للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: من مقالات العروة الوثقى


الأمة وسُلطة الحاكم المستبد [١]

{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (آل عمران: ١١٧) .
إن الأمة التي ليس لها في شؤونها حل ولا عقد ولا تستشار في مصالحها ولا
أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعة لحاكم واحد، إرادته قانون
ومشيئته نظام يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد - فتلك أمة لا تثبت على حال واحد ولا
ينضبط لها سير فتعتورها السعادة والشقاء، ويتداولها العلم والجهل، ويتبادل عليها
الغنى والفقر، ويتناوبها العز والذل، وكل ما يعرض عليها من هذه الأحوال خيرها
وشرها فهو تابع لحال الحاكم.
فإن كان حاكمها عالمًا حازمًا أصيل الرأي عالي الهمة رفيع المقصد قويم الطبع،
ساس الأمة بسياسة العدل ورفع فيها منار العلم ومهد لها طرق اليسار والثروة وفتح
لها أبوابًا للتفنن في الصنائع والحذق في جميع لوازم الحياة، وبعث في أفراد
المحكومين روح الشرف والنخوة وحملهم على التحلي بالمزايا الشريفة من الشهامة
والشجاعة وإباء الضيم، والأنفة من الذل، ورفعهم إلى مكانة عليا من العزة ووطَّأ
لهم سبل الراحة والرفاهية وتقدم بهم إلى كل وجه من وجوه الخير.
وإن كان حاكمها جاهلاً سيئ الطبع سافل الهمة شرهًا مغتلمًا جبانًا ضعيف
الرأي أحمق الجَنان خسيس النفس معوج الطبيعة - أسقط الأمة بتصرفه إلى مهاوي
الخسران وضرب على نواظرها غشاوات الجهل وجلب عليها غائلة الفاقة والفقر
وجار في سلطته عن جادة العدل وفتح أبوابًا للعدوان، فيتغلب القوي على حقوق
الضعيف ويختل النظام وتفسد الأخلاق وتخفض الكلمة ويغلب اليأس، فتمتد إليها
أنظار الطامعين وتضرب الدول الفاتحة بمخالبها في أحشاء الأمة. عند ذلك إن كان
في الأمة رمق من الحياة وبقيت فيها بقية منها وأراد الله بها خيرًا - اجتمع أهل
الرأي وأرباب الهمة من أفرادها وتعاونوا على اجتثاث هذه الشجرة الخبيثة
واستئصال جذورها قبل أن تنشر الرياح بذورها وأجزاءها السامة القاتلة بين جميع
الأمة فتميتها وينقطع الأمل من العلاج. وبادروا إلى قطع هذا العضو المجذم قبل أن
يسري فساده إلى جميع البدن فيمزقه، وغرسوا لهم شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها
في السماء وجددوا لهم بنية صحيحة سالمة من الآفات (استبدلوا الخبيث بالطيب)
وإن انحطت الأمة عن هذه الدرجة وتركت شؤونها بيد الحاكم الأبله الغاشم يصرفها
كيف يشاء، فأنذرها بمضض العبودية وعناء الذلة ووصمة العار بين الأمم جزاءً
على ما فرطوا في أمورهم {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: ٤٦) .