المقالة الرابعة السنن الكونية الاجتماعية ونظام الكون لقد أكثر هذا الملحد من ذكر السنن الإلهية ونظام الكون في هوامشه ومقدمتها، وجعلها هي المستند له في جحود آيات الله تعالى التي أيَّد بها رسله، وتحريف الآيات الواردة فيها وفي أخبار عالم الغيب كما تقدم، وقد وعدنا بإظهار جهله في هذه المسألة فنقول: إننا بفضل الله قد انفردنا دون سائر المفسرين بالكلام على هذه السنن والنظام الإلهي في تفسيرنا ومجلتنا، وهو قد سمع ذلك منا ولكنه لم يفهمه، بل لبسه كالفرو مقلوبًا، ونكس على رأسه فاتخذه منكوسًا، نحن قد أوردناه لتقوية الإيمان، والحجة على إعجاز القرآن، فجعله هو شبهة على الإيمان بالغيب وجحود آيات الأنبياء عليهم السلام، وما أوردناه من تأويل لبعض ما يحتمل التأويل على طريقة المتكلمين، قصدنا به تقريبه من عقول الجامدين على المألوف من النظريات العقلية أو العلمية، لئلا يَرُدُّوا النصوص بها فيرتَدُّوا، وقد صرحنا مرارًا بأن الذي ندين الله به من أخبار عالم الغيب، وما في معناها من آيات الله تعالى في الخلق، هو الإيمان بما صح منها بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وقد جعلها هذا الملحد قانونًا لتحريف ما لا يحتمل التأويل، كما قال الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ} (آل عمران: ٧) الآية، فوجب أن نأتي بخلاصة في المسألة مما نشرناه في مواضع متفرقة في المنار وتفسيره، ونقفي عليها بتفنيد ضلالته فيها، فنقول: قد أخبر الله تعالى في مواضع من كتابه بأن له سُنُنًا في عباده والأقوام الذين بعث فيهم رسله، وأن سننه لا تبديل لها ولا تحويل، وأخبر أيضًا بأنه أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء، وأن كل شيء عنده بمقدار، وأن خلقه في منتهى الإحكام والنظام. فما بيَّنه الله تعالى من أنواع هذه السنن، كنصره لرسله على الجاحدين المعاندين لهم، ومن إهلاكه للظالمين، ومن تدميره على الفاسقين المفسدين - فهو كما قال تعالى. وكذا ما بيَّنه من نظام الخلق ومقاديره، ككون الشمس والقمر بحسبان، وما جعله لهما في السماء من المنازل والبروج، ومن كونها لا تفاوت فيها من فطور ولا فروج، فهو كما قال عز وجل. وأما ما لم يبيِّنه لنا من ذلك في كتابه بنوعه أو عينه، فالطريق إلى معرفته هو ما أرشَدَنا إليه من النظر في ملكوت السموات والأرض، وما خلق من شيء، والتأمل في آياته في الآفاق وفي أنفسنا، والسير في الأرض لمعرفة آثار من قبلنا وكذا من في عصرنا بالأولى. قد أرشدنا كتاب الله عز وجل إلى كل هذا، وقد أشرنا في مواضع من المنار وتفسيره إلى ما هو ثابت بالحس من أن أعلم الناس بسنن الله وحكمه ونظمه في خلقه هم أكثرهم انتفاعًا بهذا العلم، واهتداء به إلى تسخير هذا الكون.
سنن الله مادية وروحية: وبيَّنا أيضًا أن هذه السنن وهذا النظام والتقدير والإحكام والتدبير، عام في كل ما خلقه تعالى من عالمي الغيب والشهادة، أو عالمي الأجساد والأرواح، أو المادة وما وراء المادة، على اختلاف الاصطلاح. وصرَّحنا بأن ما أيَّد به تعالى رسله من المعجزات، وكذا ما دون ذلك من خوارق العادات التي تسمى الكرامات، إذ لم يكن جاريًا على سنن النظام المألوف في القوى الجسدية والنظم المادية، فقد يكون جاريًا على السنن الروحية والمقادير الغيبية، وقد يكون بمحض القدرة الكاملة، فهو مزيد كمال في قدرته وحكمتها لا نقضًا لهما، ولا نقصًا فيهما. فإذا لم يكن من سنته تعالى في حياة الجسد إذا فُقدت بالموت أن تعود إلى الميت؛ فإن هذه السنة السلبية لا تنافي أن يهب الله تعالى بعض خواص الروحانيين من خلقه، كالملائكة أو المسيح الذي خلقه بالنفخ من روحه في أمه أن يمد بهذا الروح القوي ميتًا كألعازر أو البنت اللذين روت الأناجيل خبر إحيائه إياهما، فيسري فيهما من روحه ما يجذب إليهما الروح التي خرجت منهما بقدرة الله تعالى، ومثل ذلك حلول الحياة في عصا موسى في الوقت المعلوم الذي أمره الله فيه بإلقائها عند بعثته، وعند امتحان