للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
يوم ١٥ يولية - سنة - ١٨٦:
(فوائد الشدائد - بذل النفس للمحبوب أول الحب)
كان منا خرق وطيش كادت عواقبه تكون علينا خسارًا مبينًا ذلك أني و (أميل)
و (لولا) خرجنا عشية أمس نتنزه والساحل ممتطين أفراسًا فأوغلنا في مسيرنا
معتسفين، ولا يلبث الإنسان بأدنى بحث في شكل هذه السواحل الظاهري أن يدرك
أن البلاد نشأت من الزلازل الأرضية.
من أسمى الأفهام التي انتهت إليها حكمة العلوم الحديثة على ما أرى [١] إدراك
أن للناس فوائد فيما يُبتلون به من المصائب، فإن لها دخلاً عظيمًا في تكون العالم
المادي.
وما أدراك ما هذه المصائب؟ إذا رُجَّت الأرض رجًّا، وتولاها الاضطراب
عمَّ الفزع كل من على ظهرها ممن يشهدون زلزالها، ورأيت الحيوانات جافلة
حيرى لا تدري ماذا يراد بها.
وإن لمن شهد الزلازل من سكان هذه البلاد قصصًا عنها يروونها للأجانب
تحاكي قصص التوراة، فكأي من قرية كانت بالأمس عامرة سعيدة أصبحت خاوية
على عروشها، فلا يجد الباحث عنها في عرصاتها إلا أطلالاً بالية، ورسومًا دارسة،
وإذا انقضت الزلازل لم يكن للناس حديث مدة الشهر التالي لوقوعها إلا قصصها
المحزنة فمن رجال ذهبت عقولهم من الفزع، وأموال لعبت بها أيدي الضياع،
ونساء وأطفال وشيوخ خرت عليهم بيوتهم فخنقهم ردمها.
لا يسلم تاريخ هذه الرزايا من اختلاط القصص به، فمما يحكيه الناس هنا أنهم
شاهدوا في زلزلة ليلية على وميض البروق المشئوم أن الأرض قد انشقت وبرزت
هياكل قدماء الأنقين [٢] من قبورها ثم عادت فغيبت في هذه المهاوي التي ما لبثت
أن التأمت عليها.
سكان شطوط المحيط في هذه البلاد أشد تعرضًا للمعاطب، فإن البحر في بدء
الزلزال يتقهقر عن الأرض كأن قد ملكه الذعر، ثم يعاود الكرة وقد هاج غضبه
واشتد صخبه ولجبه، وهنالك تنكسر أناجر السفن، وتنقطع سلاسلها، وتأخذها
أعاصير الماء فتدور بها دورانًا، وأما جسور المياه فإنها تستسلم لضغط الأمواج
فتفتح أبوابها للخراب والهلاك.
وللبيرويين من المعرفة الصحيحة بما لأرضهم التي استودعوها حياتهم وعيالهم
وآمالهم من ضروب الختل ما يجعلهم في عامة أوقاتهم على حذر منها، فتراهم لا
يذوقون النوم إلا غرارًا مستعدين على الدوام للهبوب من بيوتهم لأقل لغط أو أدنى
رجة سائلين ما الخطب؛ فإذا قيل زلزلة برزوا جميعًا.
على أن لهم بهذا القطر الذي تميد بهم أرضه كلف العاشقين لجماله وخصبه، فإنك
تجد في البقاع المزروعة منه حقول الذرة، وقصب السكر والقطن والفواكه
الأسبانيولية كالبرتقال، والليمون، والرمان، والتين، والزيتون قد ازدوجت بجميع
فواكه المنطقة الحارة كالموز والأناناس؛ فتلك الأرض المتزلزلة حبلى بالحياة فهي
تنمو وتعلو وتتنفس، ولا ينبغي أن ينقم منها أنها في عملها هذا تشوش نظام عمل
الإنسان أحيانا بما لها من صنوف التدمير وضروب التخريب.
