بقلم الأستاذ عيسى عبده المدرس بمدارس التجارة المصرية وعضو بعثة المعارف بمنشستر
أرى في أيامنا هذه اتجاهًا طيبًا يتخذه بعض إخواننا في مصر وغيرها من البلاد العربية، وسيلتهم فيه البحث العلمي المستنير، وغايتهم خدمة السواد من أممنا العربية. هذا السواد هو من غير شك أولى الناس بجهودنا نبذلها في سبيل التخفيف عنهم اليوم، وإسعاد أبنائهم في الغد القريب، على أننا لا نزال في أول الطريق؛ فقد بدأنا بدراسة شئون العامة دراسة تمهد للإصلاح المرتجى، من ذلك ما يقوم به الأستاذ عمار بجامعة منشتستر، والدكتور الشافعي بجامعة فؤاد بالقاهرة، والبروفسور تود بجامعة بيروت، والمستر بتلر رئيس المكتب الدولي للعمل بجنيف، وكلهم تناول شئونًا شرقية أو مصرية بحتة. ولكن الناظر في الشئون الشرقية والعربية من نواحيها الاجتماعية يجد ظواهر مشتركة بين الأقطار جميعًا، وهذا أمر طبيعي في بلاد جميع بينها منذ ثلاثة عشر قرنًا أو تزيد وشائج لا تهن ولا تضعف، أساسها وحدة الدين واللغة، وبعض آثارها هذا الذي نرى من وحدة الألم والأمل، فمن وصف بعض هذه الأقطار فقد عرف عن بعض ما دام وصفه يتصل بالنظم الاجتماعية. وحديثنا اليوم يتناول فريقًا كبيرًا من سكان مصر، ولي منه غرضان: أولهما أن يكون دعوة إلى الشباب المثقف في الأقطار العربية كافة أن يقوم بعض القادرين منهم بمثل البحوث التي قام بها الغرب من زمن، والتي بدأتها مصر مؤخرًا. وثاني الغرضين أن أبين ما ينتظر منا - نحن المتعلمين - من مساهمة في حركة الإصلاح. حين درست أحوال العمال منذ عامين تقريبًا تكشفت أمور قد تغيب عن بعضنا، وقد يتجاهلها بعض آخر، سأذكر بعضها تزكية للدعوة التي أوجهها إلى كل عربي، فالحال في بلادنا كما قدمت واحدة. طبقة الأُجراء في مصر تشمل العامل الصناعي والعامل الزراعي ومن عداهما من الأُجراء، وتكوِّن الغالبية العظمى من الشعب، ولئن كانت البيانات التي اعتمدنا عليها في كلمتنا هذه قد جمعت من نحو (٨٠٠) ثماني مائة أسرة من أسر العمال المقيمين في القاهرة، فإنها تعين على تكوين صورة صحيحة عن حال الأجير بوجه عام، مع تحفظ واحد هو أنها أشبه بالحال في المدائن دون القرى , فإذا أردنا أن نرى خلالها بيت العامل الزراعي وعيشه وجب أن نزيد من ألوانها القاتمة. حياة العامل: يبدأ الكثير من العمال في سن مبكرة هي الخامسة عشرة , هذا إذا تجاوزنا عما هو سائد في القرى من استغلال الأحداث في أعمال لا تتطلب جهدًا كبيرًا؛ ولكنها رغم بساطتها تعوق نموهم , وتفوت عليهم فرصة تحصيل المبادئ الأولية التي لا غنى عنها لأبسط طبقات الشعب, على أن هذه الحال تتبدل اليوم إلى ما هو خير منها فلنتركها جانبًا , ولنحصر القول فيمن تتراوح أعمارهم بين خمسة عشر عامًا وستين عامًا , هؤلاء موزعون كما يلي: نسبة من لا تبلغ أعمارهم ٢٠ عامًا من العمال ٨ في المائة , ومن السكان ١٦ في المائة. ونسبة من لا تتراوح أعمارهم بين ٢٠ و٣٩: من العمال٧١ في المائة , ومن السكان ٥٦ في المائة. ومن تتراوح أعمارهم