السحرة له، والله على كل شيء قدير. لا فرق بين ما لا نعلمه من هذه السنن الروحية، وما نعلمه من السنن الجسدية في كون كل منهما فعل مبدع الأرواح، وخالق الأجساد، ولا يعترض بإحداهما على الأخرى عند من يؤمن بأن الخالق واحد هو واضع السنن ومقدرها؛ ولكن هذا الأمر النادر ينكره من لا يؤمن بأن كلاًّ منهما فعل الله القادر على كل شيء. ومن الغريب أن أطباء هذا العصر وأعلم علمائه الماديين يرون من الجائز في العقل الذي يقرب أن يصل إليه العلم، أن تعود الحياة إلى جسد الإنسان أو الحيوان بعد موته بمدة غير طويلة كحياة البنت الميتة التي دخل المسيح عليه السلام بيت أبيها وأمها وسأل عنها فقيل له: إنها نائمة حتى لا ينغصوا عليه ضيافتهم له، فناداها قائلاً: لك أقول يا صبية قومي، فقامت بإذن الله تعالى. وأغرب من هذا أن منهم من يقول بإمكان إيجاد الحياة في بعض الأجسام بطريقة علمية صناعية، ونُقل أخيرًا عن عالم منهم اسمه مورجان أنه قام بتجارب عملية أثبت بها إمكان استيلاد مخلوقات حية على سبيل الشذوذ Emergeney، وملحد دمنهور لا يصدِّق أن المسيح أحيا الناس من موت الجهل والرذيلة؛ ولكن هذا النوع من الإحياء ثابت لجميع العلماء الذين يُعلِّمون الصغار - والجاهلين من الكبار - ما يزيل جهلهم ويحييهم حياة دينية أو أدبية أخلاقية، فهو لا يمكن أن تكون آية لعيسى عليه السلام ينوه بها كتاب الله، ويخبرنا أن الجاحدين لنبوته وصفوها بالسحر. وما عهد من المؤمنين بالله ورسله أحد ينكر هذه الآيات بمثل هذه الشبهة، وإنما عهد ذلك من الكافرين بالله وبرسله، أو من الزنادقة الذين يُظهرون الإيمان ويسرون الكفر لخداع المؤمنين وتشكيكهم في دينهم توسلاً إلى إخراجهم منه كملاحدة الباطنية. السنن من الممكنات بين المحو والإثبات: فإذا كنا نقول بثبوت سنن الله واطرادها لما بيَّنه الله من ذلك، فالواجب في ذلك أن نتبع كتاب الله فيما يبينه من خوارق العادات أيضًا، فلا نكون ممن قال الله تعالى فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: ٨٥) . وإذا أردنا أن نثبت هذه السنن واطّرادها من طريق العلم ونبني عليه تأويل ما يخالفها كله من نصوص الكتاب والسنة على طريقة المتكلمين المعروفة (وهو ما يمكن أن يستمسك به ملحد دمنهور) فيجب علينا قبل كل شيء أن نبين ما تقوم الأدلة العلمية القطعية على صحته واطراده واستحالة تغيره وتخلفه مطلقًا، وحينئذ لا نكاد نجد شيئًا بهذه الصفات إلا قليلاً من الضروريات (ككون النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان) وليس منها عودة الحياة إلى من مات ولم يطل العهد على موته، كالبنت التي أحياها المسيح عليه السلام، ولا إعادة وظائف التناسل إلى من فقدها من النساء والرجال، كما وقع لزكريا وزوجه عليهما السلام. والقاعدة عند علماء الكون - حتى الماديين منهم - أن كل ما نقول إنه من سنن الكون (أو نواميسه) فإنما هو بحسب ما ظهر لنا ببحثنا وتجاربنا، وأنه يجوز أن يظهر لنا ما يخالفه ويثبت لنا خطأنا فيه، كما حصل مرارًا فيما ظهر للباحثين من خطأ من كان قبلهم من العلماء والفلاسفة المتقدمين والمتأخرين، ولا أرجع في التمثيل لهذا إلى ما نقض علماء الحضارة الأوربية من قواعد علوم اليونان والعرب وأفلاكهم وفلسفتهم، ولا إلى ما نقض بعضهم من قواعد بعض في القرون الأربعة الماضية، بل أكتفي بأهم ما حدث من ذلك في عصرنا هذا: عثروا على مادة الراديوم الذي لا يجهل اسمه قارئ للجرائد، دع متلقي العلوم في المدارس، فكان بدء عصر جديد في الكيمياء والطبيعة تقوضت فيه سنن ونواميس كانت من المسلَّمات، وثبت خلافها، كإشعاعه الحرارة والنور إشعاعًا دائمًا من غير أن ينقص من وزنه شيء، وكعدم تأثير ما حوله فيه من حرارة وبرودة، وكتحول المادة الغازية التي تنبعث منه إلى عنصر الهيليوم، وبهذا ثبت شيء كان علماء هذا الفن يجهلونه؛ إذ كانوا يقولون إن عناصر المادة البسيطة لا يتحول شيء منها فيستحيل إلى غيره. وقد كانت سنة الجاذبية من المسلَّمات