وعَدْنا في العدد السابق أن نبين في هذا العدد ما ينبغي أن يكون عليه الشعر، والمقابلة بين قديمه وحديثه، وإنجازاً للموعد نذكر المادة التي تبنى منها بيوت الشعر بوجه عام، ثم نقابل بين بناء المتقدمين والمتأخرين بالنسبة للشعر العربي فنقول: مادة الشعر وبناؤه: قلنا: إن الشعر ضرب من ضروب الكلام، ووظيفة الكلام تمثيل المعلومات بصورة محسوسة، إما بحاسة السمع إذا كان الممثل لها اللسان، وإما بحاسة البصر إذا كان المصور لها القلم (فإن المكتوب يسمى كلامًا) ، وإنما يكون المرء شاعرًا إذا كان يجول بكلامه المنظوم في جميع المعلومات التي تأتي من الحس الظاهر، من مسموع ومرئي ومشموم ومذوق وملموس، أو من الحس الباطن وهي: الوجدانيات، كالشعور باللذة والألم مهما كان مثارهما، أو من العقل، كالمسائل التي ينتزعها الفكر من المعلومات الحسية ويبني عليها أحكامًا لا تبنى على مقدماتها. نعم، إن من المعلومات ما لا يتعلق به غرض الشعر، كاصطلاحات الفنون الوضعية المحضة، التي لا تشرح شيئًا من الحقائق الكونية، ولا تحكي عن العوارض الطبيعية، كمصطلحات النحو والبيان وسائر فنون اللغة، وإن كان المتأخرون من الشعراء المستعربين تناولوا بعضًا من ذلك وأودعوه أشعارهم، وهو ما يسمونه بالتوجيه. وأَمسّ المعلومات بالشعر وأعلقها به يدًا: قوى النفس وأخلاقها وملكاتها وعواطفها وانفعالاتها، من الحب والشوق والكراهة، والبغض والسرور والحزن، والخوف والجبن والشجاعة، والعفة والحياء والخجل والحلم والوقاحة والجهل، إلى غير ذلك، ثم نواميس طبيعة العوالم الأخرى (أي غير الإنسان) علوية سفلية. أما المادة اللفظية فهي العلم بحقيقة اللغة ومجازها وكنايتها وتصريحها. والوقوف على مناهج التركيب والتأليف، وطرق الترتيب والترصيف، ومَناحِي الانتقال، مع التناسق في الأقوال، من كمل له كل هذا وكان ذا قريحة صحيحة وسليقة قويمة ملك زمام الشعر (كما ملك زمام النثر أيضًا) ، وسَلِسَتْ له صعابه، وانقادت له جوامحه، وتمكن من الجري في كل مجال، والانطلاق في كل فج، وكلما ارتاض بالسير قويت شرة جياده، ولم تخرج عن مراده، حتى يشرف على غايات هذه الصناعة. علم مما قررنا أن الشعر في مادته اللفظية والمعنوية يتبع العلم، فمن كانت مادته في العلوم وفي اللغة أغزر، كانت قدرته على التصرف في ضروب الشعر أكبر، أما الوزن فهو مما اهتدت إليه الأمم بالفطرة، وتنوع بالترقي، كما هو الشأن في غيره، ويوجد منه عند أمة ما لا يوجد عند أخرى، وربما اتفقت أمتان أو أكثر في بعض الأوزان. ونحن نرى في أشعار عامة المستعربين أوزانًا لا تدخل في أوزان العرب المعروفة. ومن أراد الشعر العربي، فلابد له من معرفة أوزانه وأحسن طابع يرسم في نفسه تلك الأوزان: كثرة قراءة الشعر المنظوم في أسلاكها، وقد وضع لها أدباء الأمة فنًا مخصوصًا (هو العروض والقوافي) ، والنظر فيه مزيد كمال في ذلك. ما شرحناه في مادة الشعر وبنائه يكفي في بيان ما ينبغي أن يكون عليه الشعر إذا لوحظ معه ما وصفناه به من قبل، وقد آن لنا أن نقابل بين قديمه وحديثه بالنسبة إلى الشعر العربي فنقول: طبقات الشعراء أربع: جاهليون: وهم الذين لم يدركوا الإسلام كامرئ القيس وعنترة وطرفة. ومخضرمون: وهم الذين أدركوا الإسلام وأسلموا كحسان وكعب ولبيد (رضي الله تعالى عنهم) . ومولدون: وهم الذين تولدوا من العرب في الإسلام ونشأوا بينهم كعمر بن أبي ربيعة وذي الرمة وجرير. ومحدثون: وهم الذين نشأوا بعد فساد اللغة فتعلموها من الفنون المدونة في الكتب والدفاتر كالبحتري والمتنبي والشريف الرضي ومهيار وهلُمّ جرًّا إلى هذا العصر. أما النظر في أساليب هذه الطبقات ودرجاتها في البلاغة فقد كان الأوائل من الإسلاميين أطول في ذلك باعًا، وأرسخ قدمًا، وقد كان في القرون المتوسطة من ناهز المقدمين لكنهم أفراد قلائل، يعدون على الأنامل، وفي المتأخرين المجيد بالنسبة لأهل عصره، ولم يدرك أحد منهم للسالفين شأوًا، أو يشق لهم غباراً، وأما النظر في تصرف الطبقات في المعاني، والجَوَلان في ميادين المعلومات، فقد كان الجاهليون ينظمون جميع ما يعلمون من أحوال الخليقة، يتناولون بأشعارهم السماء وكواكبها، والجو وأرواحه، والأرض وما عليها من معدن ونبات وحيوان، والإنسان وسائر شؤونه الحيوية والاجتماعية، ويضربون في فجاج التصورات، ويطيرون في جو الخيالات، فلا يغادرون مدركًا من المدركات