ولماذا تقدم غيرهم؟! (١) (بسم الله الرحمن الرحيم) {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الأنفال: ٥٣) ، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: ٥١) ، {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: ١٥) . كتب إليَّ تلميذي المرشد الشيخ محمد بسيوني عمران إمام مهراجا جزيرة سمبس برنيو كتابًا يقترح فيه على أخينا المجاهد أمير البيان أن يكتب للمنار مقالاً بقلمه السَّيَّال في أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر وأسباب قوة الإفرنج واليابان وعزتهم بالملك والسيادة والقوة والثروة. وقال - في كتاب آخر - إنه قرأ ما كتبناه في المنار وتفسيره من بيان الأسباب في الأمرين وما كتبه الأستاذ الإمام في مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) في الموضوع، وإنما غرضه أن يكتب في ذلك أمير البيان بقلمه المؤثر المعبر عن معارفه الواسعة، وآرائه الناضجة لتجديد التأثير في أنفس المسلمين بما يناسب حالهم الآن، لتنبيه غافلهم، وتعليم جاهلهم، وكبت خاملهم، وتنشيط عاملهم. وبنى الاقتراح على الأسئلة الآتية التي صارت مثار شبهة على الدين عند غير علمائه، فهو يعلم مما سمعه من دروسنا في مدرسة الدعوة والإرشاد ومما كتبناه مرارًا في أن كتاب الله تعالى حجة على أدعياء الإسلام والإيمان، وليسوا هم حجة عليه. افترصْت هذا الاقتراح لحمل أخي ووليي الأمير شكيب على كتابة شيء مثل هذا للمنار، وأنا الذي أنصح له دائمًا بتخفيف أحمال الكتابة عن عاتقه لكثرة ما يكتب لصحف الشرق والغرب وللأصدقاء وغيرهم، فأرسلت إليه كتاب الشيخ محمد بسيوني عقب وصوله إليّ، فأرجأ الجواب عنه لكثرة الشواغل إلى أن عاد من رحلته الأخيرة إلى أسبانية وقد أثرت في نفسه مشاهد حضارة قومنا العرب في الأندلس والمغرب الأقصى، وشاهد تأثير محاولة فرنسة تنصير شعب البربر في المغرب تمهيدًا لتنصير عرب إفريقية المرزوئين باستعبادها لهم كما فعلت أسبانية في سلفهم في الأندلس - فكتب الجواب منفعلاً بهذه المؤثرات، فكان آية من آيات بلاغته، وحجة من حجج حكمته، لعلها أنفع ما تفجر من ينبوع غيرته، وانبجس من معين خبرته، فسال من أنبوب براعته، جزاه الله خير ما جزى المجاهدين الصادقين. *** كتاب الشيخ محمد بسيوني عمران حضرة مولاي الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار نفعني الله والمسلمين بوجوده العزيز. آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن مَن قرأ ما كتبه في المنار وفي الجرائد العربية العلامة السياسي الكبير أمير البيان، الأمير شكيب أرسلان، من مقالاته الرنانة المختلفة المواضيع، عرف أنه من أكبر كُتاب المسلمين المدافعين عن الإسلام، وأنه أقوى ضلع للمنار وصاحبه في خدمة الإسلام والمسلمين، وإني أرجو من الله تعالى أن يطيل بقاءهما الشريف في خير وعافية، كما أرجو من مولاي الأستاذ صاحب المنار أن يطلب من هذا الأمير الكاتب الكبير أن يتفضل عليَّ بالجواب على أسئلتي الآتية وهي: (١) ما أسباب ما صار إليه المسلمون (ولا سيما نحن مسلمو جاوة وملايو) من الضعف والانحطاط في الأمور الدنيوية والدينية معًا، وصرنا أذلاء لا حول لنا ولا قوة، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: ٨) فأين عزة المؤمنين الآن؟ وهل يصح لمؤمن أن يدعي أنه عزيز وإن كان ذليلاً مهانًا ليس عنده شيء من أسباب العزة إلا لأن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: ٨) . (٢) مالأسباب التي ارتقى بها الأوربيون والأمريكانيون واليابانيون ارتقاءً هائلاً؟ وهل يمكن أن يصير المسلمون أمثالهم في هذا الارتقاء إذا اتبعوهم في أسبابه مع المحافظة على دينهم (الإسلام) أم لا؟ هذا، والمرجو من فضل الأمير أن يبسط الجواب في المنار عن هذه الأسئلة وله وللأستاذ صاحب المنار - من الله - الأجر الجزيل. ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران ... ... ... سنبس - برنيو الغربية في ٢١ ربيع الآخر سنة ١٣٤٨ *** جواب الأمير شكيب أرسلان إن الانحطاط والضعف اللذيْن عليهما المسلمون شيء عام لهم في المشارق والمغارب لم ينحصر في جاوة وملايو، ولا في مكان آخر، وإنما هو متفاوت في دركاته، فمنه ما هو شديد العمق، ومنه ما هو قريب الغور، ومنه ما هو عظيم الخطر، ومنه ما هو أقل خطرًا. وبالإجمال حالة المسلمين الحاضرة - ولا سيما في القرن الرابع عشر للهجرة أو العشرين للمسيح - لا تُرضي أشد الناس تحمسًا بالإسلام وفرحًا بحزبه، فضلاً عن غير الأحمسي من أهله. إن حالتهم الحاضرة لا ترضي لا من جهة الدين ولا من جهة الدنيا، ولا من جهة المادة ولا من المعنى. وإنك لتجد المسلمين في البلاد التي يساكنهم فيها غيرهم متأخرين عن هؤلاء الأغيار لا يسامتونهم في شيء إلا ما ندر، ولم أعلم من المسلمين ممن ساكنهم أمم أخرى في هذا العصر ولم يكونوا متأخرين عنهم إلا بعض أقوام منهم، وذلك كمسلمي بوسنة مثلاً فإنهم ليسوا في سوي مادي ولا معنوي أدنى من سوي النصارى الكاثوليكيين، أو النصارى الأرثوذكسيين الذين يحيطون بهم، بل هم أعلى مستوى من الفريقين، وككثير من مسلمي الروسية الذين ليس المسيحيون الذين يجاورونهم أرقى منهم. ولقد كان المسلمون في أذربيجان قبل الحرب أرقى من الطوائف المسيحية التي تساكنهم، ولا خلاف في أن مسلمي الصين إجمالاً على تأخرهم هم أرقى من الصينيين البوذيين، هذا إذا كانت النسبة بين الفريقين باقية كما كانت قبل الحرب العامة، وفيما عدا هذه الأماكن نجد تأخر المسلمين عن مسامتة جيرانهم عامًّا مع تفاوت في دركات التأخر. ويقال: إن العرب في جزيرة سنغافورة هم أعظم ثروة من جميع الأجناس التي تساكنهم حتى من الإنكليز أنفسهم بالنسبة إلى العدد، ولا أعلم مبلغ هذا الخبر من الصحة، ولكنه على فرض صحته ليس بشيء، يقدم أو يؤخر في ميزانية المسلمين العامة. ولا إنكار أن في العالم الإسلامي حركة شديدة، ومخاضًا عظيمًا شاملاً للأمور المادية والمعنوية، ويقظة جديرة بالإعجاب، قد انتبه لها الأوربيون وقدروها قدرها، ومنهم مَنْ هو متوجس خيفة مغبتها، لا يُخفي هذا الخوف من تضاعيف كتاباتهم، إلا أن هذه الحركة إلى الأمام لم تصل بالمسلمين حتى اليوم إلى درجة يساوون بها أمة من الأمم الأوربية أو الأميركية أو اليابان. فبعد أن تقرر هذا وجب أن نبحث في الأسباب التي أوجدت هذا التقهقر في العالم الإسلامي بعد أن كان منذ ألف سنة هو الصدر المقدم، وهو السيد المرهوب المطاع بين الأمم شرقًا وغربًا، فقبل أن نبحث في أسباب الانحطاط يجب أن نبحث في أسباب الارتقاء فنقول: أسباب ارتقاء المسلمين الماضي إن أسباب الارتقاء كانت عائدة في مجملها إلى الديانة الإسلامية التي كانت ظهرت جديدًا في الجزيرة العربية فدان بها قبائل العرب، وتحولوا بهدايتها من الفرقة إلى الوحدة، ومن الجاهلية إلى المدنية، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الأحد، وتبدلوا بأرواحهم الأولى أرواحًا جديدة، صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة، ومجد وعرفان وثروة، وفتحوا نصف كرة الأرض في نصف قرن، ولولا الخلاف الذي عاد فدب بينهم منذ أواخر خلافة عثمان وفي خلافة علي (رضي الله عنه) لكانوا أكملوا فتح العالم ولم يقف في وجههم واقف. على أن تلك الفتوحات التي فتحوها في نصف قرن أو ثلثي قرن برغم الحروب التي تسببت بها مشاقّة معاوية لعلي والحروب التي وقعت بين بني أمية وابن الزبير - قد أدهشت عقول العقلاء والمؤرخين والمفكرين، وحيرت الفاتحين الكبار، وأذهلت نابليون بونابرت أعظمهم، وله تصريح في ذلك. فالقرآن أنشأ إذًا العرب نشأة مستأنفة وأخرجهم من جزيرتهم والسيف في إحدى اليدين والكتاب في الأخرى يفتحون ويسودون ويتمكنون في الأرض. ولا عبرة بما يقال في شأن العرب قبل الإسلام، وما يُروَى من فتوحات لهم، وما ينوه به من أخلاق عظام في الجاهلية، فهذه قد كانت ولا تزال آثارها ظاهرة، ولا يكفي مدنية العرب القديمة وأنها من أقدم مدنيات العالم، ومما يرجح أن الكتابة قد بدأت عندهم، ولكن دائرة تلك المدنية كانت محدودة مقصورة على الجزيرة وما جاورها. وقد أتى على العرب حين الدهر سادهم الغرباء في أرضهم، وأذلهم الأجانب في عقر دارهم، كالفرس في اليمن وعُمَان وفي الحيرة، وكالحبشة في اليمن، وكالروم في أطراف الحجاز ومشارف الشام. والحقيقة أنهم لم يستقلوا استقلالاً حقيقيًّا إلا بالإسلام، ولم تعرفهم الأمم البعيدة وتخنع لهم وتتحدث بصولتهم، ولم يقعدوا من التاريخ المقعد الذي أحلهم في الصف الأول من الأمم الفاتحة إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم. فالسبب الذي به نهضوا وفتحوا، وسادوا وشادوا، وبلغوا هذه المبالغ كلها من المجد والرقي يجب علينا أن نبحث عنه وننشده، ونُحفي المسألة ونمعن في النشدان: هل هو باقٍ في العرب وهم قد تأخروا برغم وجوده وتأخر معهم تلاميذهم الذين هم سائر المسلمين؟ أم قد ارتفع هذا السبب من بينهم، ولم يبق من الإيمان إلا اسمه، ومن الإسلام إلا رسمه، ومع القرآن إلا الترنم به من دون العمل بأوامره ونواهيه، إلى غير ذلك مما كان في صدر الملة؟ فقد المسلمين السبب الذي سار به سلفهم إذا فحصنا عن ذلك وجدنا أن السبب الذي به استقام هذا الأمر قد أصبح مفقودًا بلا نزاع وإن كان بقي منه شيء فكباقي الوشم في ظاهر اليد. فلو كان الله تعالى وعد المؤمنين بالعزة بمجرد الاسم دون الفعل لكان يحق لنا أن نقول: أين عزة المؤمنين؟ من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: ٨) ولو كان الله قد قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: ٤٧) بمعنى أنه ينصرهم بدون أدنى مزيّة فيهم سوى أنهم يعلنون كونهم مسلمين، لكان ثمة محل للتعجب من هذا الخذلان بعد ذلك الوعد الصريح بالنصر. ولكن النصوص التي في القرآن هي غير هذا، فالله غير مخلف وعده والقرآن لم يتغير، وإنما المسلمون هم الذين تغيروا، والله تعالى أنذر بهذا فقال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) فلما كان المسلمون قد غيروا ما بأنفسهم - كان من العجب أن لا يغير الله ما بهم، وأن لا يبدلهم الذل والضِّعة من ذلك العز وتلك الرفعة، بل كان ذلك منافيًا للعدل الإلهي. والله عز وجل هو العدل المحض. كيف ترى في أمة ينصرها الله بدون عمل ويفيض عليها الخيرات التي كان يفيضها على آبائها، وهي قد قعدت عن جميع العزائم التي قد كان يقوم بها آباؤها؟ ! وذلك يكون مخالفًا للحكمة الإلهية، والله هو العزيز الحكيم. ما قولك في عزة بدون استحقاق، وفي غلة بدون حرث ولا زرع، وفي فوز بدون سعي ولا كسب، وفي تأييد بدون أدنى سبب يوجب التأييد؟ لا جرم أن هذا مما يغري الناس بالكسل، ويحُول بينهم وبين العمل، بل مما يخالف النواميس التي أقام الله الكون عليها، ومما يستوي به الحق والباطل، والضار والنافع، وحاشا لله أن يفعل ذلك. ولو أيد الله مخلوقًا بدون عمل لأيَّد من دون عمل محمدًا رسوله ولم يُحوجه إلى القتال والنزال والنضال، واتباع سنن الكون الطبيعية للوصول إلى الغاية. وتصوَّرْ أمة لله عندها مائة وهي تؤدي من المائة خمسة فقط أتعد نفسها قد أدت ما عليها وتطمع في أن يكافئها الله كما كان يكافئ أجدادها الذين كانوا يؤدون المائة مائة، وإن قصروا عن المائة أدوا بالأقل تسعين أو ثمانين؟ كلا. هذا مخالف لما وعد الله على رسله ومخالف للعقل والمنطق، وليس هذا هو الشرط الذي شرطه الله على المؤمنين، وليس هذا هو البيع الذي يستبشر به المؤمنون. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} (التوبة: ١١١) فأين حالة المسلمين اليوم من هذا الوصف الذي في كتاب الله؟ وأين حالتهم من سلفهم الذين كانوا يتهافتون على الموت لإحراز الشهادة وكثيرًا ما كانوا ينشدون الموت ولا يجدونه؟ وكان فارسهم يكر وهو يقول: إني لأشم ريح الجنة، ثم لا يزال يكر ويخوض غمرات الحرب حتى إذا استشهد قال: هذا يوم الفرح، وإذا فاتته الشهادة برغم حرصه عليها عاد إلى قومه حزينًا. المقابلة بين حالي المسلمين والإفرنج اليوم اليوم فقد المسلمون أو أكثرهم هذه الحماسة التي كانت عند آبائهم، وقد تخلق بها أعداء الإسلام الذين لم يوصهم كتابهم بها، فتجد أجنادهم تتوارد على حياض المنايا سباقًا، وتتلقى الأسنة والحراب عناقًا، ولقد كان مبلغ مفاداتهم بالنفائس وتضحيتهم للنفوس في الحرب العامة فوق تصور عقول البشر، كما يعلم ذلك كل أحد، فالألمان فقدوا نحو مليوني قتيل، والفرنسيون فقدوا مليونًا وأربعمائة ألف قتيل، والإنكليز فقدوا ستمائة ألف قتيل، والطليان فقدوا أربعمائة وستين ألف قتيل، والروس هلك منهم ما يفوق الإحصاء، وهلم جرًّا. هذا من جهة النفوس، وإنكلترا بذلت نحو مليارين، وألمانية أنفقت ثلاثة، وإيطالية أنفقت خمسمائة مليون والروسية أنفقت ما أوقع فيها المجاعة التي آلت إلى الثورة ثم إلى البلشفة وهلم جرًّا. فليقل لي قائل: أية أمة مسلمة اليوم تقدم على ما أقدم عليه هؤلاء النصارى من بيع النفوس وإنفاق الأموال بدون حساب في سبيل أوطانهم ودولهم حتى نعجب لماذا آتاهم الله هذه المنعة والعظمة والثروة وحرم المسلمين اليوم أقل جزء منها؟ ! وقد يقال: إن المسلمين فقراء ليس عندهم هذه الأموال لينفقوا هذا الإنفاق كله، فنجيب بأننا نوزع هذه النفقات على الأوربيين بنسبة رأس المال ولا نكلف المسلمين إلا الإنفاق مثل الأوربيين على هذه النسبة. فهل تسخو الأمم الإسلامية الحاضرة بما تسخو الأمم الأوربية التي منها مَن قد أنفقت في الحرب العامة أكثر من نصف ثروتها؟ الجواب: لا. ليس في المسلمين اليوم من يفعل ذلك لا أفرادًا ولا أقوامًا وقد يقال: إن الأمة التركية وهي أمة مسلمة قد أنفقت كل ما تقدر عليه في حرب اليونان ولم تقصر عن شأو الأوربيين في المفاداة بالأنفس والنفائس. والجواب: نعم. قد كان ذلك. ومن الترك من بذل ثلث ثروته ومنهم من بذل نصف ثروته في هذه الحرب، ولكنهم لما فعلوا ذلك انقلبوا بنعمة من الله وفازوا، وحرروا أنفسهم واستقلوا، وارتفعوا بعد أن كانوا هووا، وعزوا بعد أن كانوا ذلوا. إذًا الأمم الإسلامية إذا ائتمرت في المفاداة بما أمرها به كتابها كما كان يفعله آباؤها، أو اقتدت على الأقل بما هو دأب الأوربيين اليوم من بذل النفوس والنفائس في سبيل حفظ بيضتها، وذود المعتدين عنها، لم تقطف من ثمرات التضحية إلا مثل ما قطفه غيرها. وانقلبت بنعمة من الله وفضل لم يمسسها سوء. ولكن الأمم الإسلامية تريد حفظ استقلالها بدون مفاداة ولا تضحية، ولا بيع أنفس ولا مسابقة إلى الموت، ولا مجاهدة بالمال، وتطالب الله بالنصر على غير الشرط الذي اشترطه في النصر [١] فإن الله سبحانه يقول: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} (الحج: ٤٠) ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: ٧) . ومن المعلوم أن الله تعالى غير محتاج إلى نصرة أحد، وإنما يريد بنصرته تعالى إطاعة أوامره واجتناب نواهيه. ولكن المسلمين أهملوا جميع ما أمرهم به كتابهم أو أكثره، واعتمدوا في استحقاق النصرة على كونهم مسلمين موحدين، وظنوا أن هذا يغنيهم عن الجهاد بالأنفس والأموال. ومنهم مَن اعتمد على الدعاء والابتهال لرب العزة؛ لأنه يجده أيسر عليه من القتل والبذل. ولو كان مجرد الدعاء يغني عن الجهاد لاستغنى به النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف هذه الأمة فإنهم الطبقة التي هي أولى بأن يسمع الله دعاءها. ولو كانت الآمال تبلغ بالأدعية والأذكار، ودون الأعمال والآثار لانتقضت سنن الكون، وبطل التشريع، ولم يقل الله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: ٣٩) ولم يقل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (التوبة: ١٠٥) ولم يقل للمعتذرين عن القتال {لاَّ تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (التوبة: ٩٤) الآية ولم يقل {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم} (آل عمران: ١٩٥) . لقد ظن كثير من المسلمين أنهم مسلمون بمجرد الصلاة والصيام، وكل ما لا يكلفهم بذل دم ولا مال، وانتظروا على ذلك النصر من الله. وليس الأمر كذلك فإن عزائم الإسلام لا تنحصر في الصلاة والصيام، ولا في الدعاء والاستغفار , كيف يقبل الله الدعاء ممن قعدوا وتخلفوا، وقد كان في وسعهم أن ينهضوا ويبذلوا [٢] . اعتذار المسلمين عن أنفسهم وردّه يقولون: ليس عند المسلمين ما عند الإفرنج من الثروة والسعة لينفقوا في أعمال الخير وفي مساعدة بعضهم بعضًا. فنقول لمن يحتج بهذه الحجة: إننا نرضى منهم أن ينفقوا على نسبة رؤوس أموالهم كما تقدم الكلام عند ذكر الجهاد بالمال. فهل المسلمون فاعلون؟ ! إننا نراهم قد محوا رسوم الأوقاف والمؤسسات الخيرية التي تركها آباؤهم، فضلاً عن كونهم لا يتبرعون بأموالهم الخاصة ولا يجرون مع الأوربيين في ميدان من جهة التبرع لأجل المشروعات العامة، فكيف يطمع المسلمون أن تكون لهم منزلة الأوربيين في البسطة والقوة والسلطان وهم مقصرون عنهم بمراحل في الإيثار والتضحية؟ . فإن العمل لأجل السلطان في الأرض أشبه بالحرث في الأرض، فبقدر ما تشتغل فيها هي تعطيك. وإن قصرت في العمل قصرت هي في الثمر. والمسلمون يريدون سلطانًا يشبه سلطان الأوربيين بدون إيثار ولا بذل، ولا فقد شيء من لذائذهم، وينسون أن الله تعالى يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة: ١٥٥) . وقد يقولون: إننا جربنا البذل والتضحية، وابتُلينا بالنقص من الأموال والأنفس والثمرات وصبرنا ولم يفدنا ذلك شيئًا، وبقي الأوربيون مسلطين علينا، إني أنقل هذا القول عن بعضهم لأني قد سمعته كثيرًا. والجواب: هل يقدرون أن يقولوا لنا: إن ما يدعونه من البذل والتضحية يشبه شيئًا مما يقوم به النصارى واليهود من هذا القبيل؟ أو إنه إذا نُسب إليه يكون نسبته نسبة الواحد إلى المائة؟ ! عندنا مثال حديث العهد هو مسألة فِلَسْطين: حدثت وقائع دموية بين العرب واليهود في فلسطين فأصيب بها أناس من الفريقين. فأخذ اليهود في جميع أقطار الدنيا يساعدون المصابين من يهود فلسطين. وأراد العالم الإسلامي أن يساعد عرب فلسطين كما هو طبيعي فبلغت تبرعات اليهود لأبناء ملتهم من فلسطين مليون جنيه، وبلغت تبرعات المسلمين كلها ١٣ ألف جنيه أي نحو جزء من مائة. فسيقولون: إن المسلمين لا يملكون مثل ثروة اليهود. ونعود فنجيبهم نرضى منهم بأن ينفقوا في مساعدة ملتهم على قدر اليهود والإفرنج بالنسبة إلى رؤوس أموالهم، ولا نطالب منهم الفقراء الذين لا يملكون ما يزيد على كفاية عائلاتهم. قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ} (التوبة: ٩٣) . ونجيب أيضًا: أنه وإن كان اليهود أغنى بالأموال من المسلمين فالمسلمون أكثر جدًّا بالعدد؛ لأن اليهود عشرون مليونًا، والمسلمين نحو من ثلاثمائة وخمسين مليونًا. فلو أن كلاًّ من المسلمين تبرع لفلسطين بقرش واحد - وهو الذي لا يعجز عنه أحد في العالم مهما اشتد فقره - لاجتمع من ذلك ثلاثة ملايين جنيه ونصف. فلنترك تسعة أعشار المسلمين ونفرض هذه الإعانة لفلسطين على عُشر واحد منهم أي على ٣٥ مليون نسمة لا غير. وهؤلاء الخمسة والثلاثون مليون نسمة نجدهم حول فلسطين في لمحة بصر. فإن مسلمي مصر وسورية وفلسطين والعراق ونجد والحجاز واليمن وعُمان هم ٣٥ مليونًا. ولنتقاضَ من هؤلاء أداء قرش واحد عن كل جمجمة، فماذا يجتمع لنا من ذلك؟ الجواب: يجتمع ثلاثمائة وخمسون ألف جنيه. فالمسلمون قد تبرعوا عن هذه الأعداد كلها بثلاثة عشر ألف جنيه أي بما يساوي نحو ثلثي عُشر القرش عن كل نسمة من عُشر عددهم. أهذا ما تريدون أن تسموه (تضحية) ؟ ! أَوَ بمثل هذا تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم؟ ! أَوَ هذه درجة نجدتكم لإخوانكم في الدين وجيرانكم في الوطن والقائمين عنكم بالدفاع عن المسجد الأقصى الذي هو ثالث الحرمين وأول القبلتين؟ ، أفلم يقل الله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) أفهذه نجدة الأخ لأخيه؟ ! يقولون: لماذا سادت الأمة الإنكليزية هذه السيادة كلها في العالم؟ نجيبهم: إنها سادت بالأخلاق وبالمبادئ. حدثني رجل ثقة أنه يعرف إنكليزيًّا ذا منصب في الشرق كان يأمر خادمه أن يشتري له الحوائج اللازمة لبيته يوميًّا من دكان رجل إنكليزي في البلدة التي هم فيها. فجاءه الخادم مرة بجدول حساب وفر عليه به ٢٠ جنيهًا في مدة شهر. فسأله الإنكليزي: كيف أمكنك هذا التوفير؟ فقال الخادم: تركنا دكان الإنكليزي الذي كنا نشتري منه وصرنا نشتري من دكان أحد الأهالي العرب. فقال له الإنكليزي: ارجع إلى دكان الإنكليزي الذي كنا نشتري منه. فقال الخادم: أو لو كان ذلك يستلزم إنفاق ٢٠ جنيهًا زيادة؟ قال الإنكليزي: ولو كان يستلزم ٢٠ جنيهًا زيادة. وسمعت أن كثيرين من الإنكليز الذين في الأقطار لا يشترون شيئًا ذا قيمة إلا من بلادهم ويرسلون إلى لندرة فيوصون على كل ما يحتاجون إليه حتى لا يذهب مالهم إلى الخارج. أفنقيس هذا بأعمال المسلمين الذين مهما أوصيتهم بالشراء من أبناء جلدتهم أو أوطانهم وعلموا أنهم يقدرون أن يوفروا في السلعة الواحدة نصف قرش إذا أخذوها من الإفرنجي تركوا ابن جلدتهم أو ملتهم ورجحوا الإفرنجي؟ ! أفلم يكن سبب حبوط مقاطعة العرب لليهود في فلسطين أشياء كهذه؟ حرموا أنفسهم أمضى سلاح في يدهم وهو المقاطعة في الأخذ والعطاء مع اليهود من أجل فروق تافهة مؤقتة ونسوا أن الضرر الذي يصيبهم من الأخذ والعطاء مع اليهود هو أعظم ألف مرة من ضرر هاتيك الفروق الزهيدة! . وكنت مرة أشكو إلى أحد كبار المصريين إهمال إخواننا المصريين لمجاهدي طرابلس وبرقة الذين إن لم تجب عليهم نجدتهم قيامًا بواجب الأخوة الإسلامية والجوار وجبت عليهم احتياطًا من وراء استقلال مصر واستقبال مصر؛ لأنه كما أن وجود الإنكليز في السودان هو تهديد دائم لمصر فوجود الطليان في برقة هو تهديد دائم لها أيضًا. فكان جواب ذلك السيد لي: لقد بذل المصريون مبالغ وفيرة يوم شنت إيطالية الغارة على طرابلس ولم يستفيدوا شيئًا فإن إيطالية لم تلبث أن أخذتها! فقلت له: إن المصريين قد نهضوا في الحرب الطرابلسية نهضة هي بدون شك ترضي كل مسلم، بل ترضي كل إنسان يقدر قدر الحمية. ولكن المبلغ الذي تبرعوا به يومئذ معلوم وهو ١٥٠ ألف جنيه؟ ! فهل يطمع المسلمون في أنحاء المعمورة أن ينقذوا طرابلس من براثن إيطالية بمائة وخمسين ألف جنيه؟ وهل هذه التضحية تقاس في كثير أو قليل إلى التضحيات التي قامت بها إيطالية بالمال والرجال؟ ! كانت إعانة مصر في الحرب الطرابلسية ١٥٠ ألف جنيه، وأنفقت الدولة العثمانية على تلك الحرب نحو مليون جنيه. فانظر إلى ما كان لذلك من النتائج: (النتيجة الأولى) وهي أهم شيء: حفظ شرف الإسلام وإفهام الأوربيين أن الإسلام لم يمُت، وأن المسلمين لا يسلمون بلدانهم بدون حرب، وفي ذلك من الفائدة المادية والمعنوية للإسلام ما لا ينكره إلا كل مكابر. (النتيجة الثانية) أن هذا المبلغ الضئيل بالنسبة إلى نفقات الدول الحربية قد كان السبب في توطين الطرابلسيين أنفسهم على المقاومة والمجاهدة بما رأوا من نجدة إخوانهم لهم. فكانت هذه المقاومة سببًا لتجشيم إيطالية المعتدية من المشاق والخسائر ما هو فوق الوصف إلى أن صار كثير من ساسة الطليان يصرحون بندمهم على هذه الغارة الطرابلسية. (النتيجة الثالثة) مهما يكن من عدد القتلى الذين فقدهم العرب في هذه الحرب فإن مجموع قتلى الطليان إلى اليوم يفوق مجموع قتلى العرب أضعافًا مضاعفة. فلقد لقي الطليان في هذه الحرب من الأهوال ما لا يتسع لوصفه مقالة أو رسالة. وفي واقعة واحدة هي واقعة (الفويهات) على باب بنغازي ثبت فيها ١٥٠ مجاهدًا عربيًا لثلاثة آلاف جندي طلياني من الفجر إلى غروب الشمس إلى أن انقرضوا جميعًا، إلا أفذاذًا أتى عليهم الليل، ورجع العدو ولما يموتوا. وبينما كان العرب في حزن عظيم على مَن فقدوهم في تلك المعركة إذ جاءهم الخبر البرقي من الآستانة عن برقية وردت إليها سرًّا من برلين عن برقية رقمية جاءت من سفارة الألمان في رومية بأنه سقط في هذه المعركة ألف وخمسمائة جندي من الطليان، وأصاب الجنون سبعة من ضباطهم، وهذه وقعة من خمسين وقعة بالأقل تضاهيها، فالمسلمون قد قاتلوا في هذه المعركة جيشًا يفوقهم في العدد عشرين ضعفًا وقتلوا نصفه أي قتلوا عشرة أضعافهم، والله تعالى قد قدر لهم في حال القوة أن يغلبوا عشرة أضعافهم وفي حال الضعف أن يغلبوا ضِعفَيْهم فقط كما قال في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: ٦٥-٦٦) . (النتيجة الرابعة) أنه قد كانت نفقات إيطاليا في الحرب الطرابلسية في السنة الأولى منها - أي من سنة ١٩١١ إلى سنة ١٩١٢ - نحو مائة مليون جنيه، ويظن أنها من عشرين سنة إلى اليوم - إذ المقاومة لم تنقطع حتى هذه الساعة - قد بلغت ثلاثمائة مليون جنيه. فهذا كان كله نتيجة تلك الإعانة القليلة والنفقات الضئيلة التي قام بها المسلمون في تلك الحرب، ولكن المسلمين ينتظرون أن تنهزم إيطالية الدولة الكبيرة التي أهلها ٤١ مليون نسمة ودخلها السنوي ٢٠٠ مليون جنيه في صدمة واحدة أو في السنة الأولى من الحرب [٣] وإن لم يتحقق أملهم هذا انقطع منهم كل رجاء وبطلت كل حركة، وأصاب بعضهم اليأس الذي هو مرادف للكفر بصريح الذكر الحكيم: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: ٨٧) . ولنضرب مثلاً ثالثًا ونمسك بعده عن