تمهيد: اتفق لي في السنة الأولى من سني الحرب العامة وأنا في القدس أن تعرفت بشاب هندي اسمه (زين العابدين) من خيرة من عرفت من الشبان علماً وفضلاً، وأدبًا وأخلاقًا، وحمية لدينه، ودفاعًا عن يقينه، وقد استحكمت بيني وبينه وشائج الثقة. وكذلك كان شأنه مع كل من عرفه، ووقف على جميل سجاياه. وكان يقول: إنه إنما جاء سورية لأجل درس اللغة العربية وتحصيل ملكة الكتابة فيها. وأن جمعيته في الهند البالغ عددها خمسمائة ألف نفس هي التي أوفدته على نفقتها لهذا الغرض. وأن الحرب قد حالت بينه وبين الرجوع إلى بلاده. ثم انقضت الحرب فأوطن دمشق فنذرت به السلطة الإنكليزية فساقته إلى مصر وحاكمته بحجة أنه كان يشغتل في أثناء الحرب ضد المصلحة البريطانية. ثم تبرأ وعاد إلى بلاده (بنجاب) وجعل يكاتبني حتى زار دمشق في صيف سنة ١٩٢٤ الميرزا بشير الدين زعيم الفرقة الأحمدية الملقب بخليفة المسيح الموعود ومعه كتاب من الصديق (زين العبادين) يخبرني فيه بقدوم الميرزا ويوصيني بحسن استقباله. ففهمت إذ ذاك أن زين العابدين هو من أتباع مسيح البنجاب بل هو (الماكينة) المحركة في ذلك الدولاب. كما فهمت أنه يتولى كتابة السر في المسيحية الموعودة ويقوم بشؤون التربية والتعليم في تلك الجامعة الجديدة. ثم كان من أمر (الميرزا بشير الدين) مع أهل دمشق وهياجهم عليه ما كان فغادر الرجل دمشق إلى لندره لشهود مؤتمر الأديان العام فيها. وفي صيف السنة التالية أي سنة ١٩٢٥ جاء زين العابدين نفسه إلى دمشق، فرحبت به، ولم آل جهداً في معاتبته، ثم لم يكن يضمني وإياه مجلس إلا جاء فيه ذكر فرقتهم، وغريب دعوتهم، فكنا تارة نجادله، وطوراً نهازله، وآونة نعجب منه، وأحياناً ننافح عنه، وشد ما تمنيت عليه أو تفرغ نحلتهم في قالب إصلاحي جدي، غير القالب الذي أفرغوها فيه، فيكون لها من حسن الأثر في التربية العامة ما كان للطرائق الصوفية الحكيمة، فكان تارة يصغي إلى قولي ويرتاح إليه، وطورًا يخالفني إلى فكر يريغ مني الموافقة عليه. أما القصد من مجيئه مع رفيق له من علماء فرقتهم إلى دمشق - فهو أنه يريد إزالة سوء التفاهم الذي كان وقع بين أفاضلها وبين زعيم الفرقة الميرزا (بشير الدين) ويكشف الغموض والإبهام عن بعض تعابير وأقوال كانوا يسمعونها منه فيسيئون بها وبه الظن، مع أنها تنطبق - في زعمه - على تعاليم الإسلام وتلتحم بنصوصه. وقد باشر (زين العابدين) بالفعل وظيفته هذه ونشر بهذا المعنى مقالات في بعض الصحف، وناظر نفرًا من العلماء والشبان، وكتب رسالة وطبعها في دمشق تتضمن بعض تلك المناظرات، ثم رأى أن يضع كتابًا آخر يكون أغزر مادة، وأجمع للفائدة فألفه وسماه (حياة المسيح ووفاته) بلغ نحو (٢١٥) صفحة وقد طبعه في دمشق ووزعه على أصدقائه ومعارفه، وأهدى منه إلى بعض المشهورين من العلماء والصحافيين، وقد زارني في داري وقدم إليَّ نسخة منه، وكلفني بلهجة الصديق المحب أن أكتب كلمة تنشر وتؤثر عنه، فكتبت هذه الكلمة، وقد رأيتها خير كلمة تعبر عن الحقيقة، ويعاتب بها الصديق صديقه، واخترت (مجلة المنار) لتنشر فيها، ويكون الصديق الأبرّ السيد رشيد حكمًا ومهيمنًا عليها، وهذه هي الكلمة: *** كتاب حياة