للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ختام درس المنطق للأستاذ الأكبر
في الجامع الأزهر

لا خلاف في أن العلوم والمعارف بدأ ينزوي نورها، ويغيض معينها في بلاد
الشرق من عدة قرون، ولم يكن الشرق إلا الإسلام والمسلمين حيث لا علم إلا
علمهم , ولا مدنية إلا مدنيتهم , وقد اقتضت حوادث الكون بأن ينتبه المسلمون من
رقادهم كما انتبه غيرهم , وكانوا أحق بالسبق والتقدم، وكلما انتبه فرد انتباهًا حقيقيًّا
عني بتنبيه غيره، سُنة الله في الخلق. وأشهر المنتبهين والمنبهين لإحياء العلوم في
المسلمين لهذا العهد هو مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية.
أخذ - حفظه الله - على نفسه إيقاظ أهل الأزهر الشريف وإرشادهم لطريقة
التعليم المثلى , فلقي في ذلك من العناء ما كان يلقاه المصلحون من قبله في كل زمان
ومكان , وعلم أن الإرشاد بالقول قليل الجدوى؛ فصار يقرأ الدروس بنفسه مع كثرة
أعماله الأخرى في خدمة بلاده , وفي ليلة الأربعاء الماضية أتم كتاب (البصائر
النصيرية) في علم المنطق , وقد احتفل بختامه في الرواق العباسي كما هي عادة
الأزهريين احتفالاً قرئت فيه الخطب والقصائد في الثناء على الأستاذ , وكان الأولى
أن تتوجه أفكارهم إلى بيان طرق الإصلاح الذي امتاز بها درسه , والأقطاب التي
كان يدور عليها كلامه وترمي إليها سهامه، ومرجعها الى أصلين:
(أحدهما) اختيار الكتاب , فإن الناس يختارون في كل طور وحال
ما يناسب درجتهم واستعدادهم , ولضعف العلم في القرون الأخيرة صار العلماء
لا يقرءون إلا كتب المتأخرين , والتي كتب عليها الشروح والحواشي
الملأى بالمنازعات والمحاورات في الأساليب العرفية التي تُضعف العلم واللغة
جميعًا كما هو المشاهَد.
ولا يكاد يتجرأ عالم على قراءة كتاب من كتب الجهابذة المتقدمين التي لم
تشرح ولم تعلق عليها الحواشي ويسمونها (غير مخدومة) فعلَّمنا الأستاذ باختيار
(البصائر النصرية) الذي هو أمثل كتاب رأيناه في المنطق كيف تُختار الكتب
النافعة التي لم نتلقها بالمدارسة , وعلق عليه شرحًا وجيزًا بيَّن غوامضه وأصلح ما
عساه يوجد فيه من الخطأ مما لا يخلو عنه غير كلام المعصوم , فعلَّمنا بذلك كيف
ينبغي أن تكون الشروح , وكيف أن المتمكن من العلم لا يهاب الكتب , ولا
يتقيد بالعبارات التي ألفها وتعلمها.
(ثانيها) الإلقاء والتقرير - علَّمنا بذلك كيف تتجلى الحقائق بالصور المختلفة ,
وتتحلى المعاني بالصيغ المتعددة؛ ليعتقنا من رق العبارات ويفكنا من أسر
الألفاظ التي استبدت بالحكم فينا زمنًا طويلاً - علّمنا كيف ضلت الأفهام وغلبت
الأوهام. وكيف أطفأ دخان التقاليد النظرية ما في العقول من أنوار العلوم اليقينية
لنطلب العلم ببرهانه ونأخذ الشيء بربَّانه - علّمنا كيف تتضاءل الشبه افتضاحًا ,
وتتبختر الحجج اتضاحًا , وكيف يفرغ البيان العويص من النظريات في قوالب
البديهيات؛ لتقوى منا العزائم ونقدم على العظائم - علّمنا كيف نطلب العلم بالعمل
بمسائله والتحقق بدلائله وملاحظة انطباقه على الواقع وموافقته للوجود؛ لنُحصِّل ثمرة
قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم) - علَّمنا كيف
تتمحص الحقائق للوصول إلى اليقين بالعلم والجزم بالفهم ليخرجنا من الحيرة في
طريقة التعليم المألوفة لهذا العهد: طريقة الاحتمال وسرد الأقوال - علمنا بحاله ومقاله
كيف يرتقي العلم , وكيف يأتي المتأخر بما لم تأت به الأوائل؛ لينزع من نفوسنا
التسليم بأن الإنسان دائمًا في تدلٍّ وهوي لا في تقدم ورقي , فإن التقدم مع هذا الاعتقاد
محال - علَّمنا كيف يكون العلم صفة من صفات العالم تنفعل به نفسه وتتكيف به
روحه ليرشدنا الى أن الصور والخيالات التي تلوح في الأذهان وتتراءى في الأفكار
عندما تنشر الصحف وتعرض على الأنظار نقوش الكتب ليس من العلم في شيء.
ولو شئت أن أستشهد على كل بشيء مما قلته بشئ مما جاء في درس المنطق
لفعلت , وأظن أن نبهاء الطلاب الذين حضروه يكتفون بهذه الإشارات ولا ينسون
كيف فند الأستاذ كلام أفلاطون وأصلح رأي أرسطو في الماهيات , ولا يغيب عن
أذهانهم ذلك التحقيق العجيب في معنى الوجود , وأنه جنس الأجناس وجوهر
الجواهر , ولا ينكرون أنهم لم يفهموا معنى الوجود إلا في ذلك اليوم , كما لا يغيب
عن عقولهم ذلك التحقيق البديع في معنى العدم , وأنه لا حقيقة له , ولا يمكن
تصوره، فحيَّا الله من علَّمنا كيف نفرق بين الوجود والعدم، وأظن أنهم يتذكرون ذلك
السائل الذي سأله منهم عن مفهوم (شريك الباري) وقول المنطقييين: إنه من
الكليات التي لم يوجد لها أفراد , ويتذكرون جواب فضيلته الذي يتدفق حكمة وإيمانًا
وعلمًا وإيقانًا الذي أثبت فيه أن ذلك المفهوم من الصور الخيالية المخترعة التي لا
حقيقة لها ولا يمكن تصورها , وما جعلها من الكليات إلا نقص العلم وخطأ الفهم إلخ
ما لا محل له هنا لإيضاحه وتفصيله.
تُليت القصائد والخطب احتفالاً بختام الدرس كما قلنا , والرواق العباسي
غاص بالناس يزاحم العلماء والمدرسون فيه الطلاب والمجاورين , وعلم الأستاذ أن
ما سيلقى كثير فختم المجلس بخطاب بليغ ابتدأه بهضم نفسه بإزاء الإطراء في
المدح مع شكر من يظن به خيرًا. وقال: أحسن الكلام ما كان صادقًا مطابقًا للواقع ,
وإنما يذهب مذاهب المبالغة في قوله من كان مجازفًا في رأيه وإن كان العلماء
توسعوا في التسامح بالمبالغة والتشبيهات والاستعارات ولم يعدوها من الكذب
وسنذكر ما علق بالذهن من خطابه في الجزء الآتي.