للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خطبة جمعة في سوء حال المسلمين في هذا الزمان

(س٢٦) من م. ا. ص في سنغافورة
سنغافورة في ٧ جماد الأول ٣٢٧
حضرة العلامة الفاضل السيد: محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المنيرة
بمصر، قد أتى على المسلمين بهذه الأصقاع حين من الدهر وهم لا يسمعون
الخطبة في مساجدهم غير خطب ابن نباتة أو نحوها، فتعودوا سماع فضائل
الشهور، وبيان قرب الساعة والحث على ترك الدنيا إلى غير ذلك، ولما كان
الزمان في تقلب دائم، حصلت الفرصة في الجمعة الماضية للغيور الأديب الشاب
المحبوب عباس بن محمد طه فأنشأ خطبةً تناسب الأحوال الحاضرة بهذه الجهات
تمام المناسبة، ثم رقى المنبر بالجامع الكبير المسمى: (مسجد سلطان) فخطب
خطبة تؤثر في نفوس الغيورين، وإن خطيب المسجد لم يخطب في ذلك اليوم؛
نظرًا لما كان عليه من العذر، ثم طفق الجامدون بعد فراغ الصلاة يشيعون أن
الخطبة لا تليق أن تكون خطبة للجمعة؛ لأن فيها تكفير المسلمين وذمهم ومدح
الكفار، مع أن خطبة الجمعة دينية محضة، وما في هذه الخطبة من أمور الدنيا
وتقبيح أحوال المسلمين ورفع شأن الكافرين مُخل لنظر الدين؛ ولذلك قال هؤلاء:
إنهم لا يريدون أن يصلوا الجمعة في هذا الجامع إذا أعيدت تلك الخطبة، حتى بالغ
بعض الناس في سب ذلك الخطيب، وسمعت ذلك أنا والشيخ عبد القادر وغيره،
فعلمنا أن كره المغفلين هذه الخطبة قد بلغ الغاية، وإننا قد اطلعنا على الخطبة عند
بعض معارفنا، فنقلت منها عدة نسخ، نسخة منها لتقديمها إلى مجلتكم المنيرة،
وهذه هي الخطبة:
(الحمد لله الذي جعل الجمعة من أسباب الاجتماع. تُقرأ فيه المواعظ لتمزق
غشاء الأسماع، فتتأثر منها القلوب والطباع، وتفتح بذلك أبواب الخير والانتفاع،
أحمده سبحانه وتعالى على جزيل الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له المنان، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالبيان، اللهم
صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه في كل وقت وأوان، أما بعد، فيا
عباد الله: إن ما حل بنا من ضعف وهوان , وفساد في الأعمال وخسران , من
سوء تربية في الصغر تولد منه في الكبر فساد وطغيان , وتهاون بالصلاة وتجاهر
بالعصيان، وموت شعورعند سماع أوامر ونواهي القرآن , وكثرت الخرافات
والأوهام. أدخلها الجاهلون وصبغوها بصبغة دين الإسلام , ومعظم أهل زماننا هذا
هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان , والمصيبة في الأعمال والأديان , أعظم منها
في الأموال والأبدان , ونحن نعلم كل ذلك علم اليقين , وأهملنا شعائر الدين , فوقعنا
في شدائد متراكمة , ونظرت إلينا الأجانب نظر تحقير وملامة , وإن التباعد عن
الاهتداء بهدى الشرع الكريم وعدم التمسك بعروة الدين القويم، قد أدى بنا ذلك إلى
الإهمال، والانحطاط وشر المآل، وديننا يأمر بالتعاون والاتفاق، ونحن نسعى إلى
التنافر والافتراق، حتى ذهبت أعمالنا أدراج الرياح، وضاعت أوقاتنا بين الجد
والمزاح، ولا نقدر على القيام بمهام الأعمال، ولا على مثابرة الأشغال، فآلت أمورنا
إلى أسوء الحال، وخابت الآمال، وإننا لو اتحدت كلماتنا، وصرنا حزبًا متعاونًا
ساعيًا في مصالح أمورنا، في ديننا ودنيانا، لكان أكبر الأعمال هينًا، ونجح نجاحًا
مبينًا، وإذا نظرنا إلى حال الأمة الغربية، ذات السعادة والرفاهية، وجدنا أنها
تدرجت على أصول الإسلام، وبذلت الجهد في التعاون والاتحاد والالتئام؛ كان
