بسم الله الرحمن الرحيم ذكر الله تعالى والثناء عليه والشكر له قبل كل شيء دخل هذه الدار عدد لا يحصى من بني آدم بمجموعهم عمرت القرى والأمصار، وتحركت أفلاك العلوم والأعمال، وتعاقبت أسلاك الاجتماع والأحوال، وإذا فتحت كتب السير والتاريخ لا تجد ذكرًا لعشر من دخلها ولا لعشر عشرهم ولا للواحد في ألف الألف منهم، فلماذا يعنى المؤرخون بهذا القليل من بني آدم ويهملون الكثير منهم؟ ليس بعجيب ما صنع المؤرخون، فإن الأكثرين من بني آدم متشاكلو السيرة، متشابهو الحالة والغاية، على ما بين سيرهم من التغاير، وبين أحوالهم من التفاوت، وذلك أن حاصل أمرهم تعب وكد ومزاحمة وحيرات وحسرات في تحصيل ما اشتهوا أو تعودوه من المطالب جل أو حقر، فماذا عسى أن يذكر المؤرخ من حكايات هؤلاء التي يمكن أن تكتب كلها هكذا: (جاؤوا إلى هذه الدنيا فاشتغلوا بأسباب معايشهم وعاشوا خاضعين للغالب وذهبوا غير تاركين أثرًا في هذه الدار إلا إن كان ولدًا على شاكلتهم) . وأما أولئك الأفراد القليلون الذين لهم بعد مماتهم وجود ظاهر بالآثار فإن في سيرهم للتاريخ ذخرًا من غرائب الاستعداد الإنساني، وبدائع مظاهره وجلائل مآثره، وأمثلة التفاوت بين أفراده، والارتقاء والتكامل في مجموعه، بواسطة آحاد من جملته، بذلك يستمد التاريخ جدته كل يوم، ويأخذ المزيد لرونقه عند كل فرد وكل قوم. وأولئك الأفراد صنوف: فرسول مبشر، وحكيم مبصر، وكاتب مفكر، وشاعر مذكر، وفاتح مغير، ومخترع محير، وكاشف منور، وباحث مصور، واجتماعي محور، وشرعي مقرر، ونصاح مبرر، ولساني مفسر، ومفضال ميسر. هؤلاء الصنوف أقطاب التاريخ على أخبارهم يدور، ومآثرهم مشرقة منها يستمد النور، ووراءهم في الذكر يأتي من اشتهروا بخلق من الأخلاق، ومن عرفوا في عشيرة بطيب الأعراق، ومن هنا يظهر لنا أن الشهرة ليست بشيء عند التاريخ إذا لم تؤيد بمآثر، ولولا هذا لتعب المؤرخون في سرد أسماء كثيرة لا يستطيعون أن يبيضوا وجوه دفاترهم بشيء من أعمال أصحابها ممن كانوا كبارًا في العيون؛ لأنهم أبناء أماجد مثلاً وهم لم تمجد لهم همة، ولم تؤثر عنهم منقبة، ويظهر لنا أيضًا أن إعراض التاريخ عن ذكر من لم تبهر مآثرهم هو أحسن درس في الأخلاق ألقاها علينا المؤرخون عن عمد أو بالتصادف وذلك لأن النفوس إنما يغريها بالباقيات الصالحات تذكار أهلها وتمداحهم، وإنما ينهنهها عن الخمول سرعة انطفاء الخاملين وطول إشراق الباقي ذكرهم في العالمين. نعم إن مَن لهم الباقيات الصالحات التي يبقون ويذكرون بها هم أفعل الحداة بالنفوس وأنهض بها إلى المكرمات؛ فحكاية أحوالهم هي أفضل مآخذ الأخلاقيين الذين يجتهدون في أن يفهموا قارئهم كيف يتكمل الإنسان وكيف يصير من الأقطاب أقطاب التاريخ. اللهم إني أستسقي جودك وإحسانك لأرواح المؤرخين الذين تركوا كنوزًا كثيرةً لنفوسنا من سير الأقطاب من آبائنا، وأستغفرك عن زلة زلها أكثرهم من حيث لا يشعرون وهي: إهمالهم كثيرًا من سير الأقطاب من أمهاتنا. لقد علمنا أن الفرق ليس بكبير في الفطرة بين الرجل والمرأة، وليست المرأة بمحرومة من المزايا التي يعلو قدر المتحلي بمثلها من الرجال، ذلك أننا نرى لهن عقولاً سليمةً، وقلوبًا كريمةً وهممًا عظيمة، وهل للرجال ينابيع للمكارم غير هذه العقول والقلوب والهمم؟ ، ونرى الأديان اعتبرت المرأة كالرجل في التكليف بالعقيدة والعبادة والآداب، ونرى الاجتماع اعتبر المرأة كالرجل في التكليف بالعمل وما زال نصيبها منه كبيرًا وتابعًا لتقسيم الأعمال على حسب مرتبة محيطها من العالم ثم على حسب مرتبتها من محيطها. وهذا غير ما نعلمه من فضل بعض الفاضلات الماضيات اللاتي تصلح سيرهن أن تكون هدى للرجال قبل النساء، ولولا تلك الزلة التي ذكرناها للمؤرخين؛ لكان اللاتي نعلمهن أكثر وما اللاتي نعلمهن الآن من الفاضلات بقلائل. من هؤلاء سيدة قد سمع بفضلها العالم كله ولكن العارفين بتفاصيل فضائلها ومزاياها قليلون، الشرق سمع بهذه السيدة والغرب، الترك يعظمون اسمها والعرب وفارس والهند، والأفغان والسند، وفي أرض الصين تعظم، وفي الدنيا الجديدة تكرم، وإذا فتحت دفاتر المؤرخين - عفا الله عنهم - لا تجد فيها تحت اسم هذه السيدة الجليلة إلا كلمات يسيرة في ترجمة حالها، وشرح خلالها، ولكنا نحن شاكروهم على هذه الكلمات التي يملأ سناها العقول والقلوب فتهتدي بها على قلتها إلى عظيم أمرها كما يدرك المبحرون عظمة المنار إذا كانت أشعته عظيمة السطوع. ولقد كنت تفكرت في أن أكافئ والدتي بعض المكافأة فتبينت بعد طول التفكير أن عظيم فضلها عليَّ هو أبعد من أن يوفى شيء من حقه ولكن تراءى لي أنه يسرها أن أعلن للملأ فضل جنسها وأذكرهم بما نسوه من احترام حقوق هذا الجنس. ولم أجد أحسن طريقة إلى هذه الغاية الجليلة من شرح سيرة هذه السيدة التي هي إحدى جدَّاتها. فمن مدد تلك الكلمات القليلة التي تركها لنا المؤرخون في ترجمة حال هذه السيدة أؤلف هذه القصة الحقيقية، وإلى روح والدتي أرفعها هدية على راحة خشوعي وضعفي، ومن خزائن رحمة الله ورضوانه أستنزل تحية طيبة مباركة لهذه الروح البارة. ومن راقه هذا المؤلف الصغير وحصلت له به لذة وفائدة؛ فلي حق أن أرجوه شيئًا، ولا أرجوه إلا أن يكون مساعدًا في إقامة حقوق المرأة وكرامتها وآدابها. إن النساء أمهاتنا معشر الرجال وعلى حسب تربيتهن نكون، فلنطلب من محيطنا أن يهذب بالعلم الأمهات، ويسعى لترقية مداركهن وآدابهن.