جرت الحكومة المصرية على إعفاء حفاظ القرآن من الخدمة العسكرية؛ فكثر حافظوه لذلك، وهؤلاء الذين يحفظونه لهذا الغرض ولا يريدون به وجه الله تعالى كما ورد، ولا يلبث الكثيرون منهم بعد سن القرعة العسكرية أن ينسوه إلا من اتخذه حرفة يكتسب به. ولما أنشأت نظارة المعارف تنظم المكاتب أو الكتاتيب التي يعلم فيها القرآن أوفدت إليه المفتشين من أهل العلم المتخرجين في الأزهر ثم في دار العلوم، وقد تبين لهؤلاء أن الكثيرين من الحفاظ الذين انقطعوا لإقراء القرآن لا يحسنون تلاوته بالتجويد المطلوب شرعًا، وأنهم على جهل ومهانة لا تليق بعملهم. وقد أقرت الحكومة في مجلس النظار الذي اجتمع في هذا العام برياسة الأمير أن لا يعفى حافظ القرآن من الخدمة العسكرية من بعد إلا من يمتحن فيظهر أنه حافظ للقرآن ومحسن لتلاوته بالتجويد الواجب شرعًا، ومتعلم مبادئ القراءة والكتابة التي يتعلمها الصبيان؛ أي لا يشترط أن يكون الخط جميلاً والإملاء صحيحًا، ولا أن تكون القراءة بدون لحن، وعارف بالقواعد الأربع الصحاح في الحساب. وغرض الحكومة من ذلك فيما يظهر أن تكثر عدد الحفاظ الذين يصلحون لإنشاء الكتاتيب وأن يكونوا محترمين في الجملة بالارتقاء عن الأمية المحضة فينتفع الناس بهم. ومن عجائب مصر أم العجائب أن قام بعض الناس يكتب المقالات الطويلة في جريدة المؤيد معزوة إلى أزهري مجهول يحاول إقناع الناس بأن هذا الذي قررته الحكومة إهانة للقرآن ولحملة القرآن، وحجته أن الذي يحفظ ألفاظ القرآن يجب أن يستغني بها عن كل شيء حتى ما يعده لتجويد تلاوتها وفهم عبارتها. وكتب مجهول آخر في المؤيد في تقبيح ما تريده الحكومة. وجريدة المؤيد مؤيدة لهم، ولها معهم حجة أخرى، وهو أن من تكريم حفاظ القرآن أن يعاملوا كبعض خدمة الكنائس والأديار الذين يعفون من خدمة العسكرية وهم غير متعلمين! ! وطفقوا يصورون للعامة أن هذا إهانة للقرآن وأن بعض العظماء في الأمة يذرون الدموع أسفًا وحزنًا على مصاب الإسلام بإخراج حفاظ القرآن من الأمية والجهل بالقراءة والكتابة إلى أدنى مرقاة من سلم العلم والمعرفة. وقد نشرت في المقطم مقالة معزوة إلى أحد العلماء جاء فيها أن تعلم الفنون العسكرية من فروض الكفاية فلا ينبغي أن يُعَدَّ إهانة لأهل القرآن، وإذا كان الناس لا يستغنون عن الحفاظ في البلاد والقرى ليرجعوا إليهم في ضبط القرآن أو أحكامه فالجنود يحتاجون أيضًا إلى الحفاظ في سفرهم وإقامتهم لمثل ما يحتاج إليهم غيرهم، فقام الأزهري المجهول يهزأ بهذا القول الحق ويزعم أن الفنون العسكرية ليست مفروضة في مثل هذه البلاد، يشير إلى أن هذا الغرض سقط عن المسلمين في مصر لاحتلال الإنكليز فيها. وقد نسي هذا الأزهري -إن كان هنالك أزهري- حكم مذهبه الذي يتلقاه هو وأمثاله في الأزهر في دخول الأجانب في بلاد المسلمين فاتحين ويعتقدون أنه محكم يعمل به في كل زمان وهو أن الجهاد عنده يكون حينئذ من الفرائض العينية التي تجب على كل مكلف حتى مشايخ الأزهر ومجاوريه وكذا النساء في قول، فإن كان يعتقد أن الإنكليز فتحوا هذه البلاد وملكوها وصارت في عرفه دار حرب فكيف كتب ما عزاه المؤيد إليه، وإن كان يعتبر الظاهر الرسمي وهو أن هذه البلاد لا تزال إسلامية وأن حاكمها هو الأمير عباس باشا حلمي الذي ولاه عليها السلطان عبد الحميد وأن البلاد دار إسلام وأن الإنكليز فيها معلمون ومصلحون لفساد حكامها حبًّا في الإنسانية فكيف يزعم أنه طرأ عليها ما أسقط الفرض عن مجموع أهلها حتى انتقد الاستعداد له؟ لعله عرَّض بذلك التعريض لاعتقاده أن ذلك العالم الذي كتب في المقطم لا يقدر أن يبين رأي فقهاء الأزهر في هذه المسألة وينشره في المقطم أو في غيره خوفًا من الإنكليز، وإن كان الإنكليز فوق ما يظن من احترام الحرية الدينية وغير الدينية؛ لأن نفوذهم لم يكن يمنع الناس من إظهار ما يريدون إظهاره، وإنما هو بالسماح لهم بذلك؛ لأنهم لا يخافون عاقبة ذلك ما داموا واثقين بأن سيرتهم هي العون لهم على إرضاء الناس وتفضيلهم إياهم على الظالمين الذين غلُّوا أيديهم عن الظلم. ما لنا وللبحث مع المجهولين في أمر الدين، ونحن نعلم مبلغ علمهم وغاية مرماهم في كتابتهم، وهذا مما نحب الإعراض عن الخوض فيه، ولكن هناك أمرًا آخر جديرًا بالاعتبار وعرضه على ما تقدم من النصوص، وهو أن الشيخ عبد الرحمن الشربيني شيخ الجامع الأزهر كتب إلى نائب أمير البلاد (قائمقام خديوي) رئيس مجلس النظار كتابًا رسميًّا عن قرار من مجلس إدارة الأزهر يطلب فيه أن تعدل الحكومة عن مشروع امتحان الحفاظ بما تقدم ذكره، وهذه عبارة الكتاب بعد حذف رسم الخطاب، منقولة عن المؤيد: (قد علمنا أن نظارة الحربية وضعت مشروعًا جديدًا لتعديل بعض مواد قانون القرعة العسكرية وأنه معروض الآن على مجلس شورى القوانين وأنه يقضي بأن من يحفظ القرآن الشريف ويحسن تلاوته وليس له حرفة سواه لا يعفى من القرعة العسكرية إلا إذا كانت له دراية بفن الحساب ونحوه. وحيث إن كتاب الله تعالى (القرآن) هو أفضل الكتب السماوية وهو أساس دين الإسلام، قد انعقد الإجماع على أن حفظه والتعبد بتلاوته هو من أهم أمور الدين وأن حَمَلته من أشرف الناس وأولاهم بالاحترام والتكريم، وأن حفظه من فروض الكفاية، وأن القائمين به كالمجاهدين في سبيل الله تعالى، وأنه أصل الأصول فكل شيء يرجع إليه ويتبعه، فهو بمفرده كافٍ لاحترام أهله وتوقيرهم بدون ضم شيء آخر إليه. فلذلك وما رأيناه من ميل علماء الأزهر وغيرهم من التحرير لجانب الحكومة السنية بالتماس العدول عن المشروع الجديد وإبقاء الحال على ما كان عليه قد جرت المذاكرة في هذا الشأن بمجلس إدارة الأزهر بجلسته المنعقدة يوم الأحد ٢٨ مايو الجاري فتقرر أن يرفع الأمر إلى عطوفتكم وإلى هيئة الحكومة رجاء العدول عن هذا المشروع وإبقاء الحال على ما كان؛ احترامًا لكتاب الله تعالى وإجابة لنداء علماء الأمة، وأن لا يكون الامتحان في نظارة المعارف كما يقتضيه المشروع. فلهذا اقتضى تحريره ومع الموافقة يرسل من هذا المحرر صورة إلى مجلس شورى القوانين للعمل بما فيه، أفندم) اهـ. وهذا الكتاب منتقد من وجوه: (منها) أن عبارته كعبارة بعض الجرائد فيها ما ينتقد لغة ولا نطيل في هذا. (ومنها) أن الحكومة لم تشترط في إعفاء الحفاظ من القرعة العسكرية (الدراية بفن الحساب ونحوه) وإنما اشترطت معرفةً ما بقواعد الحساب الأربع في الصحاح دون الكسور وهو ما يمكن تحصيله في أسبوع وإتقانه في شهر، ومعرفته كمعرفة الاسم والفعل والحرف في النحو بتمييز بعضها من بعض بالإجمال، فإن كان العارف بهذه يعد ذا دراية بفن النحو فالعارف بالقواعد الأربع الصحيحة يعد ذا دراية بفن الحساب. والدراية هي العلم، وقيل: هي أخص من العلم. ثم إن المفهوم من كلمة (ونحوه) سائر الفنون الرياضية كالجبر والمقابلة والهندسة وليس شيء من هذا مشروطًا. (ومنها) قوله: انعقد الإجماع على أن حفظه والتعبد بتلاوته من أهم أمور الدين، وقد علم