أكبر المشروعات عندها من أسهل الممكنات، وإن كان عندنا يعد الناس نجاحه من
المستحيلات، وهم يعقدون الشركات وينشئون الجمعيات؛ ليعود ذلك على أبناء
ملتهم بالنفع والفضائل، ونحن ننشئ الجمعيات للتلوث بأدران الخمول والرذائل،
ويعود ذلك علينا بضعف الديانة، وتضييع الصيانة، كانت المواعظ عندهم داعية
إلى التقدم السريع، وعندنا قد صارت سلمًا إلى تأخرنا الشنيع، فيا ذوي الأبصار؟
أين التبصر والاعتبار؟! وما هذه الغفلة والاغترار؟! فليت شعري ما اعتذاركم بعد
الإنذار، أما علمتم أن الله لم يخلق الدنيا عبثًا؛ بل جعلها دار سعي واختبار، يعقبها
بدار جزاء وقرار، وجعل لنا العقول؛ لنميز بها النفع والأضرار، وأمرنا بفعل
الخيرات ونهانا عن الأوزار، ومن أطاعه أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار،
وليس لنا عليه بعد ذلك حجة ولا أعذار.
عباد الله، تعاونوا واتفقوا , واعتصموا بحبل اللَّه جميعًا ولا تفرقوا (الحديث)
قال صلى الله عليه وسلم: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لأخراك كأنك
تموت غدًا) . إلى آخر الخطبة.
وما دعاني إلى إفادتكم بهذه الواقعة إلا لنصرة الحق وحضرتكم أهل لذلك.
(المنار)
وجاءنا سؤال آخر عن خطبة هناك الظاهر أنها هذه بعينها، وهذا نصه:
سنغافورا ١٣ جماد الأول (؟) سنة ١٣٢٧.

(س٢٧) من س. ح. س.
حضرة العلامة الفاضل السيد: محمد رشيد رضا صاحب المنار بمصر، لا
يخفى أن من طبيعة الإنسان حب الفخر والشهرة، ويوجه كل قوته إلى الوصول
إليه بأي وجه كان، ولا يجول بخاطره أنه أمام الملأ من الأكابر كالذبابة، لولا ذلك
لما تجرأ بعض الناس على تلاعب بعض أمور العبادة، فقلب الخطبة على غير
وجهتها التي شرعت لأجلها، فخطب على منبر أكبر الجوامع هنا خطبة تقشعر من
سماعها الأبدان؛ يكفر فيها المسلمين ويقبح أعمالهم، ويستحسن أعمال الكافرين،
وذلك بمسمع من العباد والعلماء؛ ظنًّا منه أن ذلك مما يوجب فخره، ولا يدري أن
الأمر بالعكس، وقد أفتى العلماء بمنع أن تخطب خطبة الجمعة مثل تلك الخطبة؛
ولذلك جئتكم بهذه الرقعة سائلاً عن رأيكم الصائب في ذلك.
(ج) إن المصريين ليعجبون من استنكار بعض مسلمي سنغافورة لهذه
الخطبة؛ التي يسمعون كل جمعة في مساجدهم ما هو أشد منها إنكارًا لحال
المسلمين وتركهم لهداية دينهم، وإضاعتهم لمصالح دنياهم، وتقدم سائر الأمم عليهم،
ومن ذلك عبارة يكررها في الخطبة الثانية الشيخ (خالد النقشبندي) خطيب مسجد
(الست الشامية) المشهور بالصلاح وحسن الخطبة، وهي (اتقوا الله، فقد تقدم
الأجانب وتأخرنا. اتقوا الله، فقد نشطوا وكسلنا) .. إلخ، وهو نحو مما قاله
خطيب سنغافورة، فلماذا استنكر هناك ولم يستنكر هنا؟ لا سبب لذلك إلا أن
العلماء والعوام هنا أعلم ممن هناك بالإسلام والمسلمين وما يحتاجون إليه، وهذه
هي الخطب التي يسمونها الخطب العصرية، ويرجون فائدتها ونفعها، وينتقدون
الخطب القديمة التي معظمها: مدح للشهور، والمواسم بالباطل، وذم للدنيا وتزهيد
فيها، على أن تلك الخطب القديمة المشهورة في جميع البلاد الإسلامية لا تخلو من
وصف المسلمين بترك الإسلام، وإضاعة الكتاب والسنة، والضراوة بالمعاصي
والمنكرات، وناهيك بتلك العبارة المشهورة التي حفظناها من الخطباء لأول عهدنا
بالصلاة في صغرنا وهي: (لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه)
ومهما أكثر المكثرون من الإنكار على المسلمين، ووصفهم بإضاعة الدين، فهم لا
يأتون بأبلغ من هذه العبارة، ولا يكونون إلا شارحين لها.
