من مقالات مولانا الأستاذ الحكيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية
ما وعظك مثل لائم، وما قوَّمك مثل مقاوم الانتقاد نفثة من الروح الإلهي في صدور البشر تظهر في مناطقهم سوقًا للناقص إلى الكمال، وتنبيهًا يزعج الكامل عن موقفه إلى طلب الغاية مما يليق به، الانتقاد قاصف من اللائمة تتنفس عنه القلوب، وتنفتق به الألسنة لتقريع الناقصين في أعمالهم، ودفع طلاب الكمال إلى منتهى ما يمكن لهم جعل الله للحياة قوامًا ... وقوام الحياة بالإدراك إنما الإنسان كون عقلي، سلطان وجوده العقل، فإن صلح السلطان ونفذ حكمه صلح ذلك الكون وتم أمره، إن الله لم يهمل العقل من ناصرين عزيزين حاذقين أحدهما له والثاني له وعليه، أما الأول فما قرن الله به من غريزة الميل للأفضل، والاصطفاء للأمثل، وأما الثاني فما ألزمه الصانع من الانقباض عن الدون، والنفور عن منازل الهون، فذاك يحدوه وهذا يسوقه، وذاك يزين له الطلب، وهذا يزعجه إلى الهرب، وكل منازل العقل صعود إلا أدناها فعجز يقف بأهله على شفير العدم، وكل منزلة بعد الأدنى دنو من الكمال، غير أن ما يسمو إليه العقل، أشبه بما ينبسط إليه الوجود، يمتد إلى غير نهاية، ويرتفع دون الوقوف عند غاية، فليس يصل منتجع الكمال إلى مقام إلا ويرمي بطرفه إلى أبعد منه، ومساقط العجز وبيئة المقام كثيرة الآلام، تستوكرها أفاعي الهموم، وغائلات الغموم، وقد جعلها الله من وراء العقل كلما التفت إليه راعه هول منظرها فتحفز عنها، إلى منجاة منها، ولا يزال يزجيه الخوف وتطير به الرغبة حتى يدنو من رفرف السعادة الأعلى. ولكن كلال البصائر البشرية قد يقف بها عند مظاهر غرارة، وظواهر ختارة فتخالها طلبتها، وتحسبها منيتها، ولا تدري أن بها هلكتها وفيها منيتها، فمثلها مثل الطير ينظر إلى الحب المنثور وَيَغْبَى عن الفخ المنصوب، فإذا سقط للالتقاط وقع في يد الحابل، أو مثل المفترس يلوح له لائح الفريسة ولا يشعر بما أعد له صائده، فإذا وثب عليها أتاه الصائد من مقتله، وأعجله عن مأكله. لهذا وكَّل الله بالعقل منبهًا لا يغفل، وحسيبًا لا يمهل، وكالئًا لا ينام، يزعج الواقف، ويحثحث المتريث، ويمسك الراجف، ما سكن ساكن إلى حال، ولا قنع قانع بمنال، إلا هتف به: إن ما تطلب أمامك. ولا أوغل موغل فيما لا ينفعه، ولا أوضع موضع إلى ما يضره إلا صاح به: تعست الجدود، وأضرعت الخدود، فخفض من سيرك، وقوّم من سيرك وإلا فالذل مقيلك، والهلكة مصيرك. ذلك الواعظ الحكيم والمؤدب العليم هو (الانتقاد) ينبث في الفؤاد، ثم يتجلى في البيان على أسلة اللسان، فيفقهه العالمون، ولا يهمله العاملون {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: ٣٠) أودع في كل ناطق بصرًا بشأن غيره أشد إحاطة من بصره بشأن نفسه، ومكَّن كلاًّ من تمييز أحوال الآخر حسنها من قبيحها، وفسادها من صحيحها، ثم دفعه للنطق بما ألهمه، والقضاء بما أحكمه فكان لكل إنسان أبصار بعدد الناظرين