التي لا نزاع فيها حتى قام الأستاذ أينشتين الألماني بتقويض دعائمها بنظرية النسبية، التي فتحت في العلم بابًا جديدًا من أبواب المحو والإثبات في الطبيعيات وفي الرياضيات أيضًا. وتلك نظرية داروين في الانتخاب الطبيعي التي تدعمها سنن كثيرة في الجيولوجية والنبات والحيوان والإنسان قد وقعت في النزع والاحتضار، كما بيَّنا في مقالة خاصة في المنار، أو قُضي عليها بالتبع للقضاء على النظرية الميكانيكية التي بنيت عليها، كما نشر في بعض الصحف في هذه الأيام. أساس الكون ومصدره ومظهره: وما لي لا آتي إلى أساس هذا الكون والسنن التي قام بها تكوينه في الأطوار المختلفة، ألم يكونوا يقولون: إنه مؤلَّف من مادة ذات عناصر بسيطة، وقوة هي منشأ التركيب الذي حدثت به الصور المختلفة في العالم كله. قد هُدم هذا الأساس إن لم يكن بما ثبت من تحول عنصر إلى عنصر، فبما ثبت من تحول القوة إلى مادة، ثم بما ثبت من أن ما نسميه المادة والقوة اصطلاح لا تُعرف له حقيقة، وأن هذا الوجود الذي نعرفه في أرضنا وسمائنا ليس سوى مظهر من مظاهر تموجات الكهرباء، وأن كل ذرة من ذراته تتألف من عدة كهارب سلبية تدور حول كهرب إيجابي - والكهرب هو الوحدة من الكهرباء - وهذه الكهارب لا يمكن أن يقال إنها مادة ولا إنها قوة، وإنما حقيقتها مجهولة. وهذا الذي استقر عليه رأي علماء الكون أخيرًا يؤيد ما أثبتناه في المنار وفي تفسيره من أن أول مظهر من مظاهر التكوين الذي نسميه المخلوق الأول مجهول للبشر، وأن علماء الكون اختلفوا في إمكان علم البشر به، فمنهم من يقول: إنه يمكن الوصول إلى العلم به بطول الترقي في معارج العلم، ومنهم من يقول بعدم إمكان ذلك، ونقل هذا عن الفيلسوف سبنسر قبل القول الأخير بتركب الذرات من الكهارب، ورأينا في هذه الأيام من نقله عن الأستاذ صليفان. بل هو مثبت لأقوى الأدلة العقلية على وجود الله تعالى عندنا، وهو أن جميع مظاهر هذا الكون السماوية والأرضية تطورات تستند إلى حقيقة غيبية لا يعلم أحد كنهها، وقد بيَّنا ذلك مرارًا كثيرة منها مناظرة دارت بيننا وبين العلامتين صاحبي المقتطف. فإذا كانت المادة تصدر عن القوة كما قالوا فما المانع من القول بأن هذه القوة هي قوة الله وقدرته؟ وإذا كان الوجود الممكن كله مظهرًا من مظاهر تموجات الكهرباء المجهولة الكنه، فأي بعد بين قولهم هذا وقول أتباع الوحي: إن الوجود الممكن الظاهر صادر عن الوجود الواجب الغيبي الباطن و {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد: ٣) . نكتفي بهذه الكلمة الوجيزة في سنن الوجود الظاهر المدرَك بالحواس، الذي بلغ البشر من العلم بها مستوى لم يُعرف في التاريخ ما يقرب منه لأحد من شعوب الحضارة القديمة. وإذا نحن ارتقينا عنه إلى علم النفس، وما تجدد فيه عند علماء العصر، علمنا أن في الوجود سننًا غير سنن المادة بأنواعها بعد أن صار التنويم المغناطيسي من الحقائق الثابتة بالتجارب المطردة، وما تبع ذلك وتقرر من بعض أنواع الكشف الذي يعبرون عن بعضه بقراءة الأفكار وبمراسلة الأفكار، وقد شاهدنا بعض ذلك بالطريقة الصناعية، بعد ثبوته عندنا بالهبة الإلهامية. ووراء هذا وذاك مسألة مناجاة الأرواح التي آمن ببعض مظاهرها مَن لا يحصى لهم عدد من العلماء الطبيعيين والرياضيين، ووقف كثير منهم عندها حائرين. وفوق ما ذُكر كله قدرة رب العالمين، وإرادته واختياره في الخلق والتقدير والتدبير، وهو واضع السنن والقوانين، ومُسخِّر الأسباب والنواميس، الحاكم بها وعليها وفيها بعد إيجاده لها، والمبدع لما شاء قبل وجوده وبعده {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: ٨٢-٨٣) . الإيمان بقدرة الفاطر فطري أو فكري والشذوذ فيه: فالإيمان بقدرة الفاطر المبدع، الخالق المصور المقدِّر، غريزي في هذا الإنسان المفكر، ظهر في أجياله المفكرة في مظاهر مختلفة، من فطرية ساذجة، وفكرية راقية، ووجدانية شعرية، وروحانية إلهامية. وشذَّ أفراد من المفكرين في هذا الأمر وفي اختلاف