نحن في زمن فاز فيه المتعاونون، وهلك فيه المتخاذلون، سعد فيه أمم بأعمال الجماعات، وشقيت أمم بأسرة الأفراد، فالأمم فيه درجات بعضها فوق بعض فأعلاها ما كثرت فيه الجمعيات، المتعاونة على الخير بقدر كثرة الخيرات، ويليها ما قلت فيه الجمعيات فقاتها من الخيرات والمنافع ما فضلها به ما فوقها، ويعبر عن هذه الأمم بالأمم الحية العزيزة، والحياة والعزة فيها متفاوتة - أو مقولة بالتشكيك كما يقول المنطقيون - فلذلك يخاف ويرجو بعضها بعضًا، وأية أمة عاقلة تأمن سنة الله في تنازع البقاء، وطمع الأقوياء في الضعفاء. وأما الأمم الذليلة التي تقابل هذه الأمم فهي في دركات متفاوتة أيضًا أدناها منها في القسمة العقلية ما ليس فيها جماعات تتعاون على الخير ولا على الشر، ولا يخذل بعض أفرادها بعضًا في الأعمال النافعة، يليها في السفل الأمة التي يتخاذل أفرادها في الخير فلا ينبري فيها أحد لعمل نافع لها إلا ويتصدى بعض الأفراد لمناهضته وخذله، وأما الأمة التي تعد في الدرك الأسفل فهي التي تتألف فيها الجماعات لتأييد الباطل وعمل المنكر، ولخذلان الحق ومقاومة المعروف. لا يخذل فرد من الأفراد، ولا جماعة من الجماعات، عملاً من أعمال الخيرلأمته مع الاعتراف بأنه خير، وإنما يخذلونه ادعاء أنه شر ما أو يشتمل على الشر أو يترتب عليه شيء من الشر. ومنهم من يعتقد صحة ما يدعي لجهله كنه العمل، أو لأن بغضه أو حسده للعامل يقلب صورة العمل في مخيلته ويلونه بغير لونه، فهو ينظر إلى ما في خياله ويحسب أنه عين ما في الخارج، ومنهم من يضل على علم ويتعمد الفرية والبهتان، إرضاء لحسده أو حسد من يغريه بالمقاومة والخذلان، أو اعتذارًا عن الامتناع عن المساعدة التي تنتظر من مثله، وهو يبخل بها ولا يعترف ببخله. الحسود الذي يبغي بحسده، والشحيح الذي يطيع شحه، وصاحب الهوى الذي يتبع هواه بالباطل لا مطمع في اتقاء شرهم إلا بإصلاح نفوسهم أو مقابلتهم بقوة لا قبل لهم بها فإن كان الأول متعذرًا على العامل فالثاني مما يتيسر له، إلا إذا فقدت الأمة استعداد الخير وكانت في حكم سنن الله في عدد الهلكى، وأما من يخذل العمل النافع لاعتقاده أنه ضار؛ فعلاجه سهل وطبه حاضر إذا كان مخلصًا تقيًّا سواء كان سبب اعتقاده الجهل المطلق، أوالسخط الذي أراه العمل بغير صورته الحقيقية، ولكن قد يعسر التمييز بينه وبين سيء النية، أو تجهل الطريق لإيصال العلاج إليه. ليس بيني وبين معالجة المخلص الحسن النية إلا أن يصل صوتي إلى أذنه أو يلقى كتابي بين عينيه، فيقرأ أو يسمع الحجة التي أدلي بها إليه، وكأني به وقد زال عنه الغشاء، وانكشف له الغطاء، فاستبق باب المتاب، واستغفر ربه وأناب. أقول له: الخلاف بين البشر سنة غريزية فيهم لا مطمح في تبديلها فإذا جعلنا الخلاف في الرأي والفهم سببًا للتنازع والتخاذل، نكون سجلنا على أنفسنا الفشل الدائم والهلاك البطيء أو العاجل، ولا يختلف الناس في شيء كاختلافهم في الأمور الاجتماعية وما به تترقى الأمم أو تتدلى؛ لأن كل واحد يدعي العلم بذلك وإن كان يقل في الناس ذو العلم الصحيح التفصيلي بمسائل الاجتماع البشري وإصلاح أحوال الأمم يقل ذلك في الشعوب التي استبحر فيها العمران وارتقت علومه، ويكون أندر من الكبريت الأحمر في سائر الشعوب، فإن وجد فيها كان مجهول القدر، غير متمكن من كل ما يقدر عليه من النفع، بل ربما كان علمه سبب بلائه ومحنته، واضطره إلى الهجرة من وطنه، وكأين من نبي كريم، وعليم حكيم، وصوفي كبير، وسياسي خبير، كفاه قومه على ما تصدى له من إصلاحهم بإهراق الدم، أو النفي من الأرض، أو الضرب أو السب ثم ظهر في حياته أو بعد مماته أنه كان هو المصيب وكل من ناوأه من المخطئين الخاطئين. إذا تذكر المخالف هذا ووعاه انتقل إلى البحث في ضعفنا، وحاجتنا إلى دفع الخطر عن أنفسنا، وكون ذلك لا يتم لنا إلا بالتعاون والتناصر، مع ترك التخاذل والتدابر، فإن لم نفعل ذلك كان ما بقي لنا من القوة الممسكة ممزقًا، وكنا