إليه، والعارفين بما عليه عمله، كلها كبصره تريه الخير فيطلبه، وتكشف له الشر فيجتنبه، وجعل الله الناقدين أقسامًا، فمنهم ناظر إلى الفضل لا يعدوه فهو يذكر المنقبة، ويغض عن المثلبة، ومن هذا القسم المفرطون في الوفاء من الأصدقاء، ومنهم رقباء النقائص وجواسيس العيوب يروون المساءات، ويسكتون عن الحسنات. وفيهم الحسَّاد، وأهل الأحقاد، ومنهم ناظرون بالعينين، عارفون بالوجهين، يذكرون للكمال نبله، ويلزمون النقص ويله وهؤلاء في أعلى المنازل، وفيهم الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود الله، ومن الناقدين فاسقون يكتمون ما يعرفون، ويهرفون بما لا يعلمون، وهم في أخس المنازل، وليس في الناس إلا من تجتمع هذه الأقسام له أو عليه، وما جعل الله بشرًا يسلم منها، ويحرم من بعضها، فكأنها التي قال فيها: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} (مريم: ٧١) وكلها صدى صوت الكمال الإلهي الأعلى ينادي الكاملين أن يستزيدوا، والناقصين أن يستجيدوا. هل لجاحد أن يصغِّر قدر هذا الحسيب على أي وجه كان حسابه؟ أو لجاهل أن ينكر حكمة الله في تقييضه لنا؟ أو لواهم أن يذهب إلى أنه ليس من نظام الفطرة؟ وإني أحيلك على خواطر نفسك إذا بلغك وأنت غربي مثلاً أن ملك الصين غدر بأحد أوليائه، أو استصفى أموال رعيته، أو كلفهم ما لا يطيقون احتماله، أو أهمل في مصلحة بلاده، حتى تجرأ عليها أعداؤها، أو جَبُن عن دفع حادث ألمّ به وكان يستطيع دفعه، ألا ترى من قلبك امتعاضًا عليه ومن نفسك إزراءً بعمله، وفي لسانك لهجة بلومه وهو منك على بعد المشرقين؟ ولئن وصلت إليك روايات عدله ورعايته حقوق بلاده، وحفظه لذمامه وجدت إليه من فؤادك ميلاً، ومن رأيك لعمله استحسانًا، ومن لسانك عليه ثناءً. ولو شئت حاكمتك إلى مذاهب ميلك عندما تنظر في تاريخ لمن سبقك؛ فإن مثَّل لك النظر فضلاً في سيرة، أو خزية في جريرة، ألست تجد من ميلك انبساطًا إلى فواضل الغرر، وانقباضًا عن مخازي العرر، ثم انطلاقًا إلى نشر ما وجدت، ثم رأيت عضدًا منك لأحدهما كأنه قائم يستنصر فأنت تنصره، وتغيظًا على الآخر كأنما يدعوك لعونه فأنت تخذله. لا جرم أن النقد نائرة غريزية تقدح شررها على السابقين واللاحقين، وكل نقد فحشوه لوم، حتى ما كان منه قاصرًا عند بث المحمدة والإقرار بالفضيلة؛ فإن حمد الكامل عذل للناقص على التقصير، وإزعاج للمحمود وزجر له عن ملابسة الإعياء، فكأني وصاحب الثناء يقول: ألا أيها القاعدون انهضوا، ويا أيها المبرزون اركضوا، واحذروا الوقفة فإنها بداية القهقرى، تلك أقلام الحق، في ألسنة الخلق، لا يصم عن ندائها إلا أصم، ولا يغبى عن إنذارها إلا أيهم. على ذلك قام النظام الإنساني فلولا الانتقاد ما شب علم عن نشأته، ولا امتد ملك عن منبِته، أترى لو أغفل العلماء نقد الآراء وأهملوا البحث في وجوه المزاعم أكانت تتسع دائرة العلم، وتتجلى الحقائق للفهم، ويعلم المحق من المبطل؟ أو لو أغمض الأعداء والأولياء عن سياسة السائس، وتدبير الحاكم، وهجروا النظر في قوة الملك، ولم يقرعوا كل عمل بمقارع النقد، أكانت تستقيم محجة، وتعتدل حجة وتعظم قوة؟ كلا بل كان يتحكم الغرور، وتتحكم الغفلة، ويعود الصواب خطلاً والنظام خللاً، تلك سنة الله في الأولين، وهي كذلك في الآخرين. فالمغبوط في حاله من يستمع قول اللائمين، ويستطلع خواطر المعترضين، ويتصفح وجوه المنكرين، ذلك روح الحياة فيه يطلب حاجاته، ويتحفظ من آفاته، وليس فيما يملك الحازمون أنفس لديهم، من الإنحاء عليهم، بما ينبههم إذا غفلوا، ويعلمهم إذا جهلوا، ويهديهم إذا ضلوا، وينعشهم إذا زلوا، وكما توجد نفائس الإرشاد هذه عند الأولياء، توجد عند الأعداء، بل هي عند هؤلاء أجود، فإنهم يرفعون للمعايب أعلامًا بينة حتى لا تعود فيها شبهة لناظر، وأحجى بالعقل أن لا يمج من الانتقاد شيئًا حتى أكاذيب أهل الضغينة، ورجوم ذوي السخيمة على مخالفتها للحقيقة؛ فإن أباطيل اللوم تكون للعقل بمنزلة المسالح تقام في الثغور زمن السلم حذرًا مما عساه يطرقها من عدوان المغيرين عليها، وأقل ما يكون من العاقل فيها أن يقول: قيل فينا ولم نعمل فكيف بنا لو عملنا؟ فهي إن لم تهده إلى مطلب ضل عنه، ولم تَرُّد إليه فائتًا كان ينفلت منه، فقد تحفظه من السقوط فيما يجعل الكذب صدقًا والباطل حقًّا، فمن فسق لسانه، وخالف بيانه جنانه، وجاء يغير الحق في ثلب غيره، فقد أفسد نفسه لصلاح عدوه، ولله ما يقول بعض الصوفية: جزى الله الأعداء عنا كل خير فلولاهم ما نزلنا منازل القرب، ولا حللنا حظائر القدس. هذا وقد كفر قوم نعمة الانتقاد فظنوا الله فيه عبثًا - نعوذ بالله - فوقروا عنه آذانهم، وعطَّلوا من ناحيته سمعهم، وجعلوا أصابعهم في صماليخهم [١] ، من صواعق زجره، وقواصف نهيه وأمره، وضربوا بينهم وبين أهل النقد حجبًا، وأقاموا دونهم أستارًا، وخيل لهم الجهل أن صممهم عنه يقيهم منه، وأن قبوعهم في أُهُب الغفلة [٢] يدرأ عنهم سهام اللوائم، كأنهم لا يعلمون أن ذلك وقوع في أشد مما خافوا، واندفاع إلى شر مما رهبوا، فمثلهم كمثل بعض الطيور إذا رأى الصائد غمس رأسه في الماء ظنًّا منه أنه متى أغمض عن طالبه أغمض الطالب عنه، فيكون بذلك قد يسر للصائد صيده، وسهل عليه كيده. ومن ثم تجدهم في عمى عن شؤونهم، وتخبط في أعمالهم قد لزموا خطة من الهون لو أبصر عقلهم بعض أطرافها لماتوا جزعًا من هول ما فيها، كل ذلك وأسلات الألسن وأسنة الأقلام لا تألو في تقريعهم، بل وصوت الحق الصريح يناديهم من عمائق ضمائرهم، بئس ما اشتريتم لأنفسكم لو كنتم تعلمون. وليُّهم عاتب، وعدوهم عائب، وهم في غفلة من هذا، بل لا يشعرون. أولئك الذين ختم الله على سمعهم، وطبع على قلوبهم فمرقوا من ناموس الفطرة الإلهية فهم أموات الأرواح، مضطربو الأشباح، ولا تنشق عنهم قبور الخمول حتى ينشرهم الله في حياة أخرى يخضعون فيها للأحكام الكونية، ويعملون على السنن الإلهية، فلينتظروا إنا معهم من المنتظرين.