الناس فيه كشذوذ الناس في كل علم وعمل، لم يظهر لهم الصواب في جانب أحد منهم، ولا في شيء آخر يصح أن يكون فصلاً فيما اختلفوا فيه، فكانوا فريقين (أحدهما) معطِّل لا يؤمن بشيء غيبي فوق هذا الوجود المدرَك بالحواس (والثاني) شاك حائر بين إثباته ونفيه. ذلك بأن البشر قد فُطِرُوا على التفاوت العظيم في الاستعداد للعلم والعمل، وهذا التفاوت يقتضي بطبعه الاختلاف في الفهم للشيء والحكم فيه، والاختلاف بين الناس في وسائل معارفهم البشرية ومقاصدها، يفضي بهم إلى الترقي فيها، فهو نافع ما لم يكن علة أو معلولاً للتفرق والتعادي. ومن المعلوم بالعقل والتجارب أنه لا مثار لاختلاف التفرق فيما ترتقي به الزراعة والصناعة، ولا في وسائل انتشار التجارة، إذ لا يرى أحد من الناس غضاضة على نفسه ولا على قومه في اتباع ما سبقهم إليه غيرهم فيه. وأما العلم بما يجب الإيمان به من وجود الفاطر وصفاته وشكره وعبادته، وما يرضيه أن يكون عليه عباده، فهو مما لا يرتقي ويتمحص باختلاف الناس فيه، ولا هو مما يسهل عليهم أن يأخذ كل قوم ما سبقهم إليه غيرهم فيه بكسبهم واجتهادهم، إذ لا يمكن أن يصل ذلك إلى درجة القطع التي يزول فيها الخلاف بالضرورة، وقد ثبت بالتجربة في الأجيال والآماد الكثيرة، أنه كان أعظم أسباب التفرق والتعادي وسفك الدماء الغزيرة. حاجة البشر إلى الدين المستمَد من الوحي: فمن ثم كان البشر في أشد الحاجة لبيان الحق فيه إلى وحي من الله عز وجل، تقوم به الحجة على جميع أولئك الفرق من المؤمنين المختلفين، ومن الملحدين المعطلين، والشاكين اللاأدريين {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: ٢١٣) الآية. وقد كان من حكم كتاب الله الحق فيما اختلف فيه الناس بمقتضى ما ذكرنا من غريزة التفاوت بينهم في العلم والفهم والحكم، أن العالم كله صادر عن قدرة الله تعالى ومشيئته واختياره، سواء فيه ما أبدعه ابتداء، وما خلقه بنظام السنن العامة في الأسباب والمسببات، فالسنن وما وضعت له وجرت فيه كل ذلك بيد الله يتصرف فيها بمشيئته ليس مقيدًا بشيء منها، فهو إذا شاء غيرها؛ ولكنه لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته، فصفات الله تعالى من العلم والحكمة والمشيئة والقدرة والرحمة لا تناقض ولا تعارض في متعلقاتها، كما بيَّناه مرارًا في تفسيرنا. هذا حكم الله تعالى في كتبه لرسله كما نراه في نصوص آخرها الذي أنزله الله مصدقًا لها ومهيمنًا عليها، وسنذكر بعض الشواهد منه فيها. ويقابله قول معطلة الماديين الذين يُنكرون الخالق والخلق بالمشيئة، وبعض الفلاسفة الإلهيين الذين يثبتون لرب العالمين من صفات الكمال ما عدا الاختيار في المشيئة، ومذاهبهم في تأثير الطبائع بذاتها، وضرورة اتصال العلل بمعلولاتها، وكون الله تعالى خلق المادة وأودع فيها قواها ونظامها، وتركها لنفسها فلم يبق له فعل فيها، كل ذلك معروف ليس من موضوعنا تفصيله والرد عليه؛ وإنما غرضنا من ذكره أن نبين أن الناس على قسمين: مليين على هدي أنبياء الله تعالى يؤمنون بأن الله فاعل مختار بيده ملكوت كل شيء في كل وقت، وكفار يزعمون أن كل حركة وسكون في هذا الكون تجري على سنن نواميس فيه بمقتضى الضرورة لا تأثير فيها لموجود غيرها، وما يشاهدونه في كل زمن من وجود أشياء على غير هذه السنن المعروفة يسمونه (فلتات الطبيعة) ويقولون إنه لا بد له من سبب وإن كنا لا نعرفه، وما ينقل في كتب المليين من آيات الأنبياء، منهم من ينكره ومنهم من يتأوله، ومنهم من يقول: إنه من فلتات الطبيعة التي لم يظهر لنا سببها، فمذاهبهم في هذه المسائل متعددة. وملحد دمنهور قد جرى على أصل هؤلاء القائلين بأن السنن والنواميس ضرورية لا يمكن تغيير شيء منها ولا تبديله ولو بفعل الله ومشيئته، وأنه ما وقع ذلك في الماضي للرسل ولا لغيرهم، فهو مخالف لجميع المليين من أتباع الرسل عليهم السلام، ولولا هذا لم يكن محتاجًا إلى تحريف ما جاء في القرآن من أخبار الغيب ومعجزات الرسل. شبهة ملحد دمنهور