المسيح ووفاته طالعت كتابك يا صديقي (زين العابدين) في موضوع (حياة المسيح وموته) بعد أن كلفتني مطالعته وإبداء رأيي فيه، فها أنا ذا أذكر ذلك ما كان يجول في نفسي وأنا أتصفحه، وقد أعرضت في كلمتي هذه عن الاستشهاد بالنصوص الدينية وسرد ما قالوه في تأويلها، كما أنني لم أنازعك فيما ذكرت أنت وأولت من هذا القبيل؛ لأنني صرت أعتقد أن إصلاح أمرنا والتوفيق بين فرقنا - معشر المسلمين - عن طريق تلك النصوص وتأويلها أصبح عقيمًا لا يفيد. فأنا أرجح الإصلاح والتوفيق من طريق (المحاكمات) العقلية والاجتماعية والتاريخية، ثم الاعتبار بحوادث الزمان، والرجوع إلى نواميس العمران، فأقول: إن صاحب دعوتكم (غلام أحمد) يذهب إلى أن السيد عيسى عليه السلام أنزل عن الصليب وفيه رمق ثم تداوى وشفي وساح في الأرض حتى بلغ كشمير ودفن ثمة، فليس هو الآن حيًّا في السماء بجسده كما يعتقد المسلمون والنصارى. وبالضرورة أنه سوف لا ينزل من السماء في آخر الزمان وإنما يقوم من بين المسلمين رجل على سمته وهديه فَيَلِمّ شعث الأمة الإسلامية ويجمع فرقتها بعد الشتات، وقد ذهب (غلام أحمد) إلى أن هذا هو معنى ما ورد من نزول السيد عيسى عليه السلام، ثم أولَ جميع النصوص وأرجعها إلى هذا المعنى. قد يوجد في أحرار المسلمين المتعلمين اليوم من يقول بما قال به (غلام أحمد) بشان موت المسيح موتًا حقيقيًّا، ويؤوّل الآثار الدالة على نزوله ولكن ليس قولهم هذا من قبيل المتابعة لغلام أحمد ومذهبه المُوحى إليه به، وإنما هذه الموافقة له جاءت من كون حياة عيسى وصعوده إلى السماء ثم نزوله في آخر الزمان هي كسائر العقائد من نوعها التي اعتمد جمهور علمائنا رضي الله عنهم ظاهرها إيمانًا بشمول القدرة الإلهية. وقد غلب هذا الاعتقاد فيما كان من هذا النوع من مسائل الكلام، وشاع حتى دُوِّن في كتب العقائد الإسلامية، وإن كان يوجد في علماء الإسلام المتقدمين من يذهب إلى غير ما عليه الجمهور فيؤول ظاهر الآيات ويرجعها إلى معان توائم العقل، وتكون أظهر التحامًا مع النواميس الطبيعية وأمثله ذلك كثيرة منها: (١) الكوثر الذي أُعطي للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة: المشهور أنه نهر جارٍ، وهناك من يعتقد أنه الخير الكثير. (٢) مسخ الذين اعتدوا في السبت قردة: المشهور أنهم مسخوا حقيقة، وهناك من يقول: إنه مسخ قلوب وأخلاق. (٣) كرسي الله وعرشه: المشهور أنه جسم مادي في أعلى السماوات، وهناك من يعتقد له معنى مجازيًّا كالعظمة والسلطة. (٤) النفخ في الصور: المشهور أنه بوق حقيقي ينفخ فيه يوم القيامة، وهناك من يعتقد أنه كناية عن إعلان الأمر وإشهاره. (٥) وزن الأعمال يوم القيامة: المشهور أنه وزن حقيقي بميزان ذي لسان وكِفتين، وهناك من يعتقد أن المراد بالوزن القضاء العادل، وقال الطبري: إنه قول مجاهد. إلى غير ذلك من المسائل، ومن جملتها مسألة حياة عيسى بجسده العنصري في السماء ونزوله منها، وما دام ابن عباس يقول (كما في تفسير الطبري) : إن المراد بقوله تعالى {مُتَوَفِّيكَ} (آل عمران: ٥٥) مميتك، لا جرم أن يوجد في المسلمين من يقول بموته اتباعًا لابن عباس لا اتباعًا لوحي (غلام