للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشقاق بين العرب الحضارمة
ودعوتهم إلى الصلح

للأمة العربية مزايا وفضائل كثيرة، ومنها كغيرها من الأمم عيوب كبيرة،
وشر عيوبها وأضرها عليهم: التفرق والشقاق الذي يثيره التحاسد والتنازع في الجاه
وحب التعالي، ومنه التنازع في الإمارة والملك. فلولا هذا التنازع الذي شجر بينهم
منذ العصر الأول لملكوا الشرق والغرب، ولكان أكثر البشر عربًا مسلمين بتأثير
عقائد الإسلام وقواعده الإصلاحية العامة المرشدة إلى رفع الإنسانية إلى الوحدة
والأخوة والكمال الممكن في الهدى والعلم والحضارة. وإنهم - وقد ضاعت خلافتهم،
وزالت حضارتهم، وثُلَّتْ عروش ممالكهم - لو اتحدوا اليوم وجمعوا شملهم كما
فعلت الأمم التي تفرقت شعوبها قبلهم كالجرمان والطليان لأمكنهم أن يجددوا للعالم
الإنساني هداية وحضارة ودولة تنقذ شعوب البشر التي تفوقهم علمًا وقوة وسيادة في
الأرض مما هي مستهدفة له من خطر وفساد، كما أنقذ سلفهم البشر مما كان قد
أفسدهم من مدينة الروم والفرس وغيرهم من الأقوام.
لقد كان أفضل مأثرة لعرب حضرموت أن ضرب تجار منهم في الأرض
يبتغون التجارة فبلغوا جزائر الهند الشرقية - جاوه وما جاورها - وأهلها وثنيون
فنشروا فيها الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ إلا للعرب أجدادهم، ونالوا الحظوة
عند أمرائها وحكامها الذين اهتدوا بهم، وأثروا وتأثلوا وكثروا ولو كانوا على
معارف واسعة لعمموا اللغة العربية فيها كما فعل سلفهم في غيرها، ثم كان أقبح
مساوئهم تجاه تلك المأثرة الفضلى أن دب إليهم داء الشقاق والبغضاء في الوقت
الذي تنبه فيه الشعب الوطني الأصلي للعلم والعمل وجمع الكلمة ومباراة الشعب
الهولندي السائد من جانب ومقاومة تيارات الإلحاد والدعايات الكفرية والبدعية من
جانب آخر.
انشقت عصاهم القوية فكانت شظيتين سميت إحداهما العلوية، والثانية
الإرشادية، كل منهما تحاول كسر الأخرى، ويخشى أن تفوز كل منهما بما تحاول
فيُقضى على هذه الجالية العربية العريقة المجد، العظيمة القدر في قلوب هذا
الشعب، فتصبح حصيدًا كأن لم تغن بالأمس.
كل منهما يعيب الآخر بما إذا صح كله كان قبحه وضرره دون محاولة علاجه
بما يضاعف الداء، حتى يتعذر الشفاء، وهو الحسد والبغضاء، التي سماها النبي
صلى الله عليه وسلم الحالقة: حالقة الدين، وقد انتهت فيهم إلى سفك الدماء، بعد
الإسراف في الطعن والسباب، فكيف إذا كان مبالغًا فيه، على عادة الناس في مثله،
فإن كانوا قد صاروا همجًا لا زعماء لهم كما قال الشاعر العربي:
لا يصلح الناس فوضى لا سَراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
فلا بد من انتقام العدل الإلهي منهم على سنته تعالى في قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال:
٢٥) وليتدبروها وما يليها من قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ
فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: ٢٦) مع تدبر قوله تبارك اسمه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ
لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: ٧) .
وإن كان لهم زعماء يطاعون فعليهم أن يتداركوا الأمر، ويرأبوا الصدع، وإلا
كان عليهم وزرهم وأوزار الذين يتبعونهم في الإثم.
إنني لفي أشد الألم والحزن على هذه الجالية الكريمة، وطالما فكرت في
السعي إلى إصلاح ذات بينها، فلم أجد له طريقًا لاحبًا يرجى بسلوكه الوصول إلى
ما يرضي الفريقين، حتى إذا ما ألم بنا أخونا السيد إبراهيم السقاف من كبار
سروات العلويين، وبسط لنا ما كان بلغ به السعي مع صديقه وصديقنا الشيخ أحمد
السوركتي الأستاذ الأكبر للإرشاديين، واطلعنا على ما اتفقا عليه من شروط الصلح،
وما عرض لها من الفشل بسوء الفهم، تجدد عندي الرجاء في نجاح السعي،
فكتبت الخطاب الآتي، ونقلت له صورة منه في اليوم الذي سافر فيه من مصر
فأمضيتها له ليحملها إلى الفريقين (فحملها ونشرتها جرائدهما) وبقيت عندي
المسودة وهذا نصها:
خطاب صاحب المنار
لزعماء العلويين والإرشاديين

بسم الله الرحمن الرحيم
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: ١٠٣) .