في السنن وبيان بطلانها: قد يقول بغروره بجهله: إنني قد أخذت في هذا بما جهله جميع المسلمين وجميع المليين من قبلهم (أي وعرفه ملاحدة الباطنية لا سيما البهائية آخرهم) وهو ما نص عليه القرآن في مثل قوله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: ٤٣) . ونقول في جوابه (أولاً) : إن سنة الله التي قال إنه لا تبديل لها ولا تحويل، هي نصر رسله على المعاندين لهم من أقوامهم، كما هو صريح الآيات التي وردت فيها في سور الإسراء والأحزاب وفاطر والفتح، وفي السور التي لم يذكر فيها أنه لا تبديل لها أيضًا. وجاء لفظ السنن جمعًا بهذا المعنى في سياق الكلام على غزوة أحد من سورة آل عمران {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} (آل عمران: ١٣٧) وجاء بمعنى التشريع الديني في سياق محرمات النكاح وحكمتها من سورة النساء {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ} (النساء: ٢٦) فهو لم يقل هذا في أمر الخلق والتكوين، وربما كنت أنا الذي التزمت إطلاق هذا اللفظ على ما يسميه علماء الكون والفلسفة بالنواميس الطبيعية في المنار والتفسير، وفي نظام مدرسة الدعوة والإرشاد، إذ أطلقت اسم سنن الكائنات على الدروس التي وضعها الدكتور محمد توفيق صدقي - رحمه الله تعالى - في علم حفظ الصحة ومقدماته من علم الطبيعة وعلم وظائف الأعضاء، فنشرتها في المنار وطبعتها على حدتها بهذا الاسم. وأول من أرشدنا إلى كون أصول علم الاجتماع من سنن الله في خلقه، حكيمنا العربي الواضع الأول لقواعد هذا العلم عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله تعالى؛ فإنه يكرر في مقدمته عقب بيان القاعدة العمرانية قوله: سنة الله في خلقه، أو سنة الله التي قد خلت في عباده، ثم زاد عليه في هذا أستاذنا الإمام في مقالات العروة الوثقى الاجتماعية، وزدت عليهما تعميم ذلك في النواميس الكونية كلها. هذا وإنه ليس عندنا دليل ديني ولا عقلي على استحالة وقوع التبديل والتحويل في هذه السنن، ولا على اطرادها وعدم الشذوذ فيها مع الجزم بإمكانها. وأما الأدلة العلمية المبنية على التجارب العملية فقد بيَّنا آنفًا أن أهلها لا يقولون بوجوب شيء من هذه السنن المعروفة، بحيث يستحيل نقضه وثبوت خلافه، وأنهم يثبتون الشذوذ بالأسباب المجهولة المعبَّر عنها بفلتات الطبيعة، وبالأسباب العلمية العملية، وقد كان بعض الناس ينكرون ما جاء به الأنبياء من أخبار عالم الغيب كالملائكة والجن والبعث بعد الموت لاستبعادها في مألوفاتهم وزعمهم أنها لا تعقل، وما وصل إليه البشر في هذا العصر من أسرار الكهرباء لم يبق شيئًا من ذلك مستبعدًا فضلاً عن كونه محالاً عقلاً. أفليس المؤمنون بوجود الخالق الفعال لما يريد، وأن (ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن) أولى منهم بالإيمان بقدرته على التصرف في هذه السنن متى شاء؟ ثانيًا: إذا قيل: إن قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ} (الأحزاب: ٣٨) مفرد مضاف يفيد العموم، وأنه يجري فيه قول علماء الأصول، بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قلنا: نعم، وإنما عموم كل شيء في موضوعه، وموضوع هذه السنة المنصوصة عباد الله من الأمم مع رسلهم، ويصح إطلاق اللفظ على غير ما ورد به النص من قواعد الاجتماع والعمران أيضًا؛ ولكن لا يصح الاستدلال بالنص على عدم التبديل فيها. ثالثًا: إن سنن الاجتماع تختلف باختلاف أحوال البشر في البداوة والحضارة والقوة والضعف والعلم والجهل، وآلات القتال والنقل، فهي أمور نسبية متبدلة، لا قواعد رياضية مطردة، وذلك معروف من سير الأمم وتواريخها؛ وإنما تكون سنة بحسب الأحوال التي تكون بها مطردة. مثال ذلك سنة غلب الكثرة للقلة التي عبر عنها الشاعر العربي بقوله: ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر يراعى في صحتها مساواة الكثرة للقلة في أسباب الغلب الصورية كالسلاح والنظام، والمعنوية كالصبر والثبات والإيمان، فإذا كانت