آثار العرب في سويسرة: لم تزل للعرب آثار كثيرة في سويسرة، منها برج السارازين (لا يخفى أن لفظة سارازين كان يطلقها الإفرنج على المسلمين في القرون الوسطى واختلفوا كثيرًا في أصل هذه الكلمة وكيفية اشتقاقها، وقرأت في رحلة ابن بطوطة أن الملك الرومي الذي كان في القسطنطينية سأله هل أنت سراكنوا؟ قال: وهذا اللفظ معناه مسلم بلغتهم) وهو برج بقرب بلدة فيفاي بجوار (مونتروا) من مقاطعة (لوزان) ومما ينسب إليهم مغارة وكهف في جهات لوستس. وقال بعض المؤرخين ممن نقل عنه كلر: مِن المُحقَّق أن عصائب العرب زحفت إلى (الجورة) وبحيرة جنيف وأنه لم يوجد من مؤرخينا من يذكر دخولهم إلى روارسيه، وكانت كتبنا صامتة عن ذلك. فالتواتر ورواية الأخلاف عن الأسلاف متصلة بالسند تقومان مقام ذلك، وكثير من أسماء هذه البلاد تدل على وقوع هذه الغزاة. وعلى نصف ساعة من دفليه في الجبل من جهة الشمال الغربي على مقربة من الطريق الروماني المؤدي من دليمون إلى آجوا يوجد مضيق بين جندلين اسمه كهف (السارازين) وشيوخ دفليه يروون عن آبائهم وأجدادهم خلفًا عن سلف أن هذا المكان كانت أقامت فيه شرذمة من (السارازين) كانوا يوردون جمالهم (يظهر أنه أينما تكون العرب تكون الجِمَال ولو في قلب أوربا) ماء سورن بقرب كورتتل، وهذا اسم طريق روماني مهجور الآن، ثم إلى أحد صخور غار السارازين عدد ٢٣ منقور نقرًا غريبًا بأرقام عربية لا يعرف السبب في نقر هذا العدد خاصة لانقطاع سند التواتر وعدم وجود تاريخ لذلك، وإنما المعروف أن العرب كانوا مقيمين هناك دركًا ثم إنه بقرب روسميزون تجاه جبل شبوت يوجد طريق اسمه طريق السارازين. ثم إنه يوجد في بلاد البيامون ووادي ساس في الجبل طريقان: أحدهما يمر من فوركنتال مخترقًا ممر أنترونه، والثاني يمر من مونتومورو أي جبل المورو - وهو المسلم المغربي في عرف الإفرنج - وكل من المضيقين كان إلى سنة ١٤٤٠ يقال له الممر القديم، ويقول فرديناند كلر نقلاً عن المؤرخين أنه مما لا يجوز أن ننساه أن المعاهدة التي عقدها الملك (هوغ كونت برفاتس) مع العرب كان من جملة شروطها: سد جميع المضايق والثنايا إلا ثنية سان برنار فقط؛ فلذلك ترى هناك محلاًّ اسمه (الماجل) وهو بدون شك محطة بريدية، وتجد في وادي ساس مكانًا يسمى (ألا لاين) وهو (العين) وهناك ماء على الطريق في أعلى الوادي كما أن في شرقي الوادي عين ماء اسمها Eienapl أي عين الألب. وفي غربي وادي ساس محل اسمه ميشابل وهو حسبما يظن الأستاذ هيتسيغ مُحَرَّف عن (مشبل) أي اللبوة التي معها أشبالها بدليل أن هناك غربي ممر سيميلون جبلاً اسمه جبل الأسد، ونحن نظن أن الاسم هو (مشابل) كما يلفظونه الآن لا (مشبل) وهو جمع (مشبل) اسم مكان، كقولك: مأسدة. أو هو (مشابيل) جمع (مشبول) ومكان مشبول: كثير الأشبال. ومن أكثر الأشياء في تلك الجهات التي جال فيها العرب اسم (مورو) الذي هو - كما تقدم - اسم المغربي عند الإفرنج؛ لأن الرومان كانوا يسمون المغرب الأقصى (موريتانيه) فمن ذلك جبل مورو الذي عند فراكسينة، وعليه قصر من آثار العرب ويوجد ممر اسمه موروباس في ناحية (ماكوغناغه) في البيامول، كذلك في واد يقال له وادي أنزا (ولعله وادي العنزة) محل يقال له (سيما دليمورو) أي قنة المغربي وهو إلى الشمال من بريسينون، وفي جبل سان برنار غربي الدير الشهير قنة شاهقة اسمها مونتمور. وما عليه اسم (سارازين) شيء لا يكاد يُحْصَى. ذكر المسيو إدوارد كلرك في تاريخ ولاية (فرانش كونته بفرنسة) أن الأسماء المضافة إلى سارازين كثيرة في تلك الولاية، قال: عندنا خمسة كهوف يسمى كل واحد منها بكهف السارازين، وجسران اسم كل منهما جسر السارازين، وثلاثة قصور كل منها يقال له قصر السارازين، وطريقان كل منهما يسمونه السارازين، وسد طاحون منسوب إلى السارازين، وواد صغير يسمونه وادي السارازين، وجندلان كبيران كل منهما يقال له صخر السارازين، وباب يُرْفَع ويخفض من آثار السارازين، وقرية اسمها ساراز، وهناك أيضًا حائط السارازين ومعسكر السارازين إلخ، وأمثال هذه الأسماء يجدها الإنسان في مقاطعة بريس وفي الليونه، فمن ليون إلى حدود فرنسة الجنوبية تكثر الأبواب التي ترفع وتحط أمام القلاع، وكلها منسوبة إلى السارازين. ويقول هؤلاء المؤرخون الذين أثرنا عنهم ما تقدم من تاريخ العرب في سويسرة: إنه كان للعرب قدرة بالغة على البناء وتشييد الأبراج وتحصينها وإحكام أقفالها، وقد تركوا آثارًا بديعة مدهشة، ففي إيطالية وغربي سويسرة لا تزال جدران كثيرة مبنية بالحجارة الكبرى من بناء العرب، وفي كل بناء تركوه ظهر أنهم أهل هندسة وقوة حيلة يُعْجَب بها كل من تأملها، فتركوا بهذه الآثار ذكرًا عظيمًا بين الأهالي؛ ثم إنه قد وجدت في سويسرة مسكوكات كثيرة عربية، وأكثرها من مسكوكات الإسلام في إفريقيا منها ضرب سنة ١٦٩ للهجرة ومنها ضرب ١٨٢ للهجرة، وأكثرها من عصر هارون الرشيد، وقسم منها مضروب في القيروان، ويُظن أن أكثر هذه النقود وصلت إلى سويسرة بواسطة النورمانديين، وكذلك وجدت في بلدة مودون من سويسرة مسكوكات منها من سنة ١٧٠ للهجرة مضروب في أفريقيا ومنها ضرب إسماعيل بن أحمد في أيام الخليفة المعتضد سنة ٢٨٣ للهجرة، ومنها ضرب في بغداد سنة ٣٦١ هجرية مكتوب على بعضها من الوجه الواحد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ركن الدولة أبو علي بويه، ومن الوجه الآخر: بسم الله، قد ضرب هذا الدرهم في مدينة السلام عام ثلاث مائة وأربع وستين. ووجدت على بعضها: محمد رسول الله. الطائع لله الملك العادل عضد الدولة أبو شجاع. ويظن أن هذه المسكوكات وصلت بواسطة الحروب الصليبية أو عن طريق التجارة. ومما وجد من آثار العرب في سويسرة ثوب حريري مُطَرَّز في دير بقرب (شور) يستعمله القسوس في القداس عليه كتابات عربية مطرَّزَة بالقصب، ولا شك أنه قبل