ماذا ينتظر السائلون عن هذه الخطبة من المنار وهو نبه منذ سنته الأولى إلى
وجوب إصلاح الخطابة في المساجد الجامعة، وترك تلك الخطب المحشوة
بالأباطيل المميتة للهمم، وقد كتبت قبل إنشاء المنار فصلاً طويلاً في الخطابة
أودعته كتابي (الحكمة الشرعية) فهل ينتظرون مني أن أجيز تلك الخطب السخيفة
المألوفة، وما فيها من الأحاديث الموضوعة، وأنكر ما يجيء به أذكياء الخطباء من
المنبهات التي تزلزل ذلك الجمود القديم.
يظهر أن أنكر ما استنكروه من هذه الخطبة هو اقتباس الخطيب قوله تعالى
{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} (آل عمران: ١٦٧) يريد أن الذين
تلبسوا بتلك المنكرات التي نهى عنها هم يوم إذ أدخلت عليهم الخرافات والأوهام
وتلبسوا بها أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، وليس هذا تكفيرًا صريحًا، ولا هو
في قوم معينين بذواتهم، وإنما هو في قوم يأتون ما نهى عنه الإسلام ويتركون ما
أمر به، فماذا يريدون أن يقول الواعظ فيهم؟!
أخرج ابن أبى شيبة في المصنف عن عبد العزيز بن أبي داود وابن أبي
حاتم عن مقاتل، أن الصحابة أخذوا في شيء من المزاح، فأنزل الله فيهم: {أَلَمْ
يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ
أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: ١٦) ومن المعروف عند أهل القرآن أن الفسق والظلم والكفر كثيرًا ما
ترد فيه على مورد واحد، كما بيناه في تفسير {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: ٢٥٤) وروى مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن ابن مسعود قال:
ما كان بين إسلامنا وبين إن عاتبنا الله بهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ} (الحديد: ١٦) ... إلخ
إلا أربع سنين، وعنه قال: لما نزلت هذه الآية، أقبل بعضنا على بعض: أيُّ شيء
أحدثنا، أيّ شيء أضعنا؟ فإذا كان رب العزة يعظ أفضل المؤمنين من السابقين
الأولين بمثل هذه الآية، فهل يستنكر في مسلمي زماننا مثل تلك الخطبة؟ ما هذا
الغرور الذي أصابنا؟! نسيء ونطلب الشكر على إساءتنا! وليراجع السائلون
تفسير {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ} (البقرة: ٢١٤) في الجزء الثاني من
تفسير القرآن الحكيم (٣١١ ص- ٣١١) ولينظروا ما هي النسبة بين أولئك
المخاطبين بالآية عند نزولها، وبين أهل عصرنا هذا وهم مخاطبون بها أيضًا،
ومثلها كثير ننبه دائمًا في التفسير عليه، ونحث مسلمي زماننا على وزن أنفسهم
بميزان القرآن، ثم سيرة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة أصحابه عليهم
الرضوان، ولو شئنا أن نعزز ذلك بالأحاديث والآثار لفعلنا، ولكن المنصف
يكتفي بما ذكرناه، والمغرور أو صاحب الهوى لا يقنعه شيء يخالف هواه. أما إذا
كان السائل الثاني يعني بما ذكره خطبة غير التي أرسلها السائل الأول منهما، وفيها
تكفير للمسلمين صريح، وتحسين لأعمال الكفار التي هي من كفرهم، فلا مندوحة
لنا عن إنكار ذلك بشدة، أما الأعمال التي ليست من كفرهم فمنها الحسن والقبيح،
قال تعالى في اليهود: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة:
٦٦) .