هذه الأسباب متوفرة في القلة دون الكثرة، كان لها الغلب وفيها قال الله تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: ٢٤٩) . رابعًا: إن السنن الاجتماعية والكونية تتعارض وتتنافى كما تتعارض أسباب النصر والغلب وأضدادها في المثل المذكور آنفًا، ومن ذلك تعارض أسباب الصحة وأسباب المرض، وتعارض التأثيرات الجسدية مع التأثيرات النفسية، فمن كان له الرجحان يكون مبطلاً للآخر ذاهبًا باطراده، وليس في هذا الوجود الممكن لا علويه ولا سفليه، ناموس من نواميس النظام يقوم الدليل القطعي على استحالة تغيره وتبدله، بل كله جائز بأسباب مما يعقله الباحثون ويتوقعون حدوثه أو بغير ذلك، كما يقولون في خراب هذا العالم وزوال هذه الأرض، أو انقطاع حياتها وعالمها بزوال حرارة الشمس بالتدرج البطيء، أو بتصادم بينها وبين بعض الأجرام السماوية، وهو ما تشير إليه آيات القرآن المجيد. السنن والنظام في الخلق خاضعان لمشيئة الخالق: ثم أقول خامسًا: إن خالق الخلق بما شاء من النظام والسنن لم يقيد بها قدرته ومشيئته ويجعلها حاكمة عليه، بحيث يكون بها مقهورًا لا قاهرًا، وعاجزًا عن التصرف لا قادرًا، حتى لا فائدة في دعائه والتضرع له، بل دل كتابه - الذي لا يفهمه هذا الملحد الجاهل بلغته وبشريعته - أنه قيدها بمشيئته، وأن العالم كله في قبضته {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} (فاطر: ٤١) فهذه الآية صريحة في أن العالم في قبضة تصرف خالقه في كل وقت، وأن بقاءه بقدرته تعالى لا بما يظهر من سنن النظام فإنها مفعولة لا فاعلة، أو ظواهر صورية، لا حقائق وجودية، كما قال بعضهم في سنة الجاذبية. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} (الشورى: ٣٢-٣٣) فحركات الريح تجري بحسب سنته تعالى في تأثير الحرارة فيها، وهو يقول أنه إذا شاء أسكنها. وقد دل كتابه أيضًا على أنه تعالى جعل للسنن الكونية والتشريعية استثناء يضعه موضعه بحكمته ورحمته، حتى أن عذاب الأمم المعاندين لرسله والذي نص كتابه على أنه لا تبديل فيه ولا تحويل قد دخله الاستثناء بالفعل، كما قال تعالى في سورة يونس: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس: ٩٨) فإن يونس عليه السلام كان خرج من قومه عندما جاء موعد ما أنذرهم من العذاب ولم يؤمنوا، فلما رأوا بوادر العذاب وكاد يقع بهم آمنوا فنفعهم إيمانهم ولم ينزل العذاب بهم، فهذا استثناء من السنة العامة في وقوع العذاب على الأقوام في مثل تلك الحال، سواء كان متصلاً أو منفصلاً في الإعراب. ومما يدل على تقييد السنن العامة بالمشيئة قوله تعالى بعدما ذكر في سورة يونس: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} (يونس: ٩٩) وهذه المشيئة إنما تكون بخلق البشر على غير هذه السنن المعروفة في خلقهم من اختلاف الاستعداد للإيمان والكفر معًا، ومن ترجيح بعض متعلق هذا الاستعداد على بعض، أو بإزالة هذا الاستعداد بعض وجوده، وهو من سنن الله في نوع الإنسان. ومن هذا الاستثناء عفو الله تعالى عما شاء من ذنوب عباده في الدنيا والآخرة؛ فإن عقاب المذنب من سنن العدل، والعفو والمغفرة من الرحمة والفضل، فكل مذنب مستحق للعقاب بحسب سنة الله في تأثير الأعمال في النفس المقررة في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: ٩-١٠) وما كل مذنب يستحق العفو، وقد اتفق حكماء البشر على أن من الحكمة الاستثناء في القوانين بالعفو عن بعض العقوبات. والآيات المحكمة الصريحة في فعل الله لما يريد، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن - كثيرة، والمسلمون مجمعون على ذلك؛ ولكن إجماعهم لا قيمة له عند ملحد دمنهور ولا يحتج به في دينه، وقد يعبر عنهم بما يدل على أنه ليس منهم كما قال في تفسير: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: ٨) وهذا نصه: (ومن الغريب مع هذا الدليل المبين أن المسلمين ينقلون في كتبهم أن النبي سُحر بناء على حديث رواه اليهود، كما ينقل النصارى صلب المسيح بناء على حديث رواه اليهود أيضًا) اهـ. فقد أنكر على المسلمين لا على المحدِّثين، ويعني بقوله: كتبهم، أصح كتب الحديث وجميع كتب التفسير؛ ولكنه كذب في زعمه أن حديث السحر المذكور قد رواه اليهود، والغرض من ذكر عبارته هنا أنه يهزأ بأعظم كتب المسلمين في التفسير والحديث هزو الساخر المتبرئ من المسلمين، وأما تحقيق المسألة فقد بيَّناه في المنار. ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس: ٨٢) وهذا المعنى مكرر في القرآن، وهو ظاهر فيما يخلقه تعالى بدون نظام الأسباب، كخلق آدم من تراب، وخلق عيسى بن مريم من أم بدون أب. وجملة القول في مسألة سنن الله تعالى في نظام الكون وسنن الاجتماع والعمران: أن ما ثبت منها فهو مقتضى حكمته، وأنه غير مقيد لعموم مشيئته وشمول قدرته، وأن ما ثبت في كتابه أو في خليقته من آياته المخالفة للمعروف من تلك السنن فهو من تصرفه بمشيئته واختياره، لحكمة يعلمها في ذلك وقد يعلمها من شاء من خلقه، كمعجزات رسله عليهم السلام؛ فإن حكمتها ظاهرة بيَّنها علماء أتباع الرسل أحسن البيان. وإن منتهى الجهل والكفر بالله تعالى جعله مقيدًا بما يظهر لبعض الناس من هذه السنن مع تخبطهم فيها، وعدم اتفاق عقلائهم وعلمائهم على ضرورة اطرادها، وما هذه الأرض وسننها إلا كذرة من ذراتها في جملتها ومجموعها، بالنسبة إلى مُلك الله العظيم الذي ثبت لعلماء الفلك أن بعض أجرامه يبعد عن البعض الآخر بما يُقدَّر بملايين السنين لسرعة النور، وهو يقطع نحوًا من مائة مليون ميل في زهاء عشرة دقائق، فمن أنت أيها الجهول حتى تبيح لنفسك تحريف كلام الله لتأويل آياته في خلقه اغترارًا بما لا تُعلم حقيقته من هذه السنن. فإذا كان شيطان الجهل والغرور قد زيَّن لملحد دمنهور أنه يمكنه أن يكون رجلاً عظيمًا في الأرض بوضع دين جديد لمن غلبت عليهم ظواهر الفلسفة المادية لا يوجد فيه شيء مخالف للمألوف عندهم، فليبعد عن القرآن والإنجيل والتوراة والزبور، فإن أديان جميع رسل الله مؤسسة على عقيدة تصرف رب العالمين في خلقه بمشيئته واختياره في كل وقت، وعلى تأييده لمن شاء من رسله بخوارق العادات، وسنن الاجتماع والكائنات، وعلى أن عالم الغيب من الملائكة والجن وغيرهم لا يقاس على عالم المادة، وأن الإيمان بما ورد الوحي فيه من ذلك كما ورد أصل من أصول الدين لا يصح الدين بدونه.
عجز فلاسفة أوربة عن وضع دين يخضع له البشر: وليعلم أن بعض فلاسفة أوربة وأعلام الآداب والتشريع فيها قد وضعوا أصولاً لديانة سموها الديانة الطبيعية، راعوا فيها من الفضائل والمصالح العامة والخاصة ما استحسنه السواد الأعظم من الماديين وغيرهم؛ ولكن لم يتخذها شعب من الشعوب، ولا جماعة من الجماعات، ولا فرد من الأفراد دينًا يلتزمه في أعماله وآدابه! ولماذا؟ لأن الدين الذي يحتاج إليه البشر لتكميل فطرتهم وإزالة الخلاف من بينهم فيما يجب عليهم من معرفة الله وعبادته، ومن أصول التشريع العامة والفضائل الثابتة التي تحول دون الفوضى الدينية والأدبية التي تفرِّق كلمتهم، هذا الدين لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان مصدره السلطان الإلهي الأعلى الذي تذعن الأنفس لأمره ونهيه القطعيين لذاته، سواء وافق آراءهم وأهواءهم ونظرياتهم العقلية وتقاليدهم القومية والوطنية أم لا؛ لأن صاحب هذا السلطان أعلم منهم بما يضرهم وما ينفعهم، وهو القادر على إثابتهم إذا اتقوا وأحسنوا، وعلى عقابهم إذا فسقوا وظلموا وأساءوا، وعلى العفو عنهم إذا تابوا وأصلحوا، وعلى استجابة دعائهم إذا دعوا وتضرعوا. فلو كانت أمور العالم كلها تجري بنظام اضطراري ليس لله فيه مشيئة ولا اختيار، لم يكن هنالك محل لثمرة الإيمان من الخوف والرجاء، وهما الباعثان على الطاعة والانقياد، ولزال معنى الدين وذهب التدين هباء. إلا أن المادية مضادة بل مناقضة لمعنى الدين والتدين، وقد ظهر بعد الحرب العامة من مفاسدها ما لم يكن ظاهرًا، والعالم المدني قد شعر باضطراره إلى الهرب من هذه