من محمد رشيد رضا ابن السيد علي آل رضا الحسيني الحسني صاحب مجلة
المنار الإسلامي بمصر إلى إخوانه في الإسلام من جماعة العلويين والإرشاديين
الحضرميين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد فقد طال العهد على ما شجر بينكم
من الخلاف والشقاق، وما نجم عنه من الطعن في الأنساب، والنبز بالألقاب،
واللعن والسباب، وقطع الأرحام، المنافية لأخوة الإسلام، وقد آلم ذلك جميع
المسلمين، وسر أعداء الإسلام من ملحدين ومليين، وجعلوا هذا حجة لهم على
دينكم، وأنتم دعاته وحماته، وأجدادكم مهاجرته وأنصاره، ولعل أخاكم هذا من أشد
المسلمين حزنًا وأسفًا على ما حل بكم، وتمنيًا على الله تعالى أن يوفقه لإصلاح
ذات بينكم، وطالما فكر في ذلك فلم يهتد إليه سبيلا.
ثم إنني رأيت في العام الماضي ما وفقتم له من وضع شروط للصلح معقولة،
وسرني ما بشرتنا به الجرائد من اتفاق زعماء الفريقين عليها، ولكن لم ألبث أن
قرأت في جرائد مهاجركم أنكم نكصتم على أعقابكم، وحللتم ما عقدتم بأيديكم،
فكنتم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.
أيها الإخوان المسلمون:
إن محمدًا رسول الله وخاتم النبيين، الذي فضلكم الله باتباعه على العالمين،
لم يكن شيء بعد الشرك بالله والكفر به أبغض إليه من التفرق والاختلاف بين أمته،
وإنه ما أفسد عليه دينها، وأضاع مجد دنياها من بعده، إلا هذا التفرق والاختلاف،
وإنه ليحزنني أن أقول: إن التحاسد والتعادي والشقاق بين قومه العرب أشد منه بين
غيرهم من الأقوام والأمم، ولولا ذلك لكانوا أعز الأمم وأسعدها وأقواها، ولما هدموا
-بتفرقهم واختلافهم- تلك الصروح الشامخة التي بناها سلفهم باتحادهم وائتلافهم.
وإننا أيها الإخوان قد دخلنا في طور جديد من الانقلاب البشري يهاجم ديننا
فيه جيوش من الملحدين ومن (المبشرين) ومن المبتدعين، ومن المسلمين
المفرقين لوحدة الإسلام بالعصبية الجنسية واللغوية والوطنية (أيضًا) فديننا على
خطر في كتابه وسنته وهدايته وتشريعه ولغته، وهي قوام وحدة أمته، وأنتم أيها
العرب الخُلَّص أحق الناس بتلافي هذا الخطر وحفظ وحدة الأمة على اختلاف
أجناسها ولغاتها وأوطانها، وأنى يتسنى لكم هذا وأنتم أشد من جميع الأجناس
الإسلامية تفرقًا وتمزقًا، تخربون بيوتكم بأيديكم وأيدي أعدائكم، فأي شعب
يرضاكم قادة له وهذه حالكم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: ١)
أيها الإخوان المسلمون:
إنني نظرت فيما وضع مندوباكم من شروط الصلح، وفيما اقترح بعضكم لها
من تفسير يقصد به إغلاق باب الاختلاف في فهمها، وسد ذرائع التأويل السيئ
لشيء منها، فنقحت عباراتها، وبينت مجملها، بما أرجو أن يكون مقبولاً عند كل
منكم؛ لظهور المصلحة فيه عند أهل العلم والرواية منكم، وكل منكم يعلم فيما أظن
أنني حسن النية بريء من المحاباة في ديني، وأزيد على هذا أنه يمكنني أن أؤيدها
بتوقيعات أشهر زعماء المسلمين من أهل العلم والرأي في مصر وغيرها، فعسى
أن يرتضيها كل منكم، وتقر أعين المسلمين باتفاقكم الدائم إن شاء الله تعالى.

