للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من القاهرة عن الربامن ٣٢ - ٣٥

فضيلة الأستاذ العلامة صاحب مجلة المنار الغراء
السلام عليكم. وبعد، فأرجو من فضيلتكم أن تكشفوا النقاب عن هذه الأسئلة
الآتية: ولكم مني مزيد الشكر سلفًا.
(١) هل ربا الفضل جائز مطلقًا؛ فإن كان بعضه جائزًا وبعضه غير
جائز، فتفضلوا بشرح مستوف بفرق الجائز من غير الجائز؟
(٢) ما قولكم في حديث أبي أسامة من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(لا ربا إلا في النسيئة) أيعتبر منسوخًا بحديث أبي سعيد الخدري الذي روى أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل،
ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا
بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز) أم كيف يمكن الجمع بين
الحديثين؟
(٣) في صحيح البخاري أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب
بالذهب ربا إلا هاء هاء، والبُّر بالبُّر ربا إلا هاء هاء، والشعير بالورق ربا إلا هاء
هاء، والثمر بالتمر ربا إلا هاء هاء) . من هذا الحديث يتبين لدينا أربع صور،
ونشاهد في ثلاث منها التجانس في البدلين وفي الرابع اختلاف فيهما؛ لأن الشعير
غير الورق فما حكم بيع الشعير بالورق المقصود من هذا الحديث؟ وما العلة في
اختلاف هذه الصورة عن الصور الأخرى؟
(٤) جاء في حاشية ابن عابدين (ج٤ ص ٢٤٣ هامش مطبعة بولاق)
تحت مطلب (كل قرض جَرَّ نفعًا حرام) هذه العبارة بحروفها، وفي
معروضات المفتي أبي السعود لو ادَّان زيد العشرة باثني عشر بطريق المعاملة في
زماننا بأزيد من عشرة ونصف، ونبه على ذلك ... إلخ.
من هو هذا السلطان الذي أصدر الأمر المذكور؟ وفي أي زمن كان؟ وما
دواعي إصداره له وأَنَّى نجد صورة الأمر؟
ثم من هو شيخ الإسلام المشار إليه، وهل يمكنكم أن تفيدونا - أثابكم الله -
بنص فتواه، عسانا نقف على الأسباب التي بنى عليها الفتوى؟
... ... ... ... وتفضلوا في الختام بقبول فائق احتراماتي أفندم
... ... ... ... ... طالب بمدرسة الحقوق الخديوية
(المنار)
أما الجواب عن الأول، فقد نقل المحدثون أن السلف - رضي الله عنهم -
قد اختلفوا في ربا الفضل، فأجازه ابن عمر وابن عباس وأسامة بن زيد وابن الزبير
وزيد بن أرقم وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير مطلقًا، ونقلوا عن ابن عمر أنه
رجع عن ذلك، واختلفوا في رجوع ابن عباس، وحجتهم حديث أسامة المذكور في
السؤال وهو في الصحيحين، والجمهور على خلافهم وحجتهم حديث أبي سعيد الذي
تقدم في السؤال أيضًا وهو في الصحيحين، وإنما جعل مدار الخلاف في ربا الفضل
على الأحاديث؛ لأن الربا المحرم في القرآن هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية
وهو أن يزيدوا في المال كل شهر كما قال ابن حجر في الزواجر؛ لأجل الإنساء
أي: التأخير في الأجل حتى يتضاعف أضعافًا كثيرة.
وفي حديث جابر عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - اشترى عبدًا بعبدين. وفي حديث عبد الله بن عمر عند أحمد وأبي
داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (ابتع علينا إبلاً بقلائص من
إبل الصدقة إلى محلها) ، قال: فكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل
الصدقة إلى محلها.
ثم ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أداها من إبل الصدقة عندما جاءت.
