(الوجه الخامس) أن نقول: إن عدم معرفة حكمة النسخ لا تضر مَنْ جَهِلَهَا، بعد أن يعرف صحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم علمنا بالشيء لا ينفيه، وذلك أمر ضروري لكل أحد ولنكتف في الجواب الإجمالي عن شُبَه غير المسلمين بما ذكرناه؛ خوف الإطالة الذي لا تحمله المجلات في نشراتها، وإلا فالمقام بما له وعليه يجمل فيه الإسهاب والتنقيب عن النكات والأسباب، على أن ما ذكرناه هو اللباب وبه فصل الخطاب لمن يريد الصواب. أما إذا كان المعترضون من غير المسلمين متعصبين؛ لا يريدون الحق ولا يقصدونه، فسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ومثل هؤلاء أناس كثيرون في هذا الزمان، فرحوا وبطروا بما عندهم من العلوم المادية والسياسية والاجتماعية، وهؤلاء هم الذين كفروا بالنعم، وقابلوا الإحسان بالإساءة؛ إذ لم يدركوا ما أدركوه إلا من الأنبياء، عليهم السلام، فما وافقوا فيه ما جاء به الأنبياء - عليهم السلام - يراه العقلاء صحيحًا، وما خالفوا فيه الأنبياء فهو النقص والخطأ، حتى إنهم أنفسهم صاروا يعرفون ما في هذا الأخير من الويلات والبليات شيئًا فشيئًا. هؤلاء المغرورون تارات يستعجلون، فيتبعهم قاصرو الهمم، وضعفاء العقول، أو أسراء الشهوات، فيظنون أن أوضاعهم تغني عن الشرائع الإلهية مع استبعادهم لصحة النبوة والرسالة، فهم لا يفرقون بين الإنسان والحيوانات إلا بالصورة التي هي في زعمهم انتخاب الطبيعة في ترقيها غير المقصود بعلم عليم، وقدرة قادر، وإرادة مريد، ويقولون: ما في الإنسان وغيره من الأسرارالغرائب والغايات والعجائب، إنما وجدت فترتب عليها بعد وجودها ما يليق بها بالاستعداد الطبيعي، وبالقصد الثاني من المنفعل بداعي الضرورة، ودام ذلك بناموس الإرث إلى غير ذلك من خرافاتهم التي تخجل ناقلها وحاكيها، فضلاً عن أن يعتقد صحتها من يوسم بعقل، وهم لم يحملهم على ذلك إلا زهوهم ببعض العلوم التي ذكرناها مع جهلهم بحقائق تلك المعلومات، كما اعترف بذلك كبارهم، حيث قالوا: إنما عرفنا بعض آثار المادة، وبعضها لم يزل محجوبًا مستورًا عنا وعليه، فهم لا يمتازون عن العوالم إلا بمزيد معرفة في الآثار فقط، أما الكنه والحقيقة فلم يدركوها ألبتة. نحن لا ننكر النشوء الطبيعي مطلقًا، وإنما ننكر نشوءًا مخصوصًا، وننكر استقلال الطبيعة والمادة بهذا النشوء الذي ليس هو ذاته لها، وفاقد الشيء لا يعطيه على أن هذا النشوء الداروني يقابله الانحطاط، وبمجاراتهم على مذهبهم، ليس اعتناء الطبيعة بأحدهما بأولى من الآخر إلا بمرجح. وأبطل كل باطل، وأفسد كل فاسد إنكار أن يكون ما في الموجودات كالإنسان وغيره من الأسرار والغايات غير مقصودة بالقصد الأول لغاياتها؛ لأن نقولهم ناطقة بأن القابل الطبيعي لا يجوز أن يتخلف عن وجود ما هو قابل له؛ لأن القابل لا يكون قابلاً طبعًا إلا إذا اندفعت الطبيعة في مجراها التكويني إليه؛ لتؤدي وظيفتها الطبيعية التي لا تمكن طبعًا إلا منه وبه: كالبارود المسدود عليه مثلاً في صخرة ونحوها، إذا ذعر بالنار مثلاً يفجر الصخرة بشق أو خرق. ذلك الخرق والشق هو مجرى البارود المتفرقع ونتيجة تفرقعه الطبيعي، ولا يجوز عقلاً أن يتقدم أو يتأخر ذلك الخرق أو الشق عن سببه الطبيعي. فهل آلة الذكورة والأنوثة ونحوها مما أودع في الإنسان، كانت نتيجة مجرًى طبيعي حين تكون في الرحم، وهل هذا المجرى مقارنًا للتكون غير متقدم ولا متأخر عنه؛ بأن تكون الطبيعة قد أخذت أعمالاً طبيعية من تلك الأعضاء في الرحم، على نحو ما تتأدى بها الأعمال بعد وجود الإنسان؟ إن كان عندهم علم بهذا فليخرجوه لنا، وإلا فقولهم بَيِّن البطلان بنفسه على ما تنصه قواعدهم المقررة عندهم فلا يبقى إلا أن يقولوا مثلنا: إن هذه الأعضاء تكونت بقدرة عالم الغايات مقصودة بالقصد الأول حين التكون، وحينئذ لا يلزم محذور. على أن ما يستدلون به على المذهب الداروني إنما هي احتمالات ملفقة وخرص بعيد لا يتعين بها دلالة على خصوص ما ذهبوا إليه، كما أقر بذلك كبيرهم، وهي مع ذلك لو أخذت بالمأخذ الصحيح لا تُنافي ما جاء به المرسلون - عليهم السلام - في بيان بدء الخلق، بل تكون مؤيدة له، وليس هذا محل الرد عليهم. وإنما المقصود تعريف الناظرين والقراء: أن مثل هؤلاء قد يوردون الشبهات على الأديان، ولا يريدون الرجوع عنها إذا وقفوا على الجواب الصواب، وإنما قصدهم التشكيك بما يناسب طريق أهل الأديان، فإن لم يفلحوا في هذا الافتراء زوروا غيره؛ لما عرفت أنه ليس في معتقداتهم إلا استحالة الرسالة والنبوات [١] ، ونحن نجيب - إن شاء الله - عن كل ما يذكرون؛ لئلا يظفروا بأحد من المسلمين فتروج عليه شبهاتهم فيخسر الدنيا والآخرة. ولنعد إلى المقصود، فنقول: ما قدمناه هو الجواب الإجمالي مع غاية الاختصار، وهو كافٍ وافٍ في رد هذه الشبهات؛ إذ لم ترد على محل معين في واقعة معينة، وما كان منها كذلك فإليك جوابه، والله المستعان وعليه التكلان. أما قولهم: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الدهاء إلى آخره. فجوابهم الذي نقوله: إن هذا اختلاف بحت، وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرته مزبورة ونعوته وأخلاقه وشمائله معروفه مشهورة، فهل رأى الراءون، أو سمع السامعون أن أحدًا ممن عرفه حتى ولو كان من أعدائه، قد وسمه بهذه السمة أو وصفه بمدلول هذه الكلمة؟ لا. وإنما المعروف عن أعدائه - قبحهم الله وخذلهم - إطلاقهم عليه ضد ذلك، فقالوا: إنه أُذُن - ومنهم من قال مجنون ومنهم من قال: شاعر، وإذا رأوا آية من آيات صدقه وهي المعجزة قالوا: ساحر نتربص به ريب المنون - وهكذا الأعداء إذا عجزوا عن المعارضة، وأرادوا الإصرار والتعصب لمذاهبهم بعد قيام الحجة عليهم. والمؤمنون الذين صاحبوه وعاشروه وعرفوهم، قد عرفوا صدقه وكماله، وأنه رحمة للعالمين وعلى خُلُق عظيم، قد بلغ الرسالة حين كان وحيدًا عن الأنصار والأعوان، ولم تأخذه في الله لومة لائم، ولو خالف ما جاء به الثقلان، فقول هؤلاء الذين هم من الناس كسقط المتاع، إنه إذا أتاهم بحكم واتضح له بعد التجربة أنه لم يرض الناس عدل عنه، والتجأ إلى حيلته المشهورة، وهي دعوى النسخ في الأحكام إلى آخره، نقول في جوابه: سبحانك هذا بهتان عظيم، والواقع يكذبهم فإنه صلى الله عليه وسلم لم يراع ولم يمالئ فيما أمره الله بتبليغه أحدًا من الناس كائنًا من كان، ولم يبال بمن لم يرض بذلك وقد آذوه في ذلك أشد الإيذاء، فهل احتال في التخلص من إيذائهم له بحيلة ولو مرة واحدة؟ لا والذي أرسله بالحق، بل كان يفعل كل ما أمره الله به، ولا يبالي بمانع، فلما نزلت عليه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: ٩٤) جاهرهم بالعداوة حتى حقر آلهتهم في المجامع والمحافل علانية، وكان بأبي هو وأمي إذ ذاك وحيدًا عن الأعوان، فصبر على مقاساة المصائب ورموه بالحجارة، حتى خضبت بالدماء نعلاه صلى الله عليه وسلم، فهل يصح أن يقال: إنه كان يعدل عن أحكام دينه إذا رأى أن ذلك لا يرضي الناس، وهو بالحالة التي عرفت وهو هو صلى الله عليه وسلم، كما أنه لا يمالئ الكفار ولا يصانعهم في دين الله، كذلك هو في ذلك مع أصحابه لا يمالئهم ولا يصانعهم في دين الله، وقد دل على ذلك وقائع كثيرة صحيحة، فمنها صلح الحديبية: فإنه أمضاه بعزم لا يعتريه تردد، وقد استاء لذلك أصحابه وكرهوا ذلك غاية الكراهية، ولم ينقل أنهم استاءوا بشيء كاستيائهم بذلك، حتى إن بعضهم - رضي الله عنهم - قال له: (ألست رسول الله، ألسنا على الحق) . فلم يبال باستيائهم في مخالفة ما أمره الله به. هذا ونحوه أعظم برهان، وأكبر دافع ومكذب لمثل هذه الشبهة التي هي مخالفة لما هو الواقع في نفس الأمر. فلعمر الحق إن إيراد مثل هذه الشبهات لأدل دليل على تعصب هؤلاء المعترضين، وأنهم لم يعدلوا إلى إيراد مثل هذه الشبهات الواهية الضعيفة إلا حيث لم يجدوا غيرها، والمسلمون لا يعتبرونها إلا دليلاً على سخف عقول قائليها، وأنهم معاندون للحق والحقيقة، وبدلاً عن تكون مثل هذه الإيرادات شبهات؛ إنما تكون بمنزلة الحجج الدالة على صحة رسالة سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس بعد ظهور ضلال الخصم إلا ثبوت الحق لدينا. ونقول لهؤلاء: إنكم لا تستطيعون أن تدلونا على حكم واحد جاء به الإسلام لا منفعة فيه، أو أنه مضرة لا منسوخًا ولا محكمًا، بالله العجب، أيصح أن يقال ذلك في دين لم يعرف الحق من عرفه إلا من تعليماته، ولم تبزغ أنوار المعارف إلا من مشكاته، ولم تقم ميادين العدل إلا بتلاوة آياته. فدين الإسلام لم ينسخ منه شيء لأجل مضرة أو عدم مصلحة، وإنما يكون ذلك فيه لأجل زيادة في الخير تارةً، وتسهيل على الأمة أخرى، ويكون تارةً تنشيطًا لها، وتارة لتوحيد جامعتها، وتارةً لتقويتها في إظهار الحق على الباطل ودمغه ودمغ أنصاره؛ مع مراعاة ما يليق ويناسب الجمهور الأكبر كلما كثر عدد الأفراد، ومع ملاحظة أحوال الزمان وقوة الأعداء وكثرتهم، وما يلزم أن يكونوا عليه بإزاء ذلك معه وبعده، فالعدد القليل الخائفون من المسلمين، قد تناسب حالتهم أحكام هي أعظم كل خير بالنسبة إليهم، أو لا يمكنهم إلا الإتيان بها فقط، فالعدل أن تكون التكاليف والتعاليم كذلك بالنسبة إليهم وإلى ما احتفَّ بهم من الأحوال. إن التشريع والحالة هذه يكون بالسنة كما يكون بالقرآن، لا ينكر ذلك إلا مكابر؛ ولذلك كان النسخ فيهما سِيَّين، فإذا كثر المسلمون وكانت قوة الإيمان والتصديق فيهم متناسبة متقاربة وضعف بعض ما يحذرون، فلا يشك عاقل في حسن أن يشرع لهم أحكام تناسب ذلك مع مراعاة المصلحة الراجحة، وسواء في ذلك القرآن والسنة، فإذا صلحوا لمقاومة المهاجم أيًّا ما كان وهم بتلك الصفات التي تكاد أن تكون متساوية، فلا يبعد أن يكلفوا ما يرونه سهلاً في اعتقادهم والواقع ومثال الأول: كون الصلاة أول ما فرضت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشية، فإنه