حقيقيًّا كان أو وهميًا إلا نظموا دره في أسلاكهم، ووضعوا حجره ومدره في بناء أبياتهم، وإنا موردون ههنا مثالين من أشعارهم؛ أحدهما في حال من الأحوال الاجتماعية، وثانيهما في وصف مجلي من المجالي الطبيعية. المثال الأول: كان لقيط بن يعمر الإيادي كاتبًا في ديوان كسرى، فعزم كسرى يومًا على غزو إياد، فلما رآه لقيط مجمعًا على غزو قومه كتب إليهم قصيدة ينذرهم فيها بطشته، ويرشدهم السبيل القصد في مُدافعته، ولقد وقعت القصيدة في يد كسرى، فقطع لسان لقيط وغزا إيادا (الذي غزا إيادا من الأكاسرة هو سابور ذو الأكتاف، وكل من ملك الفرس كان يلقب بكسرى كما هو مشهور) ، ومما جاء في تلك القصيدة قوله بعد أبيات: بل أيها الراكب المزجي مطيته ... إلى الجزيرة مرتادًا ومنتجعا أبلغ إيادًا وخلل في سراتهم [١] ... أني أرى الرأي إن لم أعص قد نصعا يا لهف نفسي إن كانت أموركم ... شتى وأحكم أمر الناس فاجتمعا إني أراكم وأرضًا تعجبون بها ... مثل السفينة تغشى الوعث والطبَعا [٢] ألا تخافون قومًا لا أبا لكم ... أمسوا إليكم كأمثال الدَّبى سرعا [٣] أبناء قوم تأووكم على حنق [٤] ... لا يشعرون أضر الله أم نفعا أحرار فارس أبناء الملوك لهم ... من الجموع جموع تزدهي القلعا [٥] فهم سراع إليكم بين ملتقط ... شوكا وآخر يجني الصاب والسلَعا [٦] لو أن جمعهم راموا بهدته ... شم الشماريخ من ثهلان لانصدعا [٧] في كل يوم يسنون الحراب لكم ... لا يهجعون إذا ما غافل هجعا ثم وصف من يقظة العدو وأنهم لا يشغلهم عن الاستعداد للحرب ما يشغل قومه من الحرث واستدرار اللقاح والانهماك في موارد العيش، وقال: وتلبسون ثياب الأمن ضاحية ... لا تفزعون وهذا الليث قد جمعا وقد أظلكم من شطر ثغركم ... هول له ظلم تغشاكم قطعا ما لي أراكم نيامًا في بُلَهْنِيَةٍ [٨] ... وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا فاشفوا غليلي برأي منكم حصد [٩] ... يصبح فؤادي له ريان قد نقعا ولا تكونوا كمن قد بات مكتنعًا ... إذا يقال له أفرج غمة كنعا [١٠] ثم أوصاهم بالاستعداد للحرب في أنفسهم وفي سلاحهم وجيادهم، وحذرهم من الاشتغال عن ذلك بتثمير مال يؤول للعدو إذا تغلب عليهم، ثم قال: يا قوم إن لكم من إرث أولكم ... مجدًا قد أشفقت أن يفنى وينقطعا ماذا يردّ عليكم عز أولكم ... إن ضاع آخره أو ذل واتضعا يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيرا ... على نسائكم كسرى وما جمعا يا قوم بيضتكم لا تُفجعن بها ... إني أخاف عليها الأزلم الجذَعا [١١] هو الجلاء الذي يجتث أصلكم [١٢] ... فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا قوموا جميعًا على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا ثم وصف قائد الحرب وما يعتبر فيه من الصفات فقال: وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذرع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه [١٣] ... همّ يكاد سناه يقصم الضلعا مسهد النوم تعنيه أموركم ... يروم منها إلى الأعداء مطلعا ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعًا طورًا ومتبعا حتى استمرت على شزر مريرته [١٤] ... مستحكم الرأي لا قحمًا ولا ضرِعا وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرِّفعا ثم ختم شعره بقوله: لقد بذلت لكم نصحي بلا دخل ... فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا هذا كتابي إليكم والنذير لكم ... لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا المثال الثاني: قال عبيد بن الأبرص يصف عارضًا فيه برق وينتهي بمطر: يا من لبرق أبيت الليل أرقبه ... في عارض كبياض الصبح لماح دانٍ مسفٌّ فويق الأرض هيدبه [١٥] ... يكاد يدفعه من قام بالراح فمن بنجوته كمن بمحفله ... والمستكن كمن يمشي بقرواح [١٦] كأن ريقه لما غلا شطبا [١٧] ... [١٨] أقراب أبلق ينفي الخيل رماح فالتجّ أعلاه ثم ارتجّ أسفله [١٩] ... وضاق ذرعًا بحمل الماء مُنصاح [٢٠] كأنما بين أعلاه وأسفله ... رَيْط [٢١] منشرة أو ضوء مصباح كأن فيه عشارًا جُلة شُرُفا [٢٢] ... شعثًا لهاميم قد همت بإرشاح بُحّا حناجرها هُدْلاً مشافرها ... تسيم أولادها في قرقر ضاح [٢٣] هبت جنوب بأولاه ومال به ... أعجاز مزن يسح الماء دلاح [٢٤] فأصبح الروض والقيعان ممرعة ... من بين مرتفق فيه ومنطاح [٢٥] ((يتبع بمقال تالٍ))