أحمد) إذ إن المسألة مسألة فهم في الدين؛ فهي لا تحتاج إلى عناء دعوى الوحي أو نزول ملك من أجلها. غير أن الواحد من هؤلاء المخالفين للجمهور لا يصرح بما يذهب إليه في أمثال ما ذكرنا أمام الناس خشية تشنيعهم عليه، فهو يدع الناس في غفلاتهم ويعتقد هو أمرًا إن كان يخالفهم فيه فربما كان موافقاً لبعض علماء السلف أو لعلماء المعتزلة الذين هم من أهل قبلتنا، وليسوا بخارجين عن ملتنا. أما حضرة (غلام أحمد) فقد وجد من بيئة الهند وعقلة سكانها ومن ذلك الوسط المشبع بالحرية الفكرية التي أيدتها السلطة الإنكليزية - ما ساعده على الجهر برأيه في موت المسيح، لا سيما أن (غلام أحمد) في صدد ادعاء الوحي لنفسه وأنه هو المسيح الموعود ليتوصل بذلك إلى إفحام أعدائه المبشرين. فعيسى إذًا ميت على ما يُفهم من قول ابن عباس، وهو ما استند عليه غلام أحمد في دعوته، وربما ذهب مذهبه طائفة من أحرار علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين كما قلنا. أما أن عيسى كان موته قبل أن يُصلب أو وهو على الصليب أو أنزل عن الصليب حيًّا ثم مات في فلسطين أو في الهند؟ وفي أي مكان دفن؟ فكل هذا لم ينص عليه القرآن بصراحة، فيبقى بحثًا تاريخيًّا، ولكل إنسان أن يذهب فيه مذهبًا يراه صوابًا حسب الأدلة التي تتوفر لديه ويقتنع بها. بقي أن يقال: إن هناك آثارًا وأحاديث تدل على أن عيسى سوف ينزل (أي يظهر) في آخر الزمان. فبالطبع تكون هذه الأحاديث مؤولة بأحد طرق التأويل عند الطائفة التي تقول بموته، ومن هذه التآويل التي تتبادر إلى ذهن كل من له وقوف على العلوم الإسلامية - التأويل الذي ذهب إليه (غلام أحمد) من ظهور رجل من المسلمين في آخر الزمان يكون على سمت المسيح وهديه , فينهض بالمسلمين بعد خمولهم وذهاب ريحهم. ولا ريب أن الأعلق بمصلحة المسلمين أن لا يقال: إن عيسى الذي سيظهر في آخر الزمان هو شخص واحد يقوم في زمان واحد ومكان واحد , بل القول الصواب في ذلك ما قاله (غلام أحمد) نفسه ونقله عنه صديقنا زين العابدين في كتاب (حياة المسيح ووفاته) صفحة ٢١١ وهذا هو نص قوله بحرفه: (وأنا كذلك لا أقول: إن مقام العيسوية ختم بي وانطوى ولا يأتي مسيح بعدي، كلا بل إني لأؤمن وأقول مرة بعد أخرى إنه بالإمكان أن يجيء أكثر من عشرة آلاف مسيح) . وعلى هذا فالمسحاء الذين يظهرون في آخر الزمان لهداية الناس كثيرون في اعتقاد (غلام أحمد) واعتقاده هذا يتفق مع مذهب أهل السنة من أنه تعالى (يبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) بناءً على أثر وارد في هذا المعنى. لكن غلام أحمد يتسامح فيسمي كل من يقوم في آخر الزمان للهداية العامة (مسيحًا ومهديًّا) كما يسميه (مجددًا) أما أهل السنة فيسمونه (مجددًا) فقط ويحتفظون بلقب عيسى والمهدي للمجدد الأخير. ويوشك أن نتفق ونجعل الخلاف بيننا وبين (غلام أحمد) لفظياً لو لم نره يعود فيخالفنا ويزداد في التسامح والتساهل فيسمى المجدد (نبيًّا ورسولاً) كما يسميه (مسيحًا ومهديًّا) ، إذ تكون دائرة التجديد في العيسوية أوسع مما كنا نظن. فالآن وبعد الآن يقوم وسيقوم وسوف يقوم في المسلمين (مجددون ومسحاء ومهديون ورسل وأنبياء) ألفاظ مختلفة والمعنى واحد رجال من المسلمين يظهرون في أوقات متعددة وأمكنة متباينة لهداية المسلمين. في هذه الدائرة الواسعة وجد (غلام أحمد) لنفسه متبوءًا حسنًا فتبوأه، أعطى نفسه كل هذه الحُلى والألقاب، فهو يسمي نفسه في كتبه (نبيًا ورسولاً) من دون جمجمة ولا تقية. بل الأغرب أن صاحبنا (زين العابدين) لا يذكر اسمه إلا مشفوعًا بالصلاة والسلام عليه، كما يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يقال: ماذا يضركم التسامح في إطلاق الألفاظ؟ فإذا كان (غلام أحمد) يطلق على كل مجدد يظهر في الإسلام اسم (نبي ورسول) كما يطلق عليه اسم (مهدي) و (عيسى) فنسلم له هذه التسمية تفاديًا من النزاع حول الألفاظ. وكل ما في الأمر أننا نسمي المجدد مجددًا فقط. وهو يتسامح كل التسامح، فيسميه (نبيًّا ورسولاً) ويبني تسامحه هذا على التوسع في أصل المعنى اللغوي للنبوة والرسالة. فنقول في الجواب: نعم، ولكن (غلام أحمد) لا يكتفي بما مر، بل يعود فيفرط إفراطًا آخر، ويزعم أن ذلك المجدد المهدي المسيح النبي الرسول - يتلقى وحيًا من الله - وهو بالطبع يريد كل مجدد لا المجدد الذي قام بقاديان وحده. إذ لا يتصور أن يبشر بالمجددين ويسميهم أنبياء ومرسلين. ثم يقول: إنهم لا يُوحى إليهم، وإنما يوحي إليه وهو وحده خاصة. وبعد جدال وحوار طويلين مع (غلام أحمد) في مفهوم معنى كلمة (الوحي) الذي يكون لهؤلاء المجددين لغة واصطلاحًا - نعود ونقول له: سلمنا بما قلت ولكن: (١) هل هذا الوحي الذي تتلقاه أنت وزملاؤك يكون بتكليم ملك وبصوت مسموع كما كان يوحى إلى الأنبياء المذكورين في القرآن، وخاصة محمدًا صلى الله عليه وسلم؟ فإن قال (غلام أحمد) إن وحي هؤلاء المجددين المتأخرين ليس بتكليم ملك، وإنما هو محض إلهام ومجرد شعور نفسي. نسلم له ونتفق معه أو نكاد نتفق، وإن قال: إن وحينا نتلقاه بواسطة ملك وبصوت مسموع منه فنسأله؟ . (٢) هل إن هذا الوحي (مطلقًا سواء ادعيته إلهامًا أو كلامًا مسموعًا) هو وحي معصوم لا يتطرق إليه خطأ ولا وهم، أو أنه قد يخطئ، وقد يصيب؟ فإن قال: إنه غير معصوم، قد يخطئ وقد يصيب، سلمنا ورضينا وقلنا: ها نحن قد اتفقنا- أو كدنا -. وإن قال: إن وحيه ووحي إخوانه وحي معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذا قال ذلك نُبلت وننقطع عن الكلام، ثم نعود ونتشدد ونسأله: (٣) هل وَحْيكُم المعصوم هذا توجبون اتباعه على كل من يبلغه أمره، أو أن المسلم في وسعه أن يتبعه، وفي وسعه أن يرفضه؟ فإن قال: في وسعه أن يتبعه، وفي وسعه أن يرفضه، عاد إلينا الأمل بحسن التفاهم، وإن قال: بل يجب على كل مسلم بلغه وحينا أن يؤمن به وإلا استحق عقابًا أخرويًّا. إذا قال ذلك يعود اليأس فيخامرنا ونرى هُوة واسعة بيننا وبين الرجل، وبعد سكوت طويل وهجر جميل، نرجع إلى (غلام أحمد) ثانية فنسأله سؤالاً قد يكون جوابه قد فهم مما سبق، غير أننا نعود إليه زيادة في الاستيثاق والتثبيت. (٤) هل تستبد أنت وتستعلي على سائر إخوانك المجددين، والأنبياء المتأخرين، فتدعي أنك وحدك الذي يجب الإيمان به، واتباع وحيه، وأن الآخرين لا يجب اتباعهم ولا الإيمان بهم؟ إن قال: نعم، أنا وحدي الذي يجب عليكم اتباعه، ودعناه وانصرفنا بسلام. وإن قال: لا، بل عليكم أن تتبعوا جميع أولئك المسحاء والمهديين المتأخرين. إذا قال ذلك ختمنا الحديث معه، بقولنا: إن المجددين الذين اعترفت لهم بمنصب التجديد (أو بمقام العيسوية كما هي عباراته) وقد ظهروا في عصور مختلفة من تاريخ الإسلام لم نسمع أحدهم ادّعى بأنه يُوحى إليه وحيًا معصومًا، وأنه يجب على الناس اتباعه، مع أنهم و (غلام أحمد) سواء في المرتبة والمقام، فلماذا هذا (الامتياز) ؟ دعنا من المجددين المتقدمين، فإن (غلام أحمد) قد يقول: إن زمانهم لم يكن آخر الزمان الذي يظهر فيه المسحاء المجددون حسبما يفهم من الآثار الدينية، فلم يكن أولئك سوى مجددين وليسوا مسحاء موعودين. أجل وماذا يقول في الزعماء الذين قاموا في هذه الأزمنة المتأخرة باسم الهداية العامة، وقد استنار بهم واهتدى بهديهم خلق كثيرون كالشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد في الجزيرة العربية، والسيد أحمد السنوسي وابنه المهدي [١] المجددين في قارة أفريقيا والحرمين الشريفين، وكالسيد جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الأستاذ الإمام اللذين يعتقد مريدوهما أنهما مجددا هذا العصر وغير هؤلاء ممن قام بإرشاد وهداية انتفع بها الكثيرون، ونرى أتباعهم يتفانون في حبهم، والاعتراف ببلائهم، وحسن خدمتهم للإسلام، ويذهب كل منهم إلى أن صاحبه هو المجدد الحقيقي المَعْنيّ فيما ورد من الآثار، نعم إن أحدًا من هؤلاء المجددين المعاصرين لم يدع وحيًا ولا مهدوية ولا (مقام عيسوية) ولكن لو فرضنا أن أحدهم ادعى هذه الدعوى، وأَيَّدَ دعواه بظهور أثر الإصلاح والخير في أتباعه، وأن له كرامات يسردها له مريدوه (كما يفعل غلام أحمد وأتباعه) لو ادعى ذلك فماذا نقول له؟ وهذا (غلام أحمد) نفسه قد بشر بهم إن لم يكن بأعيانهم وأشخاصهم فبمنصبهم (ومقامهم العيسوي) ، ونحن الآن إنما نتكلم عن طبيعة هذا (المقام العيسوي) الذي نحله (غلام أحمد) لنفسه ولغيره من المجددين عفوًا. لا جرم أن قيام غلام أحمد بهذه الدعوة، وما يتوقع من قيام غيره بمثل دعوته يجعل الأمة الإسلامية ترتكس - وهي في القرن العشرين - في ظلمات أشبه بظلمات القرون الوسطى. بينما نرى الأمم الأخرى تسبح من العلم في أنوار، وتتحصن من العزة والقوة بأسوار. تنهض الأمم الحية في هذا العصر بنبوغ الكثيرين من أبنائها نهضة عمادها الأسباب المعهودة في النهضات التي يعبرون عنها بكلمة (رينسانس) Renaissance وتاريخ هذه النهضات في كل أمة وتطوراتها، والعوامل المؤثرة فيها، مما يدرس للطلاب في المدارس لتقتدي به الأمم المقصرة، والشعوب المتأخرة، وقد استفاد من هذه القدوة عدد ليس بقليل من أمم الأرض في الشرق والغرب، فهي تنهض نهضتها وتلم شعثها وتتبوأ مكانتها من طريق الإصلاح السياسي والاجتماعي، ونحن وحدنا معشر المسلمين يحاول قوم منا النهوض إلى مستوى تلك الأمم من طريق ملتوٍ وعر، من طريق روحاني سماوي، من طريق تمشي فيه القهقرى، من طريق يؤدي بطبيعته إلى الخلاف والنزاع وتمزيق الشمل والتفرقة بين لمسلمين. هذه هي نتيجة دعوى المهدوية الروحانية في عصرنا الحاضر. ومن ينكرها وهي بارزة للعيان، في كل زمان ومكان، ولا ينس القارئ، متمهدي السودان. لماذا لا نصلح اجتماعنا من طريق العلم، وإصلاح الأخلاق، وتنوير الأفكار، فتنهض الأمة نهضة مشتركة، كما نهضت حمامات كليلة ودمنة منذ تعاونت على الشبكة؟ أليس هذا الطريق هو الأجدر بنا أن نسلكه بدل ذلك الطريق الملتوي الذي يريد غلام (أحمد) سوق الناس فيه؟ إذا كانت هذه الدعوى (دعوى الإصلاح الروحاني) تليق بالقرون الماضية بحسب السنن الإلهية في استصلاح أهل تلك القرون، أتراها تروج اليوم وقد اختلفت العقول والأفكار، وتبدل كل شيء حتى كاد يتبدل الليل والنهار؟ الأمم تتقدم إلى الأمام في ثقافتها وعقليتها ونحن نرجع إلى الوراء مئات من السنين، أليس السبيل المطروق الذي سارت فيه أمم العصر للوصول إلى غايتها من العزة والمدنية - هو الإصلاح الداخلي وتقوية الوحدة الوطنية ونشر العلوم الصحيحة المؤسسة على التجربة والامتحان، وتقويم التربيتين السياسية والعائلية؟ هذا هو الطريق الأقوم في إنهاض الأمم التي زالت عن أبصارها غشاوات الوهم، أما تلك التي مازالت مرتكسة في مهامة الجهالة، فربما راجت لديها دعوى الوحي والعصمة والاستمداد من عالم الغيب، بل يغلو دعاتها إلى أسمى مرتقى من الدعاوي والمزاعم , كدعوى البهائيين في زعيمهم الذي اخترعوا له اسم (بهيّ الأبهى) وهي مرتبة ربما كانت فوق النبوة والرسالة. إن الخلافة العظمى على خطورة أمرها بين عقائد الإسلام أصبحت الأمم الإسلامية الناهضة، مما تأبى انتحاله خشية أن يسيطر عليها الأجنبي بواسطته، فما بالك بدعوى المهدوية أو العيسوية التي هي من تقاليد الإسلام لا من عقائده؟ فإن السيطرة الأجنبية إذا تمكنت من قياد مدعيها أمكنها بسهولة أن تبسط سلطانها على الطائفة التي تخضع له، وتؤمن به. طرق النهضات العصرية التي أشرنا إليها آنفًا توحد بين أبناء الأمة بخلاف التجديد من طريق دعوى المهدوية والوحي السماوي، فإنه أصبح يفرق شمل الأمة التي تظهر فيها هذه الدعوى بحيث يجعل كل فرقة في حيز خاص بها، وبذلك تستفيد الدولة المستعمرة التي تطمع أن يطول أمد استيلائها على تلك الأمة. وما يدرينا أن تكون دعوى (غلام أحمد) مما يروق لحكام الهند البريطانيين ويرونه مساعدًا على تفريق كلمة المسلمين وفصم عروة وحدتهم، فيؤدي ذلك بالطبع إلى رسوخ قدمهم في البلاد، ودوام سيطرتهم عليها. ومن لطيف المصادفات أننا قرأنا في الصحف ونحن نكتب هذا المقال خبر ذلك الهندي الوثني الشاب (كريشنا مورتي) الذي ادعى أنه (المسيح المنتظر) وقد روج دعواه هذه جماعة من الأوربيين والأميركيين وأنشأوا له معبدًا في مدراس، وعقدوا له فيه مؤتمرًا عامًّا في شهر كانون الأول من سنة ١٩٢٥ شهده نحو عشرين ألفًا من الأوربيين والأمريكيين، وسيطوفون بمسيحهم هذا أقطار الأرض مبشرين ومنذرين، فلعل السياسة الإنكليزية هي التي مهدت الطريق لظهور هذا المسيح الجديد بين وثنيي الهند فتستفيد من ورائه تفتيت الكتلة الوثنية التي تعب (غاندي) في تكوينها، كما أنها استفادت من ظهور (غلام أحمد) تمزيق الوحدة الإسلامية التي تسعى الجمعيات لا سيما جمعية الخلافة في تكوينها. هذا ما أردت أن أحدثك به يا صديقي (زين العابدين) ولو كنت من أولئك الجهلة الجامدين والأغبياء الجلجلوتيين، لأعرضت عن خطابك، ولما أطلت النفس في لومك وعتابك، ولكنك ذلك العالم الفطن المُتنور الذي لا ينسى أنه عاهدني وعاهدته على خدمة القرآن ونصرة تعاليمه، وما عاهدته يعلم الله على ذلك إلا وأنا أريد أن أخدم القرآن من طريقه المعهود، لا من طريق المسيح الموعود، فحقق ظني أيها الأخ بك، ودع كلمتي هذه تتغلغل إلى موضع الإنصاف من نفسك والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... دمشق ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المغربي (المنار) الحق أقول: إن الكاتب قد أطال النفس في لوم صديقة وعتابه كما قال، بل كان شأنه معه في هذا المقال، كما كان شأنه معه في ذلك الحوار والجدال، الذي وصفه بقوله: فكنا تارة نجادله، وطورًا نهازله، وآونة نعجب منه، وأحيانًا ننافح عنه. وما حمله على ذلك فيما يظهر إلا ظنه أن صديقه زين العابدين مخلص في دعواه أنه هو وأهل نحلته يريدون الإصلاح للمسلمين، وأنه يُرجى أن يرجع إلى الحق إذا دُعِي إليه بالرفق واللين، وأقيم عليه ما لا يمارى فيه من الحجج والبراهين، فإن صَدَقَ ظَنُّه اعترفنا بأننا كنا في سوء ظننا بجميع القاديانية من المخطئين، وآمنا بأن أسلوب صديقنا (المغربي) أفضل أساليب المناظرين. كان (غلام أحمد القادياني) يُهْدي إليَّ كتبه في حياته وكنت أردّ عليها، وأظهر له وللناس بعض ما دونه من الجهل فيها، وقد ظننت أولاً أنه من أولئك الممسوسين، الذين يتخيلون فيخالون، ويتمنون فيعتقدون، فيدعون المهدوية تارة والنبوة أخرى ولا يخلو زمان منهم، وقد رأينا بعضهم وسمعنا أخبار بعض. وهم من طبقات مختلفة في تربيتها ومعارفها وصفاتها. وربما كان (الباب) منهم لا البهاء ولا ولده عباس ذو الكيد والدهاء، الذي لقب نفسه بعبد البهاء، ولولا أدب الشرع لبالغت في التجوز فسميته خالق البهاء. وقد ترجح عندي أن القادياني على هوسه وغروره دجال لم يكن يعتقد ما ادعاه، وإنما قصارى هوسه أنه ظن أنه يمكنه أن يقنع كثيرًا من الناس بأن بعض كلامه وحي من الله، وأنه بلغ حد الإعجاز. وقد كان يتعمد خدمه الإنكليز بما أشار إليه الكاتب، وبزعمه أن فرضيه الجهاد قد نسخت على لسانه، بل كان يدعو إلى الإخلاص في الخضوع للإنكليز والرضا بسلطانهم، فهو مفسد في الدين وفي السياسة معًا. وله في إطراء الحكومة البريطانية والدعوة إلى إخلاص المسلمين لها كلام كثير كله نفاق، ومنه زعمه أن ملكة الإنكليز تفضل الإسلام وترجحه وتساعد على نشره، كما صرح به في كتابه (حمامة البشرى) وغيره. ومن قرأ نظمه ونثره يعلم أنه كان قد عني أشد العناية بدراسة اللغة العربية بنفسه ولم يتلقها عن جهابذة علماء فنونها وآدابها، وأنه سلك إليها المنهج اللاحب ولكنه لم يصل إلى الغاية، وأنه حفظ المعلقات السبع وغيرها من أشعار العرب الخُلَّص والمولدين، وحفظ مقامات الحريري كلها أو كثيرًا منها، وعُني بالنظم والنثر، مع تكلف التزام السجع، ولما رأى أن النظم والنثر بالعربية دانا له وسهلا عليه على قله من اشتهر بهما من علماء الهند وأدبائها الذين مارسوا علومها وفنونها في المدارس سنين كثيرة - ظن لجهله بفساد ما ينظم وينثر أنه مؤيد بالإلهام، وبالغ من الفصاحة والبلاغة حد الإعجاز، وإنه يمكنه أن يدعي الوحي ويتحدى علماء الهند بما يكتبه، فادعى أنه هو المهدي المنتظر عند الشيعة والجماهير من سائر المسلمين. وأنه هو المسيح الموعود الذي ينتظر المسلمون ظهوره أو نزوله قبيل قيام الساعة، والذي ينتظره النصارى أيضًا وكذا اليهود، ومن أكبر معجزاته أن القمر قد خسف تصديقًا له! ! ألف كتابًا سماه (إعجاز أحمدي) وله قصائد إعجازيه أيضًا وكلها من سخف القول وسقطه، وقد رددنا عليها في عدة مجلدات من المنار في عهده ومن بعده، وسنعود إلى نشر شيء منها ولا سيما نظمه الذي لا يستقيم له وزن ولا يلتزم فيه إعراب وإننا نذكر الآن أننا لما رددنا عليه أول مرة كبر عليه الأمر فألف كتابًا في الرد على (المنار) سماه (الهدى والتبصرة لمن يرى) هذى فيه هذيان المصروعين، وتهافت تهافت المعتوهين، وتناقض تناقض المخبولين وتوعد توعد القادرين، أو من له ميثاق بالنصر المبين، من رب العالمين. قال في (ص ٨، ٩) بعد أن ذكر إرساله كتاب الإعجاز إليَّ: (ثم لما بلغ كتابي صاحب المنار، وبلغه معه بعض المكاتيب للاستفسار عما اجتنى من ثمرة ذلك الكلام، وما انتفع بمعرفة من معارفه العظام، ومال إلى الكلم والإيذاء بالأقلام، كما هو عادة الحاسدين والمستكبرين من الأنام، وطفق يؤذي ويزوي غير وانٍ في الإزراء والالتطام، ولا لاوٍ إلى الكرم والإكرام، كما هو سيرة الكرام، وعمد إلى أن يؤلمني ويفضحني في أعين العوام كالأنعام، فسقط من المنار المنيع وألقى وجوده في الآلام، ووطئني كالحصى، واستوقد نار الفتن وحضى، وقال ما قال وما أمعن كأولي النهي، وأخلد إلى الأرض وما استشرف كأهل التُّقى، وخر بعد ماعلا، وإن الخرور شيء عظيم فما بال الذي من المنار هوى، وأشترى الضلالة، وما اهتدى، أم له في البراعة يد طولى، سيهزم فلا يرى، نباء من الله الذي يعلم السر وأخفى) . فقوله: (وخر بعد ما علا - إلى قوله - سيهزم فلا يرى) وعيد لصاحب المنار بانتقام من الله تعالى لا يبقي له في الوجود عينًا ولا أثرًا، وأن الله تعالى هو الذي أنبأه بذلك فيما يوحيه إليه، فهو لا شك ولا مراء فيه! ! ولكن نعم الله الظاهرة والباطنة ما زالت تتوالى على صاحب المنار، وإن هذا الدجال هو الذي انهزم وزال من الوجود، ولم تقر عينه ولا نعم سمعه بمكروه أصاب صاحب المنار، ولما مات كتبت مذكرًا بهذا الوعيد، وقلت: لو أنني أصبت في عهده بسوء ولو مما يصاب به كل الناس لعدة معجزة له أكبر من خسوف القمر، وأشد بهاءًا من نوره إذا انجلى وأسفر، ولكن أتباعه يملأون مواضغهم وصحفهم وكتبهم تنويهًا بهذه المعجزة! فعلينا نحن أن نستدل بما ذكر من خذلان له، وتكذيب ما ادعى أنه نبأ منه، على كذبه في دعواه الوحي والمسيحية، وهذه الدلالة أقوى من تلك لو وقعت الشبهة لأن المصائب تقع على جميع الناس، وأقوال الدجالين لا تمنع وقوع ما سبقت به الأقدار، ولكن تخلف الوحي الإلهي الذي يؤيد الله به أنبياءه ورسله محال، ولو كان جائزًا لما قامت حجة الله على خلقه بإرسالهم {قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: ١٤٩) . ((يتبع بمقال تالٍ))