بين ٤٠ و ٤٩: من العمال ١٦ في المائة، ومن السكان ١٨ في المائة. ومن تتراوح أعمارهم بين ٥٠ و ٥٩: من العمال ٥ في المائة، ومن السكان ١٠ في المائة. أما الذين يتخطون الستين من بين العمال فلا يزيدون على اثنين من كل ألف , ونظيرهم من السكان خمسة من كل ألف , ولقد حسبت هذه النسب على عدد الذكور دون الإناث؛ فما يزال العرف في مصر والشرق يجري على أن كسب العيش من وظائف الرجال. لبعض هذه الأرقام دلالة قوية جدًّا , فنسبة الشباب الذي تتراوح سنه بين العشرين والأربعين والذي يستأثر به العمل أكبر من نظيرتها في سائر نواحي النشاط الاقتصادي، كوظائف الدولة والمهن الحرة؛ من أجل ذلك جاز لنا أن نقول : إن ما يصيبه هؤلاء من عيش ضنك له أسوأ الأثر في القوى الحيوية للشعب كله. انظروا إلى الباقين منهم بعد سن الخمسين في معترك الحياة، تجدوهم خمسة من كل مائة، إذن هذا العدد الضخم من الشبان الأجراء البالغين واحدًا وسبعين في المائة من عدد العمال , والذين تتراوح أسنانهم بين العشرين والأربعين عامًا يخرجون من ميدان العمل خلال الحلقة الخامسة من أعمارهم إلا عددًا منهم قليلاً , ولقد أثبت البحث أن عدد من يخرج منهم بالترقي إلى مصاف أرباب الأعمال، أو مستندًا إلى ثروة جمعها , أو إلى ولد قادر يكفيه مشقة العمل في سن متأخرة قليل جدًّا، وأنه أولى بالإغفال، وهكذا تبقى أسباب الخروج من العمل منحصرة في الموت والعجز. هذه الظاهرة المحزنة إنما هي نتيجة طبيعية لظروف العامل في حياته الخاصة، وسنرى أنه في حياته القصيرة يرزح تحت عبئين مرهقين من إجهاد وحرمان. تزايد السكان: ربما بدا غريبًا بعد هذا الذي قدمنا أن يتزايد عدد الطبقات العاملة رغم عوامل الفناء المحيطة بهم؛ ولكن للتزايد أسبابًا قوية؛ منها أن نسبة الزواج بين العمال تبلغ ٧٦ في المائة، وهي للسكان عامة ٦٦ في المائة، ويبكر العامل بالزواج حتى أن نسبة المتزوجين قبل سن الخامسة والعشرين تبلغ ١٠ في المائة، وهي نسبة عالية لسن مبكرة في طبقات أجورها لا تفي الفرد فضلاً عن الأسرة، وهنا يجدر أن نلاحظ ظاهرة تميز الشرق بصفة عامة عما عداه، تلك أن الزواج في معظم الحالات لا يكون نتيجة لحاجة الرجل إلى من يدبر شأنه أو يهيئ له حياة منزلية هادئة، فبين المتزوجين من العمال ستون في المائة يعولون قريبات لهم كوالدة أو عذارى وأرامل من ذوي القربى، وقد كان لهؤلاء العمال من قريباتهم غنى من ناحية الخدمة ودافع من ناحية النفقة على ألا يفكروا في الزواج في سن مبكرة، ولكنهم يفعلون بدافع ديني، وهذه حال لا يمكن أن تستتبع اللوم؛ وإنما تستحق العطف والتهذيب. أما عدد الأطفال فكثير، ولما كان الزواج مبكرًا، فالعمال تبعا لذلك آباء في سن مبكرة كذلك، فمثلاً بين العمال من سن العشرين نجد اثنين في المائة لكل منهما ولد أو ولدان، فإذا بلغ الوالد سن الخامسة والثلاثين كان عدد الأبناء كما يلي: من كل مائة من الآباء: عشرون لكل منهم ولد واحد وستة وعشرون لكل منهم ولدان وسبعة عشر لكل منهم ثلاثة أبناء وثمانية لكل منهم أربعة أبناء واحد له خمسة أبناء وواحد له ستة أبناء أو أكثر أما إذا تمشينا معهم إلى آخر العمر فطبيعي أن تتزايد النسب الأخيرة , فتصبح من كل مائة والد: أربعة وأربعون لكل منهم ثلاثة أبناء وأربعة وعشرون ... لكل منهم أربعة أبناء وعشرة لكل منهم خمسة أبناء أو أكثر
