخر سنة للتلميذ في هذه المدارس الأولية هي السنة الحادية
عشرة من عمره إذا فرض نجاحه فيها، وأنه يحتاج إلى مدة أخرى يقضيها في حفظ
القرآن ليتمكن من الانتظام في المعاهد الدينية - يكون المشروع قد حاف حيفًا ظاهرًا
على قانون المعاهد في تضييق دائرة من ينتسبون إليها بعد أن كانت من سن عشر
سنوات إلى سبع عشرة سنة (مادة ٦١) من قانون الأزهر، وحال بين الآباء وبين
إعدادهم أبناءهم للتعلم في باكورة شبابهم بالمعاهد الدينية، وقد دل البيان الرسمي
بدفاتر الانتساب بالقسم الأولي من المعاهد الدينية على أن الذين ينتسبون بالسنة
الأولى يوجد بينهم عدد كبير من أبناء الإحدى عشرة سنة والاثنتي عشرة سنة.
(د) إن وجود الحرية التامة التي يتمتع بها الآباء الآن في تعليم أبنائهم
القرآن الكريم في هذه السن (من ستة إلى إحدى عشرة) هو الوسيلة الوحيدة في
التمهيد للانتظام بالمعاهد الدينية، وبعبارة أخرى: لحياة المعاهد الدينية، والوسيلة في
صيانة حفظ القرآن بين الأمة؛ لأن الحفظ بعد هذه السن يكاد يكون مستحيلاً،
والمثل الشهير في ذلك عند الشعب (الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر) .
(هـ) إن وجود حملة القرآن الكريم مستظهرين له أمر ضروري اقتضته
الشريعة الغراء على سبيل فرض الكفاية في كل أمة لا سيما في مصر (التي تعتبر -
لمركزها الديني ووجود الأزهر فيها - كعبة لسائر الشعوب الإسلامية) ليقوموا
بفريضة كيفية الأداء والتجويد للقرآن، وإتقان رواياته وأحكامه، ومعرفة رسمه،
وليحفظوه على الأمة، وينقلوه بطريق التواتر من جيل إلى جيل.
فضلاً عن أن من خصائص أولئك الحفاظ أيضًا ما جرت به العادة في منتديات
المسلمين ومجتمعاتهم العامة والخاصة من تلاوة آيات الكتاب الحكيم عند اقتضاء
الظروف والعادات القومية؛ ليعظوا النفوس ويذكروا الأمة بكتابها المقدس
الكريم، وما فيه من هدى وإرشاد وحث على مكارم الأخلاق، ولا يتأتى للأمة
المصرية القيام بالفريضة المذكورة، والمحافظة على تلك العادة القومية الإسلامية ما
لم تبق الوسيلة التي تُمكِّن الأبناء من حفظ القرآن في أول تعليمهم وعهد مرونتهم.
(٦) توجد بالقطر المصري أوقاف جمة مرصودة على تعليم القرآن الكريم
للأطفال بطريق الحفظ له غيبًا (وتفتيش الوادي مشهور) وتقضي أوامر الشريعة
الغراء باحترام شروط الواقفين، حتى قال العلماء: (شرط الواقف كنص الشارع)
فلا بد من تنفيذ هذه الأوقاف على الوجه المنصوص بها، ولا يجوز بحال أن يصرف
ريع تلك الأوقاف في غير هذا النوع من التسليم، والمشروع باستيلائه على ٨٠ في
المائة من البنين يقضي بتعطيل تلك الأوقاف وصرفها في غير ما رصدت له، وبعبارة
أخرى: يقضي بتعطيل أوامر الشريعة الغراء في تنفيذ هذه الأوقاف في سبيلها، بل
يصرف الناس عن مثل هذا العمل البار (الوقف على التعليم) الذي قام بنهضة كبرى
في سبيل التعليم الأولي بمصر، وقد اعترفت لجنة الوزارة في (الفقرة ٢٥) [٦] أن
أقوى البواعث على تعليم الشعب المصري إلى وقتنا هي البواعث الدينية، وإذًا يحسن
بالمشروع المذكور أن يكون أساسه الذي يعتضد به هي تلك البواعث؛ ليكون أنجح له
في سبيله لا أن يقاومها ويقضي عليها.
وترى اللجنة أن إيجاب حفظ القرآن الكريم في تلك المدارس، وجعله أساسًا فيها
(نظرًا لشدة تعلق الشعب المصري بمبادئه الدينية) هو أقرب وسيلة لترغيب الأمة
في تلك المدارس التي ستعاني الحكومة في الترغيب فيها الصعوبات الجمة.
(يتلى)
((يتبع بمقال تالٍ))