وهناك روايات أخرى في موطأ مالك ومسند الشافعي، وعند البخاري تعليقًا في
شراء الحيوان بالحيوان مع التفاضل، بل والنسيئة، وهذا مما يقول الجمهور
بجوازه على أنهم رووا النهي عنه من حديث سمرة وحديث جابر بن سمرة. فهذا
نوع من ربا الفضل، قد أجازه الجمهور.
وأما الجواب عن الثاني وهو تعارض حديث أسامة (لا أبي أسامة كما ورد
في السؤال) ، وهو (لا ربا إلا في النسيئة) واللفظ للبخاري، ولفظ مسلم: (إنما
الربا في النسيئة) ، وحديث أبي سعيد: (لا تبيعوا الذهب) ... إلخ كما ذكر في
السؤال، فقد قال الحافظ في فتح الباري: واتفق العلماء على صحة حديث أسامة
واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد، فقيل: إن حديث أسامة منسوخ.
لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال وقيل: المعنى في قوله: (لا ربا) الربا الأغلظ الشديد
التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد
مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضًا نفي
تحريم ربا الفضل من حديث أسامة، إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛
لأن دلالته بالمنطوق، ويُحمل حديث أسامة على الربا الأكبر. اهـ.
والقول بالنسخ أضعف الأقوال، والقول بترجيح المنطوق على المفهوم كما
ترى غريب في هذا المقام، وإذا قلت: إن المنفي في صيغ الحصر منفي بالمنطوق،
كنت أقرب إلى الصواب، وإلا لما كان نفي الألوهية عن غير الله في كلمة التوحيد
إلا من قبيل المفهوم الذي تعرف ما قال فيه أهل الأصول، فبقي القول بأن حصر
الربا في النسيئة هو الربا الحقيقي الذي ورد فيه الوعيد الشديد في القرآن،
وهذا هو الجمع الذي جرى عليه المحققون، كابن القيم وقال: إن ربا الفضل لم
يُحرَّم لذاته، وإنما حرم لسد الذريعة.
وعلى هذا يكون الربا الذي ورد عليه الوعيد في القرآن خاصًّا بربا النسيئة
المعهود في الجاهلية، ولا يدخل فيه ربا الفضل خلافًا لبعض الفقهاء، ولو تناوله
القرآن بالنص، لما اختلف فيه أكابر علماء الصحابة لا سيما ابن عباس وابن عمر
(رضي الله عنهم) ، فعلى هذا لا يكون ربا الفضل منافيًا للإسلام.
وأما الجواب عن السؤال الثالث؛ فهو أن ما نقله السائل غلط وقع في بعض
نسخ البخاري المطبوعة، ومنها النسخة التي على هامش فتح الباري، والصواب
(والشعير بالشعير) وحديث (هاء وهاء) هذا هو حديث عمر، وليس فيه ذكر
الورق إلا في رواية أبي ذر وأبي الوقت من رواة البخاري، فإنهما قالا: (الذهب
بالورق) بدل (الذهب بالذهب) ، واتفق جميع رواة الصحيحين على (والشعير
بالشعير) ، وبه احتج الشافعي وأبو حنيفة وفقهاء المحدثين على أن الشعير صنف
غير البر خلافًا لمالك والليث، وغيرهما ممن قال: إنهما صنف واحد.
وأما الجواب عن الرابع فهو أنَّ السلطان الذي أصدر ذلك الأمر: إما
السلطان سليمان القانوني ولعله الأرجح، وإما ولده السلطان سليم، فإن أبا السعود
كان في عصرهما وقد توفي في جمادى الأولى سنة ٩٨٢.