الآثار والمدن المجهولة في البيرو
والموازنة بين القوى والأعمال

يوم ٢٨ يوليه سنة - ١٨٦
كثيرًا ما نلاقي هنا هنودًا أصليين يشتغل بعضهم بالتماس الثلج من رءوس
الجبال ونقله على ظهور البغال إلى (ليما) حيث يعتبر من أوائل مشتهيات المائدة،
وبعضهم ينقل الملح إليها من سواحل البحر على قطعان اللاما [٣] .
ياله من بَوْن بعيد بين ما عليه هؤلاء الهنود الآن من الذل والشقاء وما كانوا
فيه من العظمة والرخاء.
معابد الأنقين التي يرشد أهلها السائح إلى زيارتها، وطريقهم الحربي المشهور
الذي اختطوه لمقاتلتهم، ونظام رَيّهم العجيب الذي كانوا يبلغون به مياه الجداول
الصغيرة إلى الحقول بما كانوا يحتفرونه من الخنادق ليخصبوا به من الأرضين ما
صار بعدهم محلاًّ، كل ذلك مما يحمل على الاعتقاد بأن الأجيال الأصلية التي كانت
متوطنة وسط أمريكا أوقفت في سبيل تقدمها بحلول الجيل الأبيض الذي انقضّ
عليها في بلادها انقضاض العقاب؛ فعاقها عن رقيها، فإنها كانت تسعى إليه، ومن
ذا الذي في استطاعته أن يخبرنا بما كان يحصل لو أنهم أمهلوا حتى بلغوا مثال
تمدنهم الصحيح ربما كان انعكس الأمر، فذهب مثل خريستوف كلومب من حمر
الجلود فاكتشف الدنيا القديمة.
قبائل الهنود التي لم تخضع إلى اليوم للحكومة الأمريكية تحذر ما يقدم لها من
الهدايا وما تدعو به من المزايا على حد قول القائل: (الروم أخشى) [٤]
ولم تفلح الحكومة في إرسال الدعاة إليهم لدعوتهم إلى النصرانية، فإنهم
يعلمون أن لفظ إنجيل في فم الأبيض معناه الاستعباد لجيلهم ومصادرتهم في أرضهم
لم يسلم الساحل الذي كنا نتنزه عليه من فعل الزلازل الأرضية التي لا شك في
أنها تبتدئ من سلسلة جبال الإندز [٥] ؛ فإن الإنسان فيما يلاقيه هنالك من الشقوق
والأنجاد والأغوار التي لا تلبث بعد انخسافها أن ترتفع، لا يزال يعرف ميدان تكافح
الفواعل النارية.
كانت (لولا) تسير على الساحل وكلها زهو وعجب باستقبالها (أميل) في
بلادها ومرحبتها إياه غير مفكرة في شيء عسى أن يكون من الحبائل تحت هذا
الساحل المتباين الذي دعثرته العواصف والأعاصير، فهمزت جوادها بحدة مفطرة،
وأخذت به شط البحر، وكنا نحن نتبعها ولكن من بُعد لبلادة فَرَسَيْنا على أن (أميل)
لم يلبث أن خف إليه خفة المستيئس لما نبهته هيعاتي إلى الخطر الذي كانت ملاقية
له، فلما بلغ تلك الفارسة المرحة لم تكن إلا على نحو مائة متر من هوة بين
صخرتين؛ كان لا محيص لها من التردي فيها بجوادها مرسلة الشعر في الهواء
مشرعة السوط، فأخذ بعنان فرسها وقسره على التحول يسرة، فرفع يديه قائمًا على
رجليه وحرن، ثم ما لبث أن وقف كأنه أُلهم الوقوف فجأة.
فأما (لولا) فقد اُمتقعت (تغير لون وجهها) وارتعدت فرائصها؛ لأنها كانت
أبصرت الهوة وشكرت (لأميل) همته بأن قبلته تقبيلاً يشف عن الوداعة وسلامة
القلب كالذي يقع من أخت لأخيها.
وفي يقيني أن هذه الحادثة لم تزد شيئًا على ما يضمره كل منهما للآخر من
المحبة والوداد، ولكني أحسب أني لاحظت من عهد حصولها فرقًا دقيقًا في رعايات
(أميل) لها بزيادة تحدبه عليها، فكان بذل النفس للمحبوب أول الحب.