شروط الصلح بين جماعتي
العلويين والإرشاديين
(١) يراعي كل من الفريقين في معاملة الآخر معنى الإخاء الإسلامي
الثابت بقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) والفضائل الدينية
المستمدة من قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) ،
والمساواة الشرعية التفصيلية في سائر الحقوق الدينية والأدبية والاجتماعية العرفية
في حدود الشرع المبنية في مذاهب أهل السنة والجماعة التي ينتمي إليها الفريقان،
ويدخل في هذه الحقوق العرفية اختصاص العلويين بلقب (السيد) ككل من ثبت
نسبه للسبطين الشريفين بالتواتر أو بغيره مما ثبت به الأنساب في الشرع، ويدخل
فيها إفشاء السلام بدءًا وردًّا، وعيادة المرضى وتشييع الجنائز وتهاني الأعياد
والقدوم من السفر.
(٢) يُدفن كل من كان من ماضي العداء والخصومة المؤسف كأن لم يكن
فلا يعاد إلى شيء منه، ويعاهد الله كل من الفريقين على اجتناب كل دعاية إلى
سوء أو طعن على الآخر في الصحف أو المدارس أو المجالس وغيرها، وكل ما
يخالف الشرع من السباب، والتنابز بالألقاب، والطعن في الأنساب، وغير ذلك
مما يؤلم النفوس ويجرح القلوب ويجدد الشقاق، لقوله تعالى: {َ وَلاَ تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} (الحجرات: ١١) وقوله: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: ٣٢) .
(٣) يتعاون الفريقان على خدمة الإسلام ولغته ومقاومة أعدائه الطاعنين
فيه من دعاة الإلحاد والأديان والنحل المحدثة المخالفة لإجماع المسلمين الذين يعتد
أهل السنة بإسلامهم، وعدم موالاة أحد منهم عملاً بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: ٢) .
(٤) يتعهد كل من الفريقين بكف السفهاء الذين ينتمون إليه عن الطعن
المحظور في الآخر، فإن لم يتمكن الزعماء والوجهاء من كف بعض سفهائهم عن
ذلك يعلنون الإنكار عليه والبراءة من سفهه بالطريقة التي يقتنع بها الفريق الآخر
أن طعنه غير صادر عن إغراء ولا رضا.
(٥) كل من يطعن على العلويين أو الإرشاديين من غيرهم يتعين على
جمعية الرابطة العلوية وجمعية الإرشاد أن تستنكر طعنه بما يدل على عدم الموافقة
عليه فضلا عن تهمة الإغراء به، إلا إذا كان انتقادًا علميًّا أو أدبيًّا أو دينيًّا
موضوعُهُ الخروج عن أقوال الأئمة الأربعة الذين ينتمي أهل السنة إلى مذاهبهم.
وفي هذه الحالة يذكر المخالف بحكم الشرع وأدلته بالحكمة والموعظة الحسنة.
(٦) يعذر كل من الفريقين الآخر جماعة وأفرادًا فيما يخالفه فيه من الرأي
في المسائل الدينية غير الخارجة عن أقوال المذاهب الأربعة؛ لأن الاختلاف في
المسائل الاجتهادية طبيعي في البشر والاتفاق عليها كلها متعذر. والمسائل التي
عرف رأي الفريقين فيها يجتنب إثارة الجدال غير الودي فيها ما دامت موافقة أحد
هذه المذاهب فلا ينكر الآخذ بمذهب الشافعي (مثلا) على الآخذ بمذهب أبي حنيفة
أو مالك أو أحمد بن حنبل رضي الله عنهم، ويراعى مع الاتفاق على هذا الأصل
قاعدة: (نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) فلا
نتخذه وهو اجتهادي ظنيّ سببًا للتفرق والشقاق المحرم بالإجماع.
(٧) تتألف لجنة من العلويين والإرشاديين متساوية الأعضاء لمراقبة تنفيذ
مواد الصلح وشروطه، وتدارك ما عساه يبدو من أي الفريقين من مخالفة لها قبل
انتشارها وشيوعها الذي يتعسر معه تلافيها، فإن ظهر من أحد منها مخالفة لشرط
منها في الصحف أو غيرها ولم يمكنها إزالته توجه اللجنة نظر الهيئة العليا للفريق
الذي ينتسب إليه ذلك المخالف لتوقفه عند حده، وتعلن في أثر ذلك أنه لا دخل لها
في ذلك مطلقًا، فإن لم تتمكن من إيقافه عند حده يجب أن تعلن براءتها منه اهـ.