مما تقدم أن كلاًّ من الحفظ والتعبد إنما يكونان من مهمات الدين بالشروط والآداب التي فهمت من الآيات، والأحاديث السابقة وذلك لا يتحقق إلا في الحفاظ وأهل القرآن الذين ينطبق عليهم معاني الآيات والأحاديث وأقوال العلماء التي تقدمت وهي لا تنطبق على الحفاظ الأميين الذين لا حظ لهم من القرآن إلا تحريك اللسان بها للكسب أو للعبادة، فأما تحريكها للكسب فقد علمت ما فيه على أن بعض العلماء أجاز أخذ الأجرة على تعليمه بعقد صحيح وقلما يصلح للتعليم الأمي المحض الذي لا يعرف ما اشترطته الحكومة في إعفاء الحفاظ. وأما المتعبد بالقراءة فلا مزية له على القارئ بالمصحف، بل صرح العلماء بأن القراءة في المصحف أفضل، وروي الحديث في ذلك، وهذا التعبد عندهم سنة لا فرض كفاية فهو من قبيل الذكر والتسبيح. فكأن شيخ الأزهر لا يريد إلا إعفاء الحفاظ القائمين بحقوق القرآن وقليل ما هم وهو خلاف المتبادر من غرض كتابه. (ومنها) قوله: إن القائمين به أي بالحفظ كالمجاهدين في سبيل الله تعالى والظاهر أن هذا من المجمع عليه في رأي الشيخ وقد رأيت كلام الحافظ ابن حجر فيه وأنه لا ينطبق على هؤلاء الحفاظ الجاهلين بمعاني القرآن وإفادتها. (ومنها) قوله: وإنه أصل الأصول فكل شيء يرجع إليه ويتبعه. وليس حفظ القرآن من غير فهم أصلاً لأصول الدين يرجع إليه كل شيء، وإنما ذلك القرآن نفسه من حيث فهمه واستنباط الأحكام منه والاهتداء والإرشاد به، وهؤلاء الحفظة المطلوب امتحانهم بالقراءة من غير اشتراط الصواب وعدم اللحن ليسوا على شيء من ذلك، فعلم أن دعوى الإجماع على ما فهم من الكتاب غير صحيحة بل لم يقل أحد من الأئمة بأن أمثال حفاظ الألفاظ الذين يًدعى واحدهم في مصر بالفقيه لهم تلك المزايا والحقوق والاحترام الديني؛ فالنتيجة المرادة من كتاب الشيخ المبنية وهي العدول عن المشروع احترامًا لكتاب الله تعالى لا تترتب على تلك المقدمات، بل تنفيذ المشروع أقرب إلى احترام القرآن وأهله من العدول عنه؛ لأن اللائق بحَمَلة القرآن أن يكونوا من أهل العلم باللغة والقراءة والكتابة وبل أن يكونوا أعلى من ذلك كما علم مما تقدم ومما انتقد به الكتاب كونه بقرار مجلس إدارة الأزهر الذي يعد من مجالس الحكومة وهو مقيد بقانون ليس أن له يتعداه رسميًّا فكان اللائق أن يكون نصيحة دينية غير رسمية إن كان هناك وجه للنصيحة. أرسل الكتاب إلى رئيس النظار وبعد إرساله بيوم نشر المؤيد بتاريخه (وهو ٢٤ ربيع الأول) وعدده الرسمي (وهو نمرة ٦٦٧) وفي اليوم لنشره اجتمع شيخ الأزهر ببعض أعضاء مجلس الشورى فسألوه هل في مشروع الحكومة شيء مخالف للدين فقال: لا، وتذاكروا في كتابه إلى رئيس النظار فقال لهم على ما نقل إلينا أن الكتاب الذي نشر وكتب لم يكن مطابقًا لم أمر هو به، وأنه رأى فيه بعد النشر ما لم يكن يعلم واقتنع بأن إرساله كان في غير محله، وبادر إلى ملاقاة رئيس النظار واعتذر له عن إرسال الكتاب ورغب إليه في (سحبه) وإهماله وحسبانه كأن لم يكن فقبل الرئيس منه ذلك. وكان هذا من دلائل سلامة قلب الأستاذ شيخ الجامع وحسن نيته، على أن سحب الكتاب قد ساء الذين سعوا فيه وحملوا الشيخ عليه كما ساء إرساله جميع العقلاء الذين علموا أن عاقبته لا تكون حسنة، وهو الآن حديث العامة والخاصة وجميع المسلمين ممتعضون لما صار إليه مجلس إدارة الأزهر من التأثر بكلام أهل الأهواء الذين يذمون الحسن ويمدحون القبيح ومجاراتهم التي تفضي إلى ما لا تحمد عقباه.