ضرب الأمثال؛ لأنها لا تُعَد ولا تُحصَى: قام أهل الريف في وجه الدولة الأسبانية مدة بضع سنين إلى أن تغلبوا عليها وطردوا جيوشها بعد أن أبادوا منهم في واقعة واحدة ٢٦ ألف جندي وغنموا ١٧٠ مدفعًا وجميع أهل الريف بقضّهم وقضيضهم ثمانمائة ألف نسمة. وعدد أهالي أسبانية ٢٢ مليون نسمة، وأراضي الريف أكثرها قاحل والأهالي فيه فقراء يعيشون من كسب أيديهم، ولقد قاموا بعملٍ أدهش أهل الأرض بالطول والعرض. فلو كان أهل الريف نصارى لانثالت عليهم الملايين من الجنيهات من كل الجهات إما بطريقة خفية وإما بواسطة جمعية الصليب الأحمر في سبيل مداواة جرحاهم. فليقل لنا المسلمون كم جنيهًا قدموا للريف في ذلك الوقت؟ ثم تألب الفرنسيس مع الأسبانيول وحشدوا لحرب الريفيين ٣٠٠ ألف مقاتل وحصروا الريف من كل جانب من البر والبحر، وكانت طياراتهم القاذفة بالديناميت على قرى الريفيين تُحصى بالمئات لا بالعشرات، ولم تكفِ طيارات الفرنسيس والأسبانيول حتى جاء سرب طيارات أمريكية من نيويورك نجدة لفرنسة وأسبانية (النصرانيتين على المسلمين لأنهم مسلمون) . هذا كله والمسلمون ينظرون إلى حرب الريف مكتوفي الأيدي، ولبثوا مكتوفي الأيدي مدة سنة. وأخيرًا نهض منهم أفراد لجمع شيء من أجل جرحى الريف، ولأجل بعث الحمية في الناس لم يكتفِ محرر هذه السطور بالكتابة بل تبرعت بأربعة جنيهات لأجل القدوة. فماذا كان مجموع تلك الإعانات من كل العالم الإسلامي؟ الجواب: ١٥٠٠ جنيه. *** خيانة بعض المسلمين لدينهم ووطنهم واعتذارهم الباطل: ويا ليت المسلمين وقفوا عند هذا الحد في خذلان الريفيين بل قامت منهم فئام يقاتلون الريفيين بأشد ما يقاتلون به الأجانب، وتألبت على محمد بن عبد الكريم قبائل وافرة العدد شديدة البأس ومالئوا الفرنسيس والأسبانيول على أبناء ملتهم ووطنهم تزلفًا إلى الفرنسيس والأسبانيول وابتغاء الحظوة لديهم. وقد جرى مثل ذلك عندنا في سورية يوم الثورة على فرنسة، وجرى في بلاد إسلامية كثيرة. أفبمثل هذه الأعمال يطالب أخونا الشيخ بسيوني عمران ربه بما وعد تعالى به من جعْل العزة للمؤمنين؟ ! وإذا سألت هؤلاء المسلمين الممالئين للعدو على إخوانهم: كيف تفعلون مثل هذا وأنتم تعلمون أنه مخالف للدين وللشرف وللفتوة وللمروءة وللمصلحة وللسياسة؟ أجابوك: كيف نصنع فإن الأجانب انتدبونا ولو لم نفعل لبطشوا بنا، فاضطررنا إلى القتال في صفوفهم خوفًا منهم؟ ونسوا قوله تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (التوبة: ١٣) وقوله تعالى: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: ١٧٥) . وكلام مثل هؤلاء في الاعتذار غير صحيح؛ فإن الأجانب قد ندبوا كثيرًا من المسلمين إلى خيانات كهذه فلم يجيبوهم ولم تنقضّ عليهم السماء من فوقهم، ولا خسفت بهم الأرض من تحتهم، ثم إنه إن كان الأجانب المحتلون لبلاد المسلمين قد أصبحوا يغضبون على المسلمين الذين لا يلبون دعوتهم إلى خيانة قومهم فإنما كان ذلك من أجل أن كثيرين من المسلمين كانوا يعرضون عليهم خدمتهم في مقاومة إخوانهم، ويقومون بها بكل نشاط ومناصحة، ويبدون كل أمانة لهم في أثناء تلك الخيانة! . ولولا هذا التبرع بالخيانة والتسرع إلى مظاهرة الأجنبي على ابن الملة لما استأسد الأجنبي وصار يتحكم في المسلمين هذا التحكم الفاحش، ويتقاضاهم أن يخالفوا قواعد دينهم ومقتضى مصلحة دنياهم من أجل مصلحته، بل قام يحملهم على الموت لأجل الموت. فإن الموت موتان: أحدهما الموت لأجل الحياة وهو الموت الذي حث عليه القرآن المؤمنين إذا مد العدو يده إليهم، وهو الموت الذي قال عنه الشاعر العربي: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدَّما وهو الموت الذي يموته الإفرنسي لأجل حياة فرنسة، والألماني لأجل حياة ألمانية، والإنكليزي في سبيل بريطانية العظمى - وهلم جرًّا - ويجده على نفسه واجبًا لا يتأخر عن أدائه طرفة عين. وأما الموت الثاني فهو الموت لأجل استمرار الموت، وهو الموت الذي يموته المسلمون في خدمة الدول التي استولت على بلادهم. وذلك أنهم يموتون حتى ينصروها على أعدائها كما يموت المغربي مثلاً حتى تنتصر فرنسة على ألمانية مثلاً. ويموت الهندي حتى تتغلب إنكلترة على أي عدو