أن يصير ثوبًا كَنَسِيًّا كان خلعة ملوكية أو حلة لأحد الأمراء، وقد أتى المسيو سلنستر دوساسي في كتابه (المنتخب من تآليف العرب) في الصفحة ٣٠٥ على بحث دقيق يتعلق بهذه المنسوجات العربية الفاخرة فقال ما ترجمته: (عرفنا منسوجات كثيرة من هذا النوع الذي يسميه ابن خلدون بالطراز، منها المعطف الذي كان يلبسه قياصرة ألمانية عند تتويجهم، فهذا الرداء عليه كتابات عربية منسوجة بخيوط ذهبية، وقد قرأها وترجمها المسيو تيسشن فظهر أنه نسج في بلرم في دولة الملك روجر (والعرب يقولون رجار) سنة ٥٢٨ هجرية أي ١١٣٣ ميلادية وتجزم بأنه في أيام رجار؛ لأن الكتابات ليس فيها شيء من آثار الدين الإسلامي، ومنها قطعة حريرية مطرَّزَة بالذهب محفوظة في خزانة ذخائر كنيسة (نوتردام) الكبرى بباريز بديعة الصنع مكتوب عليها اسم الخليفة الحاكم بأمر الله المتوفى سنة ٤١١ للهجرة، ثم قطعة ثالثة شبيهة في النفاسة بالثانية وجدت في ضريح بدير (سان جيرمان) المروج، عليها كلمتان عربيتان مكررتان مرارًا. كذلك في مؤلف ظهر على آثار بلرم باللغة الإيطالية طبع في نابلي سنة ١٨١٤ مذكورة كتابة عربية وجدت على أكمام القميص الذي وجد في ضريح الإمبراطور فريدريك الثاني المتوفى في ١٣ ديسمبر سنة ١٢٥٠. كذلك يذكر المسيو (دومور) سجادة عليها كتابة عربية نسجت في مصر في زمان الخليفة المستعلي بالله وذلك يكون بين سنة ١٠٩٤ وسنة ١١٠١ للميلاد وهذه السجادة هي في خزانة آثار الفاتيكان الآن (أي في زمان دساسي وهذا عاش بين سنة ١٧٥٨ وسنة ١٨٣٨) . قد نقلنا كثيرًا من هذا التاريخ عن المسيو رينو الفرنسي وهو من المستشرقين المشهورين، كان عضوًا للمجمع الملكي للآثار والآداب وأحد حفظة الكتب الشرقية المخطوطة في مكتبة باريز الملوكية وتأليفه المسمى غارات العرب في جنوبي فرنسة وفي البيامون (شمالي إيطالية) وفي سويسرة طبع بباريز سنة ١٨٣٦ وقد طالعنا منه نسخة في مكتبة منيخ عاصمة البافيار وذلك سنة ١٩٢٠. وأما المؤرخ الألماني الذي اعتمد عليه (فرديناند كلر) فهو (ليود براند) المؤرخ الشهير القديم العهد ولد سنة ٩٢٢ في لومباردية من أصل شريف ونشأ في بلاط الملك هوغ المارّ الذِكْرِ في بافيان سنة ٩٤٥ وعندما نفي الملك هوغ دخل (ليود براند) في خدمة (برانجر) خلفه وقد سفر لبرانجر هذا إلى ملك القسطنطينية وكانت وفاته سنة ٩٧٠ وألف كتابين باللاتينية أحدهما اسمه: (معالي الإمبراطور أوتون الكبير) والثاني اسمه (سياحتي إلى القسطنطينية) ملأه هزؤًا بدولة بيزنطية وصنَّف كتابًا اسمه (الانتقام) كله نكات ونوادر على أبناء عصره. وفي زمانه كانت وقائع العرب في سويسرة. هذا ما اتصل إليه علمنا من تاريخ إقامة العرب بسويسرة، أو بالأحرى (انتداب) العرب لإدارة تلك البلاد في القرن العاشر. فإن قيل: إنك تُعَرِّضُ بما تسميه دول الحلفاء اليوم (انتدابًا) على سورية وفلسطين والعراق، وهذا لا يشبه ذاك؟ أجبنا أنه لا يوجد أدنى فرق بين الانتدابين، فإذا كان العرب سفكوا دماء بسويسرة فهو - ولا شك - أقل جدًّا مما سفكه الحلفاء في سورية والعراق، وإذا كان أخذوا جماعة بثأر واحد فالحلفاء لم يتوقفوا دقيقة واحدة عن تدمير قرى بتمامها ورمي القنابر الديناميتية على النساء والأطفال والعاجزين وحصد رءوس الألوف لأجل الانتقام من عمل رجل واحد أو عصابة مؤلفة من بضعة رجال. وإن قيل: إن العرب في سويسرة سلبوا ونهبوا، فهل إذا تأمل المنصف إدارة الحلفاء في البلاد الشرقية التي احتلوها وما جمعوه منها من الذهب وما وزعوا من الأوراق المالية بدون ضمان وما حمّلوا الأهلين من المغارم وما استأثروا لأنفسهم من معادن البلاد وأصناف مرافقها - يجد شيئًا غير السلب والنهب؟ وزد على ذلك شيئًا، وهو أن العرب لم يخدعوا أهل سويسرة في القرون الوسطى بقولهم: أنهم حلفاؤهم وأنهم إنما جاءوهم لتحريرهم من رق الأجانب حتى إذا انكشف الغطاء عرفوا أنها خدعة وظهرت الذئاب من تحت أصواف الحملان، كلا كان عمل العرب في سويسرة أشرف، وأبعد عن اللؤم، ولم يكونوا مع ذلك دولاً عظامًا بل شرذمة صعاليك لا يعيبهم ما يعيب الدول العظام {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: ٢٢٧) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان ... ... ... ... ... ... ... ... في ١٥ إبريل سنة ١٩٢٢ (المنار) إننا نود لو يكون للقراء من العبرة بهذه الأثارة من تاريخهم ما هو في نظرنا أهم من المقارنة التي ختمها بها الأمير الكاتب مراعاة لمقتضى الحال، وهي المقارنة بين أحوال الأمة في طَوْر حياتها وإقبالها، وطور ضعفها وإدبارها. تتقاذف الأمواج برهط من صعاليك العرب لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين فتلقيهم بسواحل بلاد لا يشاركهم أهلها في لغة ولا دين، ولا تربطهم معرفة ولا عهد ! يكون من أمرهم وأمر شراذم تتبعهم ما استخرجه لنا الكاتب من أسفار تواريخهم من عزة ومنعة، وتمكن في الأرض، وقتال أو إجارة للأمراء والملوك وفرض الضرائب والمكوس، وإقامة للصروح والحصون. ثم يكون من أمر هذه الأمة أن يذل ألوف الألوف منهم في عقر دارهم، ويسلمون قيادهم فيها لأعدائهم باختيارهم، حتى يكون من مثل أمير الحجاز، تلك البلاد المقدسة التي تحترمها الدول الكبرى ولا تدنو منها بسوء، أن يقترح باختياره على الدولة الإنجليزية أن تنتزع البلاد العربية حتى المقدسة من الترك وتجعلها تحت حمايتها - وأن يكون هذا الاقتراح في الوقت الذي كانت فيه هذه الدولة تتوقع محو اسمها من الدول العظمى بقوة الحلف الألماني التركي، حتى لو أجمع العرب أمرهم واقترحوا عليها الاعتراف باستقلالهم المطلق ومساعدتهم عليه، ولو في مقابلة عدم مساعدة الترك عليها - فضلاً عن مساعدتها على الترك - لقبلوا شاكرين {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: ٢) . ((يتبع بمقال تالٍ))