كل هذا رغم ارتفاع نسبة الوفيات بينهم , واستئثارهم بموتى المواليد، ولولا هذان العاملان لتزايدوا بأسرع مما ترى رغم الظروف القاسية التي تحيط بهم. أشرنا فيما تقدم إلى أن ٦٠ في المائة من أرباب الأسر يعولون إلى جانب أبنائهم وزوجاتهم أقارب لهم عاجزين عن الكسب , هؤلاء من طرحتهم أمواج الحياة صرعى جهاد ظالم يبعثون فيه بغير سلاح , آباء قضوا ربيع الحياة في خدمات لا تعود عليهم إلا بما يمسك الحياة , فإذا أقبلت سنو المشيب - وهذه تبكر لأمثالهم - أقعدهم العجز عن كل كسب , ونساء فقدن العائل بالموت أو بسواه، وورثن عنه البنين دون المال. هكذا ينشأ الجيل الجديد مرهقًا بتبعات ثقال تنوء بالعصبة أولي القوة , فيلتمس السلوى فيما يحط من قواه ولا يصلح له شأنه , ثم يدفع بولده جاهلاً هزيلاً إلى معترك الحياة وهو بعد في مقتبل العمر، عساه يلتقط بعض الفتات فيعين أسرته , وكذلك ينشأ نشأة أبيه , وإذا بالمأساة تتصل، وتتسق فصولاً من جديد , وقد تبدل اللاعب وما أسدل الستار. ساعات العمل: يندر أن تقل عن ثماني ساعات في كل يوم , ونسبة ذلك ١ على ٣ في المائة من مجموع الحالات، وهي: ثماني ساعات في ١٥ في المائة من الحالات. وعشر ساعات في ٧٠ في المائة. وأربع عشرة ساعة في ٥ في المائة. وست عشرة ساعة في ١٠ في المائة. على أن من هذه الحالات الأخيرة ما يبلغ ١٧ وأكثر. الأجور: منخفضة جدًّا، تبدأ بقرش واحد في اليوم للأحداث في بعض الصناعات، وتزيد كلما تقدمت السن بنسبة لا تكاد تبلغ الثلث مما يجب أن تكون عليه الحال، ونتيجة ذلك أن تتزايد التبعات ولا تنمو الموارد بالدرجة الكافية. ولا يمنح العامل أجرًا عن يوم راحته , ولا مرضه، وأكثر الفئات شيوعًا هي فئة العشرة القروش والخمسة عشر؛ إذ يتقاضى أجورًا تقع بين هذين الحدين ٣٠ في المائة من العمالة. وعقود الاستخدام كلها رهينة الظروف، وأكثرها عقد يومي يتجدد كلما تجددت الحاجة، ولهذا أثر سيئ. فالعامل لا يرتبط بجهة معينة , وكل خدماته موزعة بين الناس، ومجهوده السابق نَهْب الظروف المتقلبة من حوله، فإذا ما بلغ القمة من حياته أتقن عمله وشارف أجره رقمًا عاليًا - يبلغ ثلاثين قرشًا في ثلاث حالات من كل ألف، ويبلغ ٢٥ قرشا في ٢٢ حالة من كل ألف - لم يستطع أن يحافظ على ما وصل إليه من أجر عالٍ نسبيًّا؛ لأن رب العمل يتبدل، وقوى العامل تنحط مع الزمن، وله في كل يوم سوق أصولها منبتة؛ ولذلك نرى الأجور العالية التي ذكرنا لا تكون إلا ما بين العشرين والخامسة والأربعين من العمر، ثم تنحدر بعد ذلك، حتى إن أعلى الأجور لمن تبلغ أعمارهم ٥٠ عامًا أو يتخطونها عشرون قرشًا. ولقد يلقى العامل من عنت رب العمل ضعفًا آخر، فيؤخر أجره ضمانًا لمواظبته، أو يؤخره حتى يتوافر لديه مال حاضر. المساكن: هذه الأنقاض التي يزدحم فيها العمال إنما تسمى مساكن من باب التجوز، ومن كانت حاله ما قدمت فأنى له المسكن الصحي؟ بحسبنا أن نذكر في هذا الصدد أن إيجار المسكن يتراوح بين ٣٠ قرشا و٦٠ في معظم الحالات، وأن ٣٥ في المائة من الأسر تسكن كل منها غرفة واحدة أو أقل من غرفة؛ إذ تشترك أسرتان أو أكثر في واحدة، وأن ٦٥ في المائة من الأسر تسكن كل منها غرفتين أو أقل، أما الشمس والهواء والماء وسعة المسكن وأثاثه فلا محل لذكرها فضلاً عن بحثها. آثار هذه الحال: هي الآثار الطبيعية لمثلها؛ حياة قصيرة معتلة، وموت مبكر يخلف للأحياء أعباء تعجل بدورهم، وإنتاج يدوي ضعيف، ومقدرة فكرية أضعف. وأما المستوى الخلقي فتؤذيه هذه الحال أشد الإيذاء، وكيف تستقيم الحال في أسر لكل منها مخدع واحد يضم الزوجين وخمسة أبناء أو سبعة منهم شباب وفتيات؟ وكيف نرجو طيب الخصال إذا انعدمت أسباب الثقافة والتربية والتهذيب، وثقلت أعباء الحياة في وقت معًا؟ الذي أراه أن هذه الحال التي تعالج أخطر من أن نتناولها بالبحث النظري لنقف عند حد البحث، ربما جاز هذا إذا كان الباحث لا تربطه بهؤلاء الناس أواصر الأخوة وروابط أخرى لا تنفصم، أما وهم قومنا وإخواننا وأبناؤنا وآباؤنا فعلينا ما هو أجدى من القول والبحث؛ علينا أن لا نكتفي باقتراح رفع الأجور والموارد باقية على حالها، أو إدخال نظم التأمين والعامل لا يملك أسباب العيش الخشن فضلاً عن نفقات هذه النظم، علينا - نحن معاشر المتعلمين - واجبان أحب أن ننهض بهما اليوم راغبين، فهذا خير وأبقى، وهو أولى بنا من أن يضطر إليهما أبناؤنا في غد كارهين؛ فأما الأول: فهو أن ننزل عن بعض نعيمنا الشخصي في سبيل هؤلاء الذين طال حرمانهم صابرين. فمثلاً إذا زيدت الضرائب على دخلنا من أجلهم دفعنا مغتبطين، وإن لم تزد دعونا إلى هذا بما أوتينا من علم وبيان، وإن قلَّت رواتبنا من أجلهم كذلك قبلنا في غير ضيق ولا حرج. وأما واجبنا الثاني: فهو أن ينبث بينهم القادرون منا على معالجة الشئون الاجتماعية، ينظمون صفوفهم، ويرشدونهم إلى ما فيه خيرهم، وهذا يتطلب تضحية بالوقت والمال في سبيل الدعاوة، والمعونة الأدبية والمادية. ولنذكر جيدًا أن منا - نحن المتعلمين - من سينتظم في هذه الصفوف إن عاجلاً أو آجلاً، وهذه بعض آيات الرقي في الأمم، فلنهيئ إذن الجو لصغار إخواننا ولأبنائنا، وهذا دافع شخصي يضاف إلى ما تقدم من إيثار كريم. كذلك فلنذكر أن هذه الجموع التي بدأنا اليوم نفكر فيها هي التي تمد الدولة بأكبر عدد من الرجال، فتنتظم بهم صفوف الدفاع، وفي السلم كلما زادت كفايتهم زاد الإنتاج الأهلي، وارتفع المستوى للخاصة والعامة، غير أن الخطوات الأولى تتطلب كثيرًا من جهاد النفس وشجاعة الرأي، ولقد تخطت الحركة طور البحث وتجاوبت أصداء الدعوات ... فلنكن ممن يبادرون بتلبية النداء. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عيسى عبده=