ذلك أمر لا بد أن تكشفه لنا الأيام؛ لأني وهيلانة قد عودنا هذين الغلامين على
أن نصدقهما لمجرد قولهما فلا إخالهما يجسران على غشنا. اهـ
يعتقد بعض أهل (ليما) أن من المدن البيروية أو المكسيكية القديمة ما لا تزال
موجودة لم يبلغها الفاتحون من أسبانيا، وإذا سألتهم أين هذه القرى لا تجد منهم أحدًا
يستطيع أن يجيبك عن هذا السؤال، ثم إذا قلت: كيف أن أحدا من سائحي اليوم لم
يعثر عليها؟ أجابوك: إن هؤلاء الأقوام القدماء سكان تلك المدن مكنوفون من كل
ناحية بالصحاري، والآجام، والمستنقعات، وسلاسل الجبال وغيرها من العقبات
الكثيرة وبذلك حفظوا استقلالهم على أن الوصول إليهم يقتضي وطء قبائل متوحشة
تمنع الأجانب من دخول أرضها؛ وتجزي عليه بالقتل واسمهم الهنود البسلاء
(انديوس براقوس) وهم جيل حربي يسكن الهضاب الواقعة شرقي البيرو
والقونشوس ويقال: إنهم من أكلة لحوم البشر.
ولقد ذهب فريق آخر من البيرويين في دعاويهم إلى ما هو أبعد من ذلك فلم
يقتصروا على القول بوجود المدن المذكورة بل قالوا: إن بعض ركاب التعاسيف
الخاملي الذكر والمترفقين من التجار وطلاب المهن زاروها المرة بعد المرة، ومن
هؤلاء الزوار من انقطع ذكرهم فلم يسمع عنهم شيء، ومنهم من حكوا ما عاينوه
منها، فهم مصدر ما عرف عنها، غير أنهم لبعدهم عن الحضارة بل وعن العلم لم
يخبروا بما اكتشفوه إلا بعض التجار الرحل أو الصيادين، ولم يستطع هؤلاء عن
حكايتهم لما وعوه أن يؤدوا لمن سمعوا منهم إلا أخبارًا مبهمة جدًّا.
والذي ينبغي أن يعتقد في مثل هذه الأحاديث هو أن يحسن قبل نَبْذِها
واعتبارها من الأساطير؛ أن يفكر فيها مرتين؛ لأنها على كل حال ليست بعيدة عن
الحقيقة بعد أن اكتشف استفنس [٦] وغيره من السائحين الذين جابوا وسط أمريكا ما
اكتشفوا من الآثار الحقيقية، وبعد الأبحاث التي حصلت وسط الغابات الكثيفة ولم
يشهدها إلا الببغاءات والقردة وخصوصًا بعد أن ثبتت للعالم صحة بعض الآثار
المروية عن الهنود ثبوتًا واضحًا من أطلال القرى المكتشفة مثل قوبان
وقيشي وأوقوزينجو وبالانقا وغيرها من القرى الكثيرة المدفونة تحت جذور الأشجار
من قرون طويلة.
نعم إن موضوع البحث والنظر هاهنا ليس مدنًا بائدة بل هو مدن حية قد يعثر
فيها أن وجدت على تاريخ جيل من أجيال البشر برمته ومعابدهم وآلهتهم وقسيسيهم
وشرائعهم وعوائدهم.
ربما مال (أميل) و (لولا) إذا سمعا مثل هذه الحكايات فاتقدت بها مخيلتهما إلى
أن يباشر البحث عن تلك المدن المجهولة، فإن من هو مثلهما في سن المراهقة لا
يفكر في العقبات ولا يحسب لها حسابًا فهما من هذه الجهة شبيهان بعامة الناس ولو
أني ثبطت عزم هذين القرنين الصغيرين وأخمدت توقد ذهنهما للُمْتُ نفسي على ذلك،
ولكني انتهزت هذه الفرصة فقلت لهما لا يزال في بلاد البيرو كما في غيرها كثير من
الأشياء التي يلزم اكتشافها غير أنه يجب على الإنسان قبل كل شيء أن يعرف
كيف يزن قواه بطبيعة ما يريد مباشرته من الأعمال. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))