والسلطان سليم قد توفي في رمضان من تلك السنة، وقد ولاه سليمان الإفتاء
سنة ٩٤٥ وهو هو شيخ الإسلام. أما صورة الفتوى فلم نقف عليها، والظاهر أن
سببها وسبب الأمر السلطاني الذي بني عليها منع الربا المضاعف، والاطلاع عليها لا
يفيدنا فائدة فقهية، وإنما فائدته تاريخية محضة، فإننا نعلم أنها مبنية على استباحة
المعاملة، ولذلك علل ابن عابدين عبارة الدر التي ذكرتموها؛ بأن السلطان إذا أمر
بمباح وجبت طاعته، (والمعاملة) ، ولا إخالكم تجهلونها؛ هي بيع القليل بالكثير
احتيالاً على الربا كأن يقرضه تسع مائة، ويبيع منديلاً ثمنه عشرة قروش بمائة
قرش مثلا، وقد أجاز الحيلة الحنفية والشافعية، واستدلوا عليها بإذن النبي - صلى
الله عليه وسلم - ببيع الصاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الجيد بالحيلة؛
وهي أن يباع كل من الصاع والصاعين بالثمن، وذلك خروج من نص (والتمر
بالتمر ربا إلا هاء وهاء) في الحقيقة دون الصورة، والمانعون للحيلة كالمالكية
والحنابلة لا يجدون للحديث مخرجًا إلا القاعدة التي ذكرها ابن القيم، وهي أن ما
حُرِّم لسد الذريعة كربا الفضل جاز للمصلحة، وأنت تعلم أنه لا معنى لاشتراط كون
بيع النقد أو القوت بجنسه يدًا بيد مثلا بمثل لذاته؛ لأن عاقلاً لا يفعل ذلك إذ ليس فيه
فائدة، وإنما يقصد الناس بالبيع الزيادة بالقدر أو الوصف ولا شيء من ذلك بمحرم
لذاته؛ لأنه هو أصل المنافع والمقصد من التجارة، فلم يبق لذلك الشرط معنى إلا سد
ذريعة التوسل إلى ربا النسيئة الذي كانوا يأكلونه أضعافًا، فلما أَخبَر عامل خيبر النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنهم يأخذون الصاع من التمر الجنيب، وهو الطيب أو
الصلب، وقيل: ما أخرج حشفه بصاعين من الجمع، وهو ما خلط بغيره، أو الدقل
وهو نوع رديء، قال: (لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا) رواه
البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. فأباح ذلك عند العلم بالحاجة إليه،
وأمر بأن يكون البيع بالدراهم؛ لأنه هو الأصل في التجارة، وليبقى بعيدًا عن
ذريعة الربا.
ومن الحنفية من صرح بأن الحيلة في الربا لا تجوز إلا لحاجة، كتثمير مال
اليتيم أو الأرملة، أو طالب العلم المنقطع عن الكسب، وعنده مال إذا أنفقه نفد
واضطر هو إلى ترك العلم، فلم يجزه هؤلاء إلا للحاجة أو الضرورة ولا يجيزون
أن يكون مضاعفًا، فقد راعى هؤلاء النص القطعي في تحريم الربا المضاعف الذي
لا هوادة فيه، وراعوا المصلحة أو الضرورة وقدروها بقدرها في ربا الفضل،
وأخرجوها بما يسمونه المعاملة أو المرابحة عن صورة المنهي عنه في الأحاديث،
حتى لا تخرج عن حكمة الشارع في معناها ولا في صورتها، فإن كل حيلة أبطلت
حكمة الشارع ومقصده فهي باطلة، لا تزيد صاحبها إلا مقتًا وضلالاً.
واعلم أن الزيادة الأولى في الدَّين المؤجل من ربا الفضل، وإن كانت لأجل
التأخير، وإنما ربا النسيئة المعهود هو ما يكون بعد حلول الأجل لأجل الإنساء أي:
التأخير، وإذا تكرر ذلك كان الربا المضاعف، كما كانوا يفعلون في الجاهلية.
والذين يقولون بالمعاملة أو المرابحة، يجددون العقد عند نهاية الأجل إذا لم يدفع؛
لكيلا يزيدوا المال لمحض الإنساء صورة ومعنى. ولكن هذا إذا أدى إلى مضاعفة
المال على المدين، كان مخالفًا لحكمة الشاعر، ولا يستحله ذو دين.