المفاسد في العقل والآداب والاجتماع كما نوَّهنا بذلك من قبل؛ وإنما الدين الوسط هو الجامع بين المصالح المادية والفضائل الروحية، كما بيَّناه في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: ١٤٣) من أول الجزء الثاني من تفسيرنا. وإذا لم يكن لرسل الله تعالى من آياته ما يميزهم من الفلاسفة والأدباء، كما يزعم ملحد دمنهور، فأي باعث يبعث الناس على الانقياد لهم بالإذعان النفسي والوجدان الاضطراري، وهم يجدون عند الحكماء من الحجج العقلية والأدبية ما هو أقرب إلى مألوفاتهم ونظرياتهم مما جاء به الأنبياء.
حكاية ابن سينا مع المفضِّل له على النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يعقل هذا الملحد ما سمعه منا وقرأه في كلامنا غير مرة من نبأ الفيلسوف الكبير الرئيس ابن سينا مع خادمه ومريده المعجب بعلومه وفلسفته المفضل له بها على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يلومه على اتباعه هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو دونه بزعمه وجهله، حتى إذا كانا في بعض ليالي الشتاء الشديدة القر القارسة البرد في تبريز أيقظ الرئيس خادمه ليأتيه بماء يتوضأ به، فاعتذر له بشدة البرد، وبعدم طلوع الفجر، فأيقظه سيده الرئيس عندما كان المؤذن ينطق بالشهادتين على المنارة وسأله ماذا يقول المؤذن؟ قال إنه يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: قد آن لي أن أبيِّن لك فساد عقلك، وأَفَن رأيك، في تفضيلك إياي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنك أنت خادمي، وقد بلغ من إعجابك بي ما تعلم، وهو ما لم أر ما يقرب منه من غيرك، ثم إنك تكسل عن طاعتي في داخل الدار معتذرًا بشدة البرد، وهذا الرجل الفارسي يشيد بالشهادة لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة في أعلى هذه المنارة حيث البرد على أشده، وهو في ذلك محتسب أجره عند الله، فعندما ترى لي من السلطان على قلبك مثل ما ترى لمحمد صلى الله عليه وسلم على قلب هذا الفارسي بعد مضي أربعة قرون على بعثته تكون معذورًا فيما تهذي به من تفضيلي. وإذا كان من أصول الدين المادي الذي تدعو إليه باسم القرآن أنه يجوز لمتبعه أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم لترجيح رأيه على طاعته، أو لما يراه بالتشاور مع غيره من المصلحة المخالفة له، فأي معنى يبقى للدين؟ وكيف تجتمع الكلمة به على ما يكونون به أمة واحدة، أوليس من الجائز على هذا أن يترك الناس جميع ما جاء به الرسول لمخالفته لآرائهم وما يزعمون من مصالحهم غير المقيدة بدين يتبع لذاته بإذعان الإيمان، ولا يستحل صاحبه ترك شيء منه إلا بما ورد النص فيه بكونه عذرًا كالضرورات التي تبيح المحظورات. ثم إن هؤلاء الماديين لا يجدون أدنى باعث على قبول دين مادي يتوقف إثبات ماديته على تحريف كثير من آيات كتابه عن مدلولها اللغوي الذي جرى عليه جميع أهله من عهد النبي الذي جاء بهذا الكتاب إلى اليوم اتباعًا لجاهل مغرور في تحريفها وجعلها مادية، وقد حكم علماء أهلها بإلحاده في دينهم ومروقه منه. ولا يغرن هذا الملحد أن الباطنية قبلوا أمثال هذا التحريف في القرآن من دعاتهم، فيظن أنه يوجد من يقبله منه؛ فإن الذين قبلوا هذا من الباطنية إنما قبلوه بعد إقناع الدعاة لهم بأنه بيان الإمام المعصوم لمراد الله من كتابه، وبعد إقناعهم بأن هذا المعصوم موجود، وأنه لا يمكن فهم مراد الله وجمع كلمة المسلمين على ما يرضيه إلا منه. فأنى لك أيها المغرور بإقناع الماديين والجاحدين لوجود الله أو غيرهم بإمامتك وعصمتك؟ . فإن كنت أيها الملحد تعقل أن يتبعك أحد في دينك هذا فلك العذر في الحكم على أستاذك الذي تبرأ منك ورد عليك إرشادًا لك، بأنه قد اختل عقله فلا يدري ما يقول، وأنه يكيد لك مع شيخ الأزهر، وفي قولك المناقض لهذا، وفي سبك وشتمك له، مع ادعائك أنك عذرته بجنونه وخرفه: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} (هود: ١٢١-١٢٢) .