لها. ويموت التتري في سبيل ظفر الروسية. والحال أنه بانتصار فرنسة على أعدائها تزداد في المغرب غطرسة وظلمًا وابتزازًا لأملاك المسلمين وهضمًا لحقوقهم. وذلك كما حصل بعد الحرب العامة إذ ازداد طمع الفرنسيس في أهل المغرب وحدثوا أنفسهم بتنصير البربر. وبالاختصار يموت المغربي على ضفاف الرين أو في سورية حتى يزداد موتًا في المغرب! ؛ لأن كل طائلة تفوز بها فرنسة في الخارج هي زيادة في قهر المغربي وإعناته وإذلاله مما لا سبيل للمناكرة فيه، ومما قد ثبت بالتجربة. وكذلك موت الهندي في سبيل نصرة إنكلترة هو تطويل في أجل عبودية الهند. وكذلك موت التتري في خدمة الروسية لا عاقبة له سوى ازدياد قهر الروس للتتر. وهلم جرا. وهذا الموت لأجل الموت هو ما كان بخط مُنحنٍ كما يقال، أي باعتبار النتيجة، ولكنه هناك موت لأجل الموت مباشرة بدون واسطة، وهو عندما يموت المغربي في قتال أخيه المغربي الذي قام يحاول أن يزحزح شيئًا من النير الإفرنسي الذي كاد يدق عنقه، وإن لم يدق عنقه بتاتًا استحياه حياة هي أشبه بالموت! ولو انحصرت هذه الأمور في العوامّ والجهلاء لعذرناهم بجهلهم، وقلنا: إنهم لا يدرون الكتاب ولا السنة ولا السياسة الدنيوية، ولا الأحوال العصرية، وإنهم إنما يساقون كما تساق بهيمة الأنعام إلى الذبح. ولكن الأنكى هو خيانة الخواصّ. مثال ذلك الوزير المقري الذي هو أشد تعصبًا لقضية رفع الشريعة الإسلامية من بين البربر من الفرنسيس أنفسهم. ومثله البغدادي باشا فاس الذي طرح نحو مائة شخص من شبان فاس وجلدهم بالسياط لكونهم اجتمعوا في جامع القرويين وأخذوا يرددون دعاء: (يا لطيف الطف بما جرت به المقادر، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر) ومفتي فاس الذي أفتى بأن إلغاء الشرع الإسلامي من بين البربر ليس بإخراج للبربر من الإسلام! وهلم جرًّا. وكلٌّ من هؤلاء الخونة المارقين - أخزاهم الله - قد بلغ من الكبر عتيًّا، وانتهى من أموال الأمة شبعًا وريًّا، وهو لا يزال حريصًا على الزلفى إلى فرنسة، وإثبات صداقته لها ولو بضياع دينه ودنياه، حتى تُبقي عليه منصبه وحظوظه في هذه البقية الباقية من حياته التاعسة [٤] . وليس واحد من هؤلاء ولا من في ضربهم في المغرب إلا وهو مطَّلع على نيات فرنسة وعلى مراميها من جهة هذا النظام الجديد لأمة البربر، وليس فيهم إلا مَنْ هو عارف بوجود جيش من القسوس والرهبان والراهبات يجوس خلال بلاد البربر ويبني الكنائس ويتصيد اللقطاء والأيتام والفقراء وضعفاء الإيمان، وليس فيهم إلا مَنْ هو عالِم بمنع فرنسة فقهاء الإسلام والوعاظ من التجوال بين البربر حتى ترتفع الحواجز أمام دعوة المبشرين إلى النصرانية. وقد يكون المقري والبغدادي هذان هما في مقدمة الموقعين على الأوامر بمنع علماء الإسلام وحَمَلَة القرآن من الدخول إلى قرى البربر. وقد يكون المقري هذا هو الذي خصص المبلغ من مال المخزن لجريدة (مراكش الكاثوليكية) التي تطعن في الإسلام، وتقذف محمدًا عليه الصلاة والسلام، ولدينا كثير من أعدادها التي تتضمن هذه المطاعن. وبعد هذا فمن يدري؟ فقد يكون المقري مصليًا وصائمًا وبيده سبحة يقرأ عليها أورادًا. ومن يدري؟ فقد يكون البغدادي السيئ الذكر ممن يتمسحون بالقبور ويستغيثون بالأولياء ويتظاهرون بهذا الورع الكاذب. وأما المفتي فهو المفتي فلا حاجة إلى تثبيت كونه يصلي الخمس ويصوم ويتهجد ويوتر ويتنفَّل! ! .. إلخ. وقد مضى علينا - نحن في سورية - شيء من هذا لأوائل عهد الاحتلال، لكن لم تكن خيانة هؤلاء المعممين في قضية دينية مباشرة. فقد اقترحت عليهم فرنسة أن يمضوا برقية إلى جمعية الأمم ينكرون بها عمل المؤتمر السوري الفلسطيني المطالِب باستقلال سورية وفلسطين، فأمضاه منهم عمائم مكورة، وطيالس محررة مجررة، ورقاب غليظة، وبطون عظيمة، وإن لم أقل الآن: أخزاهم الله، أخشى عتاب إخواننا المغاربة الذين يرونني خصصت بهذا الدعاء صدرهم الأعظم، ومفتيهم الأكبر، وأعفيت معممي سورية؛ فلذلك يقضي العدل بأن نقول: أخزاهم الله أجمعين، أخزى الله الذين منهم في المشرق والمغرب، ممن يوقعون على اقتراحات الأجانب المضرة بالدين والوطن. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))