وشجاعة الفاتيكان وصراحته منقولة عن المقطم الذي صدر بتاريخ ٢١ ذي القعدة سنة ١٣٥٢ - ٧ مارس ١٩٣٤
لما شجر الخلاف في الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا، وكثر التحدث عندهم بالكنيسة الألمانية الرسمية، أو النازية، وبالطائفة التي تُسمي نفسها بالألمانيين المسيحيين، لم يدر الناس في الشرق كثيرًا ولا قليلاً عن هذا الخلاف في الكنيسة البروتستانتية الألمانية، وظنوه خلافًا وطنيًّا عارضًا لا يلبث أن يسوى بينهم، وأنه لا يمس جوهر المسيحية بشيء. ولكننا ما لبثنا أن سمعنا باشتداد الخلاف، وبأنه خلاف على جوهر حتى ذهبت الأكثرية المعارضة إلى مدى القول أن النازي يريدون أن يمزجوا جوهر المسيحية بشوائب الوثنية. ولم نفهم المراد بالوثنية حتى أفهمنا إياه النازي أنفسهم؛ إذ وكلوا إلى اثنين من أساطين كُتابهم - فيما يظهر - فكتبوا كتابين في جوهر هذا التغيير الذي يُقَرِّب المسيحية من الوثنية، وأحد هذين الكاتبين اسمه روزنبرج، واسم كتابه (خرافة القرن العشرين) ونحن لم نر الكتاب، ولكن نقلت إلينا الأنباء نبذًا منه، وقيل لنا: إن النازي سيتخذون هذين الكتابين قانونًا لإيمانهم الجديد، ينشرونه فيما بينهم ويُحَفِّظونه أولادهم في المدارس، ويعلقون آياته على أبواب عملهم، وفي منازلهم، ويعصبون بها رؤوسهم لو كانوا يلبسون عصابات. وفي تلك النبذ التي قرأناها ما فهمنا منه أن النازي ينكرون المسيح قاعدة المسيحية، ويحسبونه معلمًا دينيًّا إن كان إنجيله ملائمًا لعصره، فهو لا يلائم هذا العصر؛ ذلك لأنه بَشَّر في ذلك الزمان بالسلام، والسلام لا يلائم فطرة الخلق، وقد جرب كل التجارب في مدة ألفي السنة التي مرت، فما احتمل تلك التجارب؛ لأن الناس المسالمين الودعاء لا يرضى الواحد منهم إذا لُطم على خده أن يحول الآخر لضاربه، وإذا سئل ثوبه أن يعطي رداءه فوقه، وإذا سُخِّرَ ميلاً أن يمشي مع مُسَخِّرِه ميلين. لا يرضى الرجل الوديع المسالم ذلك، فما بالك بالألماني الشديد المراس في معاملة الغريب السلس القياد في أيدي حكامه مهما يكن مبلغ استبدادهم به، وبنظام الحكم والدستور والبرلمان في بلاده. ألا ترى أن الألماني لا يغفر لأجنبي أقل هفوة يهفوها، ويعدها إيذاء لشعوره القومي، وهو قد اغتفر للنازي حل البرلمان، وإلغاء الدستور، وإنشاء دكتاتورية مطلقة، وليس الفرنسوي ولا الإنكليزي مثل ذلك؛ إذ لا يتصور أحد من الذين يعرفون أخلاقهما وتربتيهما الدستورية أنهما يرضيان بانقلاب دستوري مثل الذي رضيه الألماني. إن الذين قالوا: إن النازي يريدون مزج المسيحية بالوثنية. قالوا شيئًا كثيرًا؛ فإن إنكار قاعدة المسيحية يعيد القوم إلى العصور السابقة لانتحالهم المسيحية، وقد كانوا فيها يعبدون - مثلما كان العرب يعبدون في عصور الجاهلية - اللات والعزى ومناة الأولى، فلينعموا بأصنامهم وأوثانهم. وهذا الحنين إلى عهود الوثنية يبعد النازي عن أديان التوحيد الثلاثة، وهو شذوذ لهم يختلف عن شذوذ إمبراطور ألمانيا السابق، فقد كان يعتقد أن الشعب الألماني شعب الله الخاص، وأنه هو ملك هذا الشعب المختار بحق إلهي، ولعل هذه الفكرة ورثها النازي عنه، وهي التي تجعلهم ينقمون من اليهود ما ينقمون. وكاتب هذه السطور ليس كاثوليكيًّا؛ ولكنه يرى من العدل والإنصاف ألا يترك هذه العجالة من غير أن ينوه بفضل الفاتيكان ويده على المسيحية في رد هذا الكيد لها، فقد أبدى في هذا الحادث ما اشتهر عنه من الغيرة والسهر على الوزنات الخمس التي عهد إليه فيها، فكان بينه وبين النازي مفاوضات على عقد (كونكرداتو) يتقرر به موقف الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا، فلما درى بحركة النازي هذه، والتي هي في جوهرها لا دينية قطع المفاوضة، ولم يمنعه من ذلك كون رئيس الوزراء ووكيلها كاثوليكيين؛ لأنه إن كان لا حياء في الدين، فهنا موضع إبداء الشجاعة والجرأة، وعدم الحياء في المجاهرة بالضمير، وإن كانت المجادلة والمداورة والمناورة تصلح أساسًا للسياسة؛ فإنها لا تصلح أساسًا للديانة، وكل من يبني عليها فهو (يشبه برجل جاهل بنى بيته على الرمل، فنزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبت الرياح، وصدمت ذلك البيت؛ فسقط وكان سقوطه عظيمًا) وعندنا أن هذه الحركة النازية شقيقة البلشفية من الوجهة الدينية، وأنه إن كانت ألمانيا قد سلمت من البلشفية السياسية، لم تَسْلَم من البلشفية الدينية، والفرق بين البلاشفة والنازي، أن الأولين صريحون في مروقهم من الدين، وأن الثانين يعملون من وراء ستار. ومما يدل على أن النازي يريدون أن ينفوا عن الأذهان فكرة الله والألوهية قولهم في القسم الذي أقسموه لزعيمهم منذ أيام: (أقسم لأدولف هتلر وللحق الأبدي) فما هو هذا الحق الأبدي؟ وجاء في التلغرافات التي نشرت في الأسبوع الماضي أن قداسة البابا خطب في جمع من كبار رجال الدين أمس بمناسبة العزم على تطويب ثلاثة من القديسين فحمل على (العقائد الوثنية) الحديثة في ألمانيا، وقال: (إن حياة أولئك القديسين كانت مثالاً باهرًا من المحبة المسيحية، وإنذارًا من مثل الحركة التي تريد العالم على العود إلى الوثنية، والشعب الألماني النبيل هو الآن في مأزق من تاريخه، والآراء والأعمال السائدة بينه ليست مسيحية ولا إنسانية، فإن الزهو القومي لا ينتج إلا زهوًا بالحياة، وهو بعيد عن روح المسيحية والإنسانية معًا) . ... ... ... ... ... ... ... ... (ن. ش)