نحن الممزقين. فإذا هو فقه هذا وتدبره؛ أقول له: إننا أقوام نجتمع في أمور وتتفرق في أمور فإذا نظر كل منا إلى ما يخالفه فيه غيره دون ما يوافقه فيه وجعل ما به الخلاف قاضيًا على ما به الوفاق تمزقت قوانا، وإذا نظر كل منا إلى ما به الوفاق فعززه وقواه تتحد قوانا ويستفيد كل منا ويفيد. المختلفون منا في المذاهب متفقون في أصل الدين، فلماذا يضع أهل كل مذهب مسائل الخلاف بينهم وبين أهل المذهب الآخر نصب أعينهم فيجعلونها سببًا لإضعاف كل منهم للآخر ولا يجعلون ما به الوفاق من أصل الدين سببًا لتقوية كل منهم للآخر وذلك لا يمنع كلاًّ منهم أن يتفق مع من يوافقه في المذهب على أعمال أخرى تنفعهم ولا تضر غيرهم. لماذا يختصم السني والشيعي في بخارى مثلاً؟ ولا نفع لأحد منهما في اختصامهما وإنما الخسار عليهما معًا، والربح كله للروسية السالبة لاستقلالهما والمستعبدة لهما معًا. ولماذا يتقاتل الزيدي وغير الزيدي في اليمن؟ وهو مما يضعف كلاًّ منهما، ولماذا لا يتحدون فيما هم متفقون فيه كأصل الدين والوطن فيقوى كل منهما بقوة الآخر ويبقى حرًّا في مذهبه لا يجادله أحد فيه إلا بالتي هي أحسن، فلا يعامل المسلم أخيه المسلم الذي يوافقه في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر بشر مما أمره الله تعالى أن يعامل به أهل الكتاب الذين يخالفونه في الإيمان بخاتم النبيين والمرسلين، وما أنزل عليه من الكتاب المبين، فإن استكبر مخالفته إياه في فهم بعض النصوص حتى فهم كلمة التوحيد فليعلم أن آفة المخطئ الجهل وإنما يعالج مرض الجهل بالعلم والحلم دون العدوان والبغي. والمختلفون منا في الدين متفقون في أمور أخرى يقوى كل منهما بالارتباط مع الآخر بها، كالوطن واللغة والجنسية السياسية، فلا ينبغي أن يشتغل كل من المسلم والنصراني بمقاومة الآخر بما به الخلاف، بل على كل منهما أن يشتغل بالتعاون مع الآخر بما به الوفاق، فينهضان معًا بعمارة البلاد وتنمية الثروة وكل ما يتم به تعزيز الدولة، وهناء المعيشة. والمختلفون منا على اللغات متفقون على واحدة أو أكثر من الجامعات العظيمة التي أشرنا إليها كالدين واللغة والوطن والجنسية، فليعمل كل قوم في هذه الدولة مع كل من يشاركهم في جامعة ما لتقوية تلك الجامعة ناظرين دائمًا إلى جهة الوفاق، متسامحين فيما لا عدوان فيه من جهة الخلاف، ومن يعب منهم أخاه أو يخذله فيما يخالفه فيه من غير عدوان ولا بغي من ذلك المخالف فذلك إما غِرٌّ مفتون، وإما أحد الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. إذا كان من المصلحة العامة أن يكون الأقوام والجماعات أحرارًا فيما يخدمون به الجامعة الخاصة والجامعة العامة فمن المصلح أيضًا أن يكون الأفراد أحررًا فيما يخدمون به اللغة والوطن والدين والدولة ومن يكيد لأحد منهم ليحبط عمله، فهو من المفسدين كالذين يكيدون لمدرس؛ لكيلا ينتفع بدرسه، أو مؤلف ليصرفوا الناس عن تأليفه، أو لصاحب صحيفة ينشرها أو خطبة يخطبها، أو مدرسة يؤسسها؛ فينبذونهم بالألقاب، ويصدون عنهم الناس. سيقول المحرفون: إن في هذا القول منعًا لحرية الانتقاد، وإبطالاً لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كلا، ثم كلا، ليس هذا من المنع لما ذكر وإنما هو عين الانتقاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا فليكن الانتقاد والأمر والنهي، بيان لبطلان الباطل ولحقية الحق من غير تهييج للعصبية، ولا إغراء بالإصرار على الخطية، ألا وليحاسب أنفسهم المغرورون الذين يدعون القيام بهذه الفريضة، ثم يخذلون العاملين بالسعاية والغيبة، ولا يوجهون إليهم الانتقاد فيما بينهم وبينهم، ويا عجبا لماذا يسكتون عن كثير من المنكرات المجمع عليها، ويعنون بتحمل الإنكار في المسائل المجتهد فيها!! ألا إن الحاسد المكابر لا علاج له، يبدأ به حسده فيقتله، ألا وإن فيما قلناه مقنعًا للمخلصين، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.