يمكن إخفاؤها إذ ذاك مع ضعفهم وقوة العدو. والمثال الثاني: إيجاب الخمس حين وقع بعض اختلاف بين الكفار، حيث وجد فيهم من يؤمن المسلمين، وكف بعضهم عن إيذاء المسلمين، ومن بقي من الكفار حريصًا على الإيقاع بهم، فإنما كان يكون منه السب والضرب بالكف والعصي ونحو ذلك، والمسلمون قد زاد عددهم بعض الزيادة، فكانوا قادرين على المدافعة في بعض الأحيان ولم يؤمروا بالهجرة ولا القتال، فلما أمروا بالهجرة إلى طيبة (المدينة المنورة) حين اشتد عليهم أذى الكفار مرة أخرى وظهر لهم المأوى ونصرهم الأكفاء، وكان المسلمون تتشابه صفاتهم في صلابة الدين والنخوة والقوة البدنية والدينية فلا غرو أن يوجب الله عليهم قتل المبطلين الظالمين، وهذا القتال هو الذي سماه الإسلام والمسلمون بالجهاد؛ وهو قتال أهل الإصلاح لأهل الفساد الذي ينكره عقل عاقل؛ لأن غايته أن تكون كلمة الله هي العليا. والنصارى أنكروا على المسلمين هذا القتال، وليتهم عملوا بما قالوا حتى لا يكونوا من الذين يقولون ما لا يفعلون. فرض الجهاد على المسلمين، وكان الواجب عليهم إذ ذاك - وهم كما عرفت - أن لا يفروا من عشرة أضعافهم من المبطلين؛ لأن الاستشهاد ونحوه لا تخور به عزائمهم؛ وهم بالحالة التي عرفت، ففي هذه الصورة وهي المثال الثالث لا ضرر ولا نقص في هذا الحكم، بل لو بقي أبد الآبدين فليس فيه نقص ولا حيف بالنسبة إلى كثير من المسلمين. وإنما إذا تبدلت الحالة، وصار أنصار الحق كثيرين، أو كان فيهم من يضعف اعتقاده، أو يحرص على حياته أو نحو ذلك، فلا نشك أن زيادة الخير تكون في رفع صفة الحكم كالوجوب واللزوم، ويعوض عنه حكم يناسب صاحب الحق ويميزه عن صاحب الضلال؛ وهو لزوم أن لا يهرب المستعد لنصرة الحق عن الاثنين من أنصار الباطل؛ لأنه إن ضعف مؤيد الحق المستعد عن ذلك، تلزم مساواة أثر الحق لأثر الباطل، وهذا لا يصح ولا يحسن، فالحكم المنسوخ في هذا المثال إنما هو الوجوب اللازم لا الإباحة أو الندب لمن يطيق ذلك. فبهذه الأمثلة يظهر للمنصف حسن النسخ سواء كان في القرآن أم في السنة؛ لأن القرآن من حين البعثة لم يزل ينزل بالأحكام. ولم يكن زمن مخصوص بالتشريع بالسنة وزمن مخصوص بالتشريع بالقرآن، بل القرآن لم يزل ينزل على سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يناسب حال المعينين من معتنقيه، ولم يزالوا يزيدون والأحكام كذلك؛ ما بين أحكام مبتدأة عند وجود عللها وأسبابها، وناسخة من خير إلى ما هو أكثر خيرًا منه، كان ذلك يكون إلى أن مكن الله لدينه، ودخل الناس فيه أفواجًا، وصارت الأمة بحيث يصح أن تكون مثالاً لكافة الناس، فلما آن أوان انقطاع الوحي بتحول رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الدار الباقية، أكمل الله شرعه بما يصح أن يكون دينًا لأهل الأرض أجمعين إلى يوم الدين. فلمثل هذه الحكم كان النسخ - والمسلمون يعرفونها فكيف يقال: إنهم لم يستطيعوا أن يعللوا ذلك بعلل مقبولة - وهم أيضًا يعلمون أن كل ذلك كان يكون لا لاعتراض معترض، ولا لانتقاد منتقد. علموا ذلك بالعلم الضروري من سيرة الشارع صلى الله عليه وسلم ومن نشوء الإسلام، ومن زعم غير ذلك فليعين من هو المعترض والمنتقد، وعلى أي محل اعترض وانتقد، وما هو الاعتراض، وأين السند المقبول؟ وإلا فالمسلمون لا ينظرون إلى هذه الإيرادات والشبهات إلا بعين الاستحقار، يالله العجب! هل وجد في كفار العرب من قريش أو غيرهم من عارض شيئًا من القرآن معارضة صحيحة؟ وهل ظفروا بشيء مما قال هؤلاء أن في إنشائه شيئًا لم يرق له بعد إذاعته؟ ولم لم يعارضوا ما هذا حاله؟ أليس لو وقع شيء من ذلك لتوفرت دواعي الكفار والمسلمين إلى نقله. أما المسلمون فلا بد أن يوجد عندهم ولو لرده وتوهينه، كما نقلوا عن مسيلمة الكذاب وغيره، وأما الكفار فهو غاية بغيتهم ومدار حجتهم، فلو وُجد فلا يعقل أن يهملوه، فعدم النقل لما هذا حاله أدل دليل على العدم. فلا يبقى للخصوم إلا أن يقولوا: إن هذه الشبهات احتمالات مفروضة، وقد قدمنا أن فرض ما يخالف الواقع في مثل هذه الأشياء لا يصح عند من له مسكة من عقل، وأيضًا تجويز مثل هذا الاحتمال الظاهر البطلان يلزمه عدم جواز النسخ الذي عرفت حسنه عقلاً وفطرة، فلو جاز اتهام من ثبتت نبوته ورسالته بالمعجزات والحجج البينات بهذه التهمة، أوجب أن لا يكون للبشر إلا شريعة أول نبي أرسله الله فقط، ولما جاز أن يرسل الله رسولاً بعد رسول بشريعة تنسخ ما لا يناسب أحوال الأمم المتأخرة، وقد عرفت أن هذا يؤدي إلى الظلم المحال على الله، وما استلزم المحال فهو مثله محال، فينتج أن اتهام نبينا صلى الله عليه وسلم بعد ثبوت نبوته بتهمة أنه ما أجاز النسخ في دينه إلا حيلة يتوصل بها إلى إصلاح النقص والعيب الذي يمكن أن يرى في دينه، هو تهمة كاذبة كما قدمنا ذلك، وأن فرضها محال. فوجب أن يكون نسخ اللفظ وإنشاؤه في القرآن؛ كنسخ الحكم لمصالح وحكم، ونحن وإن قصرنا عن أدراكها كلها لأسباب كثيرة. لكن نعلم أن الكتب الإلهية وبالخصوص القرآن هي لنا أصل تعاليم الدين والنظام الاجتماعي، واستعداد الناس متفاوت في التعليم والتعلم، ومن لازم ذلك أن تكون مواد التعليم؛ أي كتبه الدراسية كذلك؛ فلهذه الحكمة وحكم أخرى كثيرة كان القرآن الكريم سورًا طوالاً وقصارًا ومتوسطة، وقد أشرنا إلى ذلك في رسالتنا السابقة، فالنسخ والإنساء اللفظي هو معلل بحكم وغايات هي من جنس ما يعلل به تعدد السور، ومن جنس ما يعلل به البلغاء ما اختصروه من الكتب البلاغية لطوله، وقد تكون هناك علل وأسباب أخرى، وقد صح أن بعض آيات القرآن تتفاوت في الفضل وثواب التلاوة ولا بدع في ذلك، فان فضيلة الكلام تابعة لفضل معناه وكثرة فوائد مرماه - فإذا أنزل الله آية هي نص في واقعة مخصوصة؛ وهي أنسب بإفهام المخاطبين المعنيين لأي سبب، ثم بعد رسوخهم في الفهم وقبولهم لزيادة التلقي ونحوه، بحيث يكونوا قد تزحزحوا من طور إلى طور لا يقبح، بل يحسن أن يأتي الله بآية بدلاً عنها جامعة لما دلت عليه الأولى وزيادة عليه؛ إذ لو بقيت الأولى الدالة على المعنى المخصوص فقط، لجاز أن تكون آيات القرآن إنما تدل على معانٍ جزئية؛ ومن لازم ذلك الطول المفرط الذي يمكن أن يقال: إنه لا يلائم التعاليم، وللزم أيضًا جواز تعرية القرآن من جوامع الكلم حين استعداد الناس للفهم والقبول. وبما ذكرناه يظهر جليًّا أنه لا فرق يعتد به بين النسخ في الأحكام والنسخ والإنساء في الألفاظ؛ لأن ناموس الترقي جارٍ في الأمرين بلا عيب ولا نقص، ولكل حال ما يناسبه من الأفعال والأقوال [٢] . فيا حضرة أخونا الدكتور لا يهولنَّك ما يَهْذِي به المبطلون المتعصبون؛ فإنهم على غير محجة، وليس بأيديهم حجة ونحن قد أضربنا عن كثير من الحجج والمسوغات هنا، واكتفينا بما كتبناه خوف الإطالة. ولكن فتحنا الباب لذوي الألباب وفيه الكفاية وفصل الخطاب لمن يريد الصواب. أما قول المشككين: إن في القرآن من المسائل الخاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، ولا فائدة فيها لأحد سواه (وقد كذبوا، بل فيها من الفوائد ما لا يقدر قدرها إلا من عرفها، وقد علم ذلك العالمون من المسلمين واستفادوا منها وما علينا إذا لم تفهم البقر) ما هو أولى بالنسخ. قالوا: كالآيات الكثيرة من سورة الأحزاب والتحريم، وكبعض آيات سورة الحجرات والمجادلة، فإذا صح عن المسلمين نسخ ألفاظ الآيات التي أدت وظيفتها وانقضى زمنها، فلماذا لم تنسخ ألفاظ أمثال هذه الآيات الواردة في حالات خاصة وفي وقائع خاصة، وقد أدت وظيفتها وانقضى زمنها؟ والجواب أن نقول: إن هذه الآيات هي محكمة وفيها فوائد تتعلق بالأمة أيضًا، ونحن لم نقل ولا قال أحد غيرنا: إن الخصوص والمخصوص سبب للنسخ بل الأمر عكس ذلك ونقيضه، والمسائل والآيات الخاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته هي أجدر بأن لا يكون ولا يقع فيها النسخ؛ لأن اتحاد من تتعلق به الأحكام وكذلك تعين أهل البيت الواحد لذلك؛ بعيد عن وقوع التفاوت واختلاف الحالات التي هي المسوغ الأعظم للنسخ، وهذا بخلاف ما يتعلق بالأمة الكثيرة الأفراد المختلفة الطبائع باختلاف الزمان والبلاد - فظهر أن النسخ فيما ذكروا أنه أولى به باطل، وأن القياس الصحيح لا يُجوِّز النسخ في ذلك، وكذلك وقع. أما قولهم: إنها قد أدت وظيفتها وانقضى زمنها، فجوابه: إنها حين إمكان النسخ والتبديل لم تؤد وظيفتها ولم ينقض زمنها، وأما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) فقد فات وقت النسخ، والمسلمون لا يجوزون الزيادة ولا التنقيص، ولا يحرفون ولا يبدلون في كتب الله وشرعه بعد ثبوتها، وإنما يفعل ذلك من أبعده الله وغضب عليه ولعنه على ألسنة أنبيائه، وهذا الاعتراض والإيراد دليل على أن هؤلاء يقولون ما لا يفهمون اتباعًا لما تهواه أنفسهم، ومن أضل ممن يتبع الهوى ليصد عن الحق. أما قولهم: وما الحكمة من نسخ ألفاظ آية الرجم مع بقاء حكمها في شريعة المسلمين؟ فجوابه أن نقول: إن مسألة الرجم للزاني المحصن قد أنزلها الله في كتابه القرآن، وهي ثابتة في توراة موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فكان نزولها لحكمة توافق الكتابين؛ وليعرف المسلمون هذا الحكم العظيم، ويشتركوا في تلقيه كغيره من القرآن، وفرق بين تلقيهم للسنة والحديث وتلقيهم القرآن، فإن القرآن يتلى تعبدًا في الصلاة وغيرها اجتماعًا وانفرادًا، والله جل شأنه شرع هذا الحكم بالعدل وفق الحكمة، فإن هذه الفاحشة مفسدة الأنام، وأقوى ذرائع الخصام، مهلكة للأموال وللبلدان، ومنهكة للأبدان، ومبيدة لنسل الإنسان في أكثر الأحيان. وإذا كان حدها الإعدام، وأقسى الأحكام، ولما كانت المضرة بما ذكر قد تتفاوت رفع لفظ آيتها حين لا يخاف خفاء الحكم، إذا دعت الحاجة والضرورة إليه - وما رفعه إلا تسهيل ويسر ورحمة وستر - ولئلا يظن المسلمون أن الثواب في التنقيب والتطلع على الناس، فيتسابقوا إلى الشهادة بهذه الجريمة قياسًا على فضل تلاوة آيتها، فرفع الله لفظ هذه الآية لهذه الحكمة، وإنما خصها دون ما سواها من آيات الحدود؛ لأنها أشد الحدود وأغلظها؛ ولأن قباحة الزنا من المحصن فوق كل قباحة ففي رفع هذه الآية إشارة للمسلمين على ترك التجسس للشهادة، كما قال تعالى: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} (الحجرات: ١٢) وإشارة إلى ترك الإقرار بذلك والعدول إلى التوبة، ولذلك اشترط في الشهادة بالزناء ما لم يشترط في غيره، حتى عاقب الشاهد الواحد والاثنين والثلاثة بعقوبة حد القذف، واشترط في ذلك المعاينة التي لا شبهة فيها، والله يحب الستر على عباده فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (النور: ١٩) وقال صلى الله عليه وسلم: (تعافوا الحدود بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) ، فإذا لم ترد شهود في الحدود، فلا يبقى إلا إقرار فاعلها بها ورضاه بإقامة الحد على نفسه بأن لم يتب، ويرجع عن طلب إقامة الحد على نفسه، فلو أقر بذلك وطلب إقامته ثم رجع وتاب، جاز للحاكم إعفاؤه من إقامة الحد أو إتمامه بعد الشروع فيه، وهذا هو ما اختاره شيخنا ابن تيمية - رحمه الله - وهو الحق عندنا الذي دلت عليه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك فيما روى بريدة (رضي الله عنه) قال: جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال يا رسول الله طهرني، فقال: (ويْحَك ارجع واستغفر الله وتب إليه) قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله، طهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيم أطهرك) قال: من الزنا. فقال رسول الله: أبك جنون؟ فُأخبِر أنه ليس به جنون، فقال: (أشرب خمرًا؟) فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، فقال صلى الله عليه وسلم: أزنيت؟ قال: نعم. الحديث وفيه جاءت امرأة من غامد من الأزد، فقالت: طهرني. فقال: (ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه) الحديث رواه مسلم وفيه أنها أبت إلا إقامة الحد على نفسها وكانت حبلى، فأبى صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليها الحد حتى تضع ما في بطنها وتكمل رضاعته، وبعد ذلك جاءت وأقام عليها حد الرجم. وعن أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجه: أن ماعزًا (رضي الله عنه) فرَّ حين وجد مس الحجارة ومس الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه (؟) الحديث وفي رواية (هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه) وهذا نص في أن المقر بالزنا إذا استعفى عن الحد جاز للإمام أن يسقطه، ولذا وذاك ولأن الحدود تدرأ بالشبهات ولا تقام في أرض العدو رفع لفظ آية الرجم، وهي حكمة بالغة، وقد دل عليها الكتاب والسنة، وبقيت آية الرجم ثابتة الحكم بما ذكرناه وبالسنة الصريحة مقيدًا بقيوده كما عرفت، وهي مع ذلك كله موجودة في القرآن ظاهرة للعلماء خفية عن العوام، قال ابن عباس (رضي الله عنه) : الرجم في الكتاب لا يغوص عليه إلا غوَّاص، وهو قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ} (المائدة: ١٥) ، الآية، وقيل: إنها موجودة في غير ذلك أيضًا. فظهر بذلك الحكمة في رفع آية الرجم مع أن بدلها في القرآن موجود، وما ذكرناه من التعليل لا ينافي ما علل به بعضهم. قلت: وقد رأيت السيوطي - رحمه الله - قد أشار بالاختصار إلى ما ذكرته وصرح بأن القرآن الموجود بين أيدينا الآن في المصحف فيه البدل عن كل ما رفع من هذا النوع وغيره. قلت: والأمر كذلك. وفوق ذلك كله نقول لهؤلاء المعترضين: زعمتم أن نبينا صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين، لم يتم له ما تم إلا بعد إصلاح العيب والنقص الذي يراه أو يتوقعه في شرعه وكتابه الذي أنزله الله عليه، وقد كذبتم وكذبكم الواقع المعروف من سيرته كما قدمنا ذلك، وحالة التشريع وكيفية نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم يعلم بها فساد قولكم - أليس إنه صلى الله عليه وسلم كان ينزِّل الله عليه ما شاء أن ينزل من الأحكام والقرآن حين وقوع الحاجة إلى نزوله وبمحضر من أصحابه غالبًا، وقد تنزل عليه صلى الله عليه وسلم عدة آيات دفعة واحدة، والقصة الواحدة كذلك، والسورة الكاملة أيضًا في بعض الأحيان، وبعض ذلك يكون حين وقوع السؤال ووجود السبب المُوجب ارتجالاً - ومع ذلك كله لم يكن صلى الله عليه وسلم يعرف الكتابة، بل كان يحفظ ذلك ويحفظه أصحابه صلى الله عليه وسلم ويتلوه عليهم، ثم يأمر أحد الكتاب أن يكتب ذلك في سورته من غير أن يراجع المكتوب الأول منها ويتأمل المناسبة والمناسقة، وكان يشتهر بين الناس آيات كتاب الله، ويعلمه الخاص والعام والعدو والصديق، فهلا أمكن أعداءه أن يأخذوا عليه شيئًا مما ضعف إنشاؤه في كتابه، وردوه وأتوا بمثله ولو بعد حين؟ إن من يراجع مكتوباته ويتأمل في تأسيس أحكامه؛ ليصلح ما فيها من العيب والنقص، لا بد وأن يكون كاتبًا وقارئًا مطلعًا على كتب غيره؛ ليراجع ما فيها من الآراء فيرجِّح ويضعِّف حينئذ، أو يترقى بفكره إلى أحسن مما فيها. لكن لا يمكنه ذلك الترقي الطبيعي في الأفكار إلا بعد اطلاعه على آراء من تقدمه وإلا لبطلت سلسلة الترقي الذي يسلمها أكثر الناس، وإذا كان لا يمكن الرد والقدح والإصلاح والتكميل والتنقيح إلا بهذه الأسباب ونحوها غالبًا، فإن حصول علوم جميع أهل الأرض لا سيما علوم الأمم المضمحلة والبائدة والمتباعدة، ولا سيما الخفية منها والمهجورة، وبالخصوص في ذلك الزمن الذي بعث فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأن حصول ذلك كله لرجل واحد لا سيما إذا كان من العرب الذين قد عرفوا باعتزالهم علوم سائر الأمم، لمن المحال الذي لا تسلم به عقول العقلاء، فما بَالَكَ باليتيم الأمي صلى الله عليه وسلم الذي قد عُرِفَ منشؤه، ولم يزل أعداؤه يتربصون به الدوائر، حتى وضعوا عليه العيون والرقباء، هل يمكن من هذا حاله المراجعة والإصلاح؛ لما هو بمثابة تهذيب علوم أهل الأرض وتكميل أخلاقهم أجمعين؟ فيا لعقول المتعصبين، أين يذهب بها الهوى؟ قلنا ذلك؛ لأنَّا رأينا ما لم نكن نحسب عاقلاً يقوله: رأينا من على شاكلة هؤلاء المعترضين حين يطعنون في الإسلام، يجمعون ما قدروا عليه من أقوال ومذاهب الأمم الغابرة، ثم يقابلون بينها وبين شرائع الإسلام وما فيه من القصص وغيرها، ثم يقولون: إن هذا أخذه محمد صلى الله عليه وسلم عن أولئك، ثم يقولون: قد ردَّينا الفرع على أصله، وما لم يقدروا أن يجدوا له نظيرًا، يقولون: سيكشف المستقبل حاله، ويقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد اطلع على ذلك وحفظه وهذبه وأصلح فيه، حتى ساقه في قوالب كلامه الفصيح البليغ الذي أعجز العرب! ! قلت: أي وأعجزهم أيضًا أن يعرفوا جميع مصادره ومآخذه. هؤلاء يريدون أن يطعنوا في صحة الإسلام، وما درى المساكين أن ذلك ينقلب عليهم، ويصير من أعظم الحجج المؤيدات لصحة دين الإسلام - لأنه إذا بطل قولهم وصح أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن قبل نزول الوحي يعرف شيئًا مما ذكره أو أن ذلك لا يمكن حصوله لبشر بدون وسائله، وإن تلك الوسائل لا يمكن تيسرها في ذلك الزمان والمكان لا سيما لمن كان مثل محمد صلى الله عليه وسلم - ثبت باليقين كذبهم وصحة دين الإسلام، وأنه وحي الله وأمره، والله أعلم. إنه ما من علم يوجد عند البشر سابقين ومتأخرين إلا وقد نبه على بعض مسائله في معرض: الاعتبار والاتعاظ ونحوه أو الاستدلال وما شابهه، يسوق ذلك سوقًا يعرف من تأمله وحققه أنه كلام مختبر عالم بدقائقه وغوامضه؛ ولذلك تراه يختار من كل شيء صحيحه ونقيه لا يلتفت إلى سواه، وإن أجمع أهل ذلك العصر على سواه. ولم يكتف بذلك، حتى أخبرنا بكثير من أخبار الأيام الآتية التي قد وقع ووجد مصداق كثير منها عيانًا، وقد ذكر من ذلك كثيرًا مما لأمته به تعلق، وهو يذكر ذلك في معرض التنبيه، كما أنه يذكر من أخبار الأيام الماضية ما يذكر كذلك، فيا هؤلاء، هل يمكن المحصل بدون الوحي أن يطلع على ذلك كله مع اشتغاله بتلك المشاغب وقيامه بتلك الوظائف، لا سيما إذا كان يتيمًا أميًّا في بلاد قاصية عن الأمم المتمدنة وبين أمة أمية؟ فإن جوزتم ذلك، فهل يمكنكم أن تأتوا بنظيره في كل ما حكيناه عنه صلى الله عليه وسلم والحالة ما ذكرنا؛ لأن ما يجري على النواميس الطبيعية لا بد وأن يتكرر، بل لا بد وأن يترقى كما هي قاعدة النشوء الطبيعي، وإذا لم تفعلوا فأنتم مفترون مكابرون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: ٢٢٧) . قلت: وبما ذكرناه يبطل قولهم، ولوقوع وصحة ما دلت عليه الأحاديث تبطل دعوى أخينا الفاضل الدكتور: إن أحاديث الآحاد كلها لا تفيد غير الظن مطلقًا. ولنعد إلى إبطال الشبهات المذكورة على النسخ زيادة على ما ذكرناه سابقًا فنقول: إن كان اعتراضكم هذا صحيحًا، وإنه لم يتم له (صلى الله عليه وسلم) ما تم إلا بما ذكرتم فلم لم يقم في وجهه أعداؤه إلى يومنا هذا، فيصلحوا أو يكملوا أو ينقضوا ويبرموا ويتعاضدوا، ويتعاون فصحاؤهم وخطباؤهم وشعراؤهم؛ ليأتوا بمثل قرآنه بزعمكم أو يأتوا بسورة من مثله؟ لم لم يفعلوا؟ وهو يناديهم: هل من مبارز هل من معارض؟ ويتلو عليهم في كتابه {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء: ٨٨) ، ويتلوا فيه {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: ٢٣) - أو - {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} (هود: ١٣) لو كان الإتيان بالقرآن أو بمثله، مما يمكن البشر الواحد ولو بالإصلاح والتمهل كما تقولون، فهلا قدر واستطاع أن يجيء بمثل سورة قصيرة منه جميع العرب العرباء والمستعربين والمتعربين جمعًا وانفرادًا، ولو بعد الإصلاح والتكميل المزعوم؟ وحيث استحال ذلك بمضي تلك المدة الطويلة، وعجز فطاحل العرب وفصحاؤهم، وفاتوا ولم يخلفهم مثلهم. لكن من خلفهم هو أعجز منهم، علم فساد قولكم وكذبه وسقوطه. إن نفس التحدي بسورة من القرآن معجزة؛ لأنه لا يمكن أحدًا من البشر العقلاء أن يدعيها لنفسه من قبل نفسه، ولما يأتي به من عند نفسه، ومن يأمن أن يأتي الزمان بمثله أو بأحسن منه، وإذا لم يكن عنده يقين بذلك، فكيف يشترط صحة دعواه عليه ويعلقها بهذا التحدي، فما بالك بمن قد صرح بصحة جسده وكمال عقله وتدبيره العدو المخالف والصديق الموافق. أما لو كان هذا التحدي بغير أمر الله، لكان من أبعد كل بعيد وأمحل كل محال صدوره من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. هذا بعض ما نقوله في الجواب عن هذه الشبهات الواهية أضربنا فيه عن الإطالة، وما تركناه أكثر، وما عند الكاملين أكثر وأعظم، وما عند الله خير وأبقى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: ٣٧) . فقول الدكتور الفاضل: ومنه ترى أن اعتمادهم فيها (أي في إيراد الشبهات) إنما هو على روايات الآحاد التي يتمسك بها المسلمون، إلى أن قال ما محصله. فهلا ردوا هذه بدلاً عن أن يقوموا في وجهنا ويردوا مذهبنا في هذه المسائل، بما هو في الحقيقة طعن في أصول الدين، وبمثابة تسليم سكاكين للخصم ليقطع بها منهم الوتين انتهى. وأقول: قد عرفت جوابنا عن هذه الشبهات، وأنت إذا تأملت عرفت أن فسادها بديهي، فلا سكاكين وإنما هي شوك مخضود، وبذاء من القول مردود، فلا وخز نخافه ولا قطع، ونحن لم نرد عليه مكفرين له مع تأويله. ولكنا بينا فساد بعض قوله وضعفناه، وقلنا: إنه لا حاجة تلجئنا إليه وهو حفظه الله، إنما خاف من غير مخوف وظن السراب ماء. وليس ما نبحث فيه مع الفاضل الممدوح مما يليق بالعقلاء أن يقولوا فيه تعصبًا وتحيزًا ولا فخرًا وممارة، بل هو الدين وإرادة الحق وطلبه للفوز برضاء الله؛ ولذلك قلنا في رسالتنا السابقة: إن طالب الحق لا يليق به أن يستدل بأقوال الناس، وإنما يستأنس بها بعد البحث والتنقيح. وأما ما ناقض منها حكم الله في كتابه أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنا نضجر منه ونمله ونرفضه؛ لأنه من الغلطات التي غايتها أن يغتفر لقائلها، إذا لم يقصر، ومن تتبع الشواذ وقع في الغلطات، وأنه لولا التأويل بحسن قصد للزم كل غالط لوازم فظيعة مكفرات، ولو التزم كل غالط لوازم قوله لفحش الخلاف وبعد الائتلاف، ولحكم بكفر أكثرالغالطين؛ ولذلك كان القول الحق أن لازم المذهب ليس بمذهب. أما ما ذكره الفاضل في كلمته الثانية من التفصيل؛ فهو وإن كنا نعتقد الحق زيادة عليه، إلا أنه قول قد قاله كثير من الأئمة، ومع ذلك فله حظ من النظر إلا قوله في آخرها (أما الروايات التي تفيد نسخ لفظ القرآن) إلى آخره، فإنا لا نسلمه له؛ لا سيما وقد عرفت مما قدمناه عدم مخالفة نسخ وإنساء لفظ القرآن للحكمة والعقل، فإذا صحت الرواية عن الثقات الضابطين بالحفظ والمراجعة أو بالكتابة المصونة: بأن آية كذا كانت قرآنًا وأنها نسخت أو أنسيت أو رفعت أو نحو ذلك قبلنا ذلك، وحيث كان لو يقصد من هذه الروايات إثبات زيادة على القرآن الموجود فهي غير معارضة ولا مناقضة لما ثبت من القرآن بالتواتر، حتى على قول من يشترط التواتر في إثبات قرآنية القرآن - وترجيح المتواتر على الآحاد، إنما هو إذا اتحدت الدلالة من جميع الوجوه حذو النعل بالنعل مع عدم معرفة المتأخر. أما إذا لم تتحد كالعام والخاص والمطلق مع المقيد، أو ما تأخر تاريخه فلا معارضة ولا مناقضة لا شرعًا ولا عقلاً ولأن الآخذ بالدليلين هو المتعين وإلا للزم إهمال أحدهما - وأصل منشأ اشتراط التواتر إنما هو في الوصف بالقرآنية الذي من أحكامها المفرعة عليها التلاوة في الصلاة ونحوها، وإثباتها في المصحف إلى غير ذلك على خلاف مشهور في ذلك لأهل العلم والنظر؛ ولذلك نرى الحق عدم جواز نسخ السنة للفظ القرآن المثبت في المصحف. وأما حكمه مع بقاء اللفظ فهو محل الخلاف، والحق عندنا جواز نسخ الحكم بالسنة الصحيحة؛ لأن ثبوت الأحكام لا يشترط فيه التواتر كما سيأتي؛ ولأن اقتضاء الحكم للتكرار أمر زائد على مفهوم مجرد الأمر وكذلك الاستمرار كلاهما ظني، وخبر الآحاد أقل حالاته إذا كان صحيحًا أن يكون أرجح. لكن هل ذلك واقع فعلاً أم لا؟ ولا شك أن من بعُد غوره في فقه الدين يعرف أن ذلك لم يقع، وأن السنة مبينة ومفسرة لما دل القرآن عليه ولو بدلالات خفية، أو تأتي بأحكام يكون القرآن ساكتًا عنها، أو زيادة على ما فيه وهذا جمال يدرك المنصف ما وراءه من الفوائد، اكتفينا به عن التفصيل والإطالة. تكلم حضرة الدكتور الفاضل في الكلمة الثالثة من رسالته على قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: ١٠٦) الآية - وحاول أن يثبت أن يكون المراد بالآية المعجزة، وقال: إنها على حد قوله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: ٣٨-٣٩) . أقول: واعلم أنه لم يقل أحد ممن يفسر القرآن بالمأثور أن مدلول الآية هي المعجزة في الموضعين معًا، أو أن معناهما واحد كذلك، والمعروف عنهم أن هذه الآية في المعجزة وتلك في آيات الأحكام، وسيأتي أن بعضهم حمل الإمحاء على نسخ آيات الأحكام أيضًا عكس ما يقوله الدكتور الفاضل، وقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: ١٠٦) قد عرفناك تفسير السلف لها في رسالتنا السابقة. وأما قوله تعالى: ? {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} (الرعد: ٣٨) فلا شك أن المراد بالآية فيها المعجزة خارقة العادة، فليس إلى أي رسول الإتيان بها، بل ذلك إلى الله - عز وجل - يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد - فقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: ٣٨) أي لكل مدة مضروبة كتاب أي مكتوب {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: ٨) ، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحج: ٧٠) فالمراد بالكتاب ما يعم معلومات الله الكونية والشرعية الدينية: بأن جعل لكل مدة مضروبة عنده كتابًا - وبعض السلف قدرها بالنسبة، وقد اختلفوا في المحو والإثبات، هل يكون في كل شيء أم في شيء دون شيء، فقال بعضهم: يمحو الله ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت، وقيل غير ذلك أيضًا..، والذي دلت عليه الأحاديث الصحاح أن ذلك كائن في كل شيء ٠٠ واختلفوا هل هناك كتب وكتاب غير هذا أم لا؟ وليس الإطالة في ذلك من غرضنا هنا، فإن شئت ذلك فارجع إليه في مكانه - فهذان قولان في الكتاب ومدته، والقول الثالث أن المراد بالكتاب كل كتاب أنزله الله من السماء على رسله؛ وهو قول الضحَّاك بن مزاحم، وكان يقول في قوله: {ِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: ٣٨) أي لكل كتاب أجل {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد: ٣٩) منها (ويثبت) يعني حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه. فقول الدكتور الفاضل: يمحو الله ما يشاء من الآيات السابقة فلا يعيدها مرة أخرى للأمم اللاحقة إلى آخره، قول مبتكر لم يدل عليه أثر، ولا قاله أحد من السلف، ولا ندري كيف أجاز لنفسه القول في كتاب الله برأيه. ونقول: معجزات الأنبياء التي قد أظهرها الله، لا يقال: إنه محاها أو نسخها، بل يقال: كتبها وقدرها، وفي الواقع أظهرها وأمضاها وقد فرغ عنها. والمحو إنما يكون لما كتبه وقدره قبل وقوعه إذا لم يوقعه، وما وقع فإنما يقال: كتبه وأوقعه طبق ما كتب، فالدكتور غلط هنا في مواضع - وحاصله أن الكتاب في هذه الآية إن كان كتاب المقادير والمعلومات فالانمحاء فيه لا يكون في المعجزات التي قد أظهرها الله لتأييد أنبيائه، وإن كان المراد به كتبه التي أنزلها على أنبيائه، لكل أجل ما يناسبه من كتب الأحكام وآياتها، فالآية نص في رد ما زعمه حضرته. أما قوله: واعلم أن نظم الآية التي نحن بصدد تفسيرها، يعني قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: ١٠٦) الآية لا يقبل أي معنًى آخر سوى ما اخترناه فيها؛ ولذلك ختمت بقوله تعالى: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: ١٠٦) إلى آخر ما قاله في هذا المعنى. وأقول: نحن قد ذكرنا تفسير السلف لهذه الآية في رسالتنا السابقة، وهم الذين تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان القرآن، وهم الذين شاهدوا الأسباب والوقائع، وهم الذين نزل القرآن بلسانهم، فتفسيرهم للقرآن لا يجوز لنا الخروج عنه بالكلية، وما ذكره الدكتور الفاضل واختاره هو، لم يختره من أقوال السلف، ولم يقل به أحد منهم، وهم قد صرحوا بأن هذه الآية إنما نزلت في آيات الأحكام، فجعل ذلك على المعجزات، إنما هو من باب الحرص والقول بالرأي في كتاب الله وهو لا يجوز [٣] فتفسير الآية في هذا المقام بالمعجزة فقط متعذر من حيث النقل، وسياقها لا يقتضي ذلك وكذلك معناها ومدلولها، لا يصح أن يكون هو المعجزة عقلاً. وما ذكر عن الأستاذ الإمام شيخ الإسلام المفتي الشيخ محمد عبده رحمه الله؛ فإن صح عنه ذلك، فلعله قاله من باب الاستنباط والإشارة والإيماء - زيادة على ما يدل عليه الظاهر - ذلك هو الواجب على الصادق في موالاته. الأستاذ الإمام وما أدراك ما مرتبته وفضله ومقدار محبة أهل الحديث له في جميع الأرض، كيف لا؟ وهو إمامهم وحامل لوائهم الذي هزم الله به المبتدعين وكسر به صولة المقلدين الجامدين. نصر الله به السنة وأتباعها، وحفظها به عن ضياعها، سمعت بعض الناس يقول: إن الأستاذ الإمام لا يقبل أحاديث الآحاد الصحاح - فقلت له: كيف علمت ذلك؟ قال: لأنه قال في بعض كلامه: إننا لا نقبل الحديث إلا إذ تحققنا كما تحققنا وجود مكة والمدينة. فقلت له: ويحك ماذا تقول؟ إن الأستاذ الإمام - رحمه الله - يصح أن يتحقق الأحاديث الصحيحة ونحوها كذلك، وإذا اتسع علم الإنسان ظهر له ما خفي على غيره، وكل أئمة الحديث كذلك - رحمهم الله -. لها بقية ((يتبع بمقال تالٍ))