للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(تفرق العرب واختلافهم في جزيرتهم)
كان لما كتبناه في الجزأين الأخيرين بشأن العرب وجزيرتهم استحسان عظيم
عند أولي الرأي والغيرة من قراء المنار، ومثله ما كتبناه في المجلد الحادي
والعشرين في مسألة الخلاف بين الحجاز ونجد، تبين لنا ذلك من حديث من كلمنا
في هذه المسألة في سورية؛ إذ كنا فيها عند نشر ذلك، ثم من كلمنا في مصر في هذا
وذاك.
وأكبر مصائب العرب بأئمتهم وأمرائهم أنهم قد ازدادوا تفرقًا وتعاديًا وعدوانًا
وتقاتلاً بقدر اشتداد الحاجة إلى الاتفاق والتواد والتعاون فيما بينهم، وقد رأينا في
جريدة القبلة المكية التي هي لسان حال حكومة الحجاز ورأيها مقالاً في التعادي
والتقاتل بين العرب السعوديين ومن يتصل بهم من عرب نجد والكويت واليمن،
وبين عرب عسير الإدريسيين وعرب اليمن العليا التابعين للإمام يحيى، وهذه
الجريدة تلقي تبعة ذلك على الإمام ابن سعود وعلى السيد الإدريسي اللذين كان
بينهما وبين الشريف والملك حسين من التعادي والتقاتل ما كان.
نحن عرب نغار على جميع العرب، ومسلمون نفضل بلاد الحجاز على سائر
بلاد العرب والعجم، ونهتم بأمر حفظها وصيانتها فوق اهتمامنا بسائر بلادنا
وأوطاننا، وقد حرم الله تعالى مكة على لسان نبيه وخليله إبراهيم، والمدينة على
لسان خاتم رسله وسيد ولد آدم محمد -عليهما وعلى آلهما الصلاة والسلام - فلا
يجوز أن يقع في هذين الحرمين قتل ولا قتال، ولا أن يكونا موضعًا للمنازعات
الحربية ولا السياسية؛ لأنه قد تفضي إلى الحرب.
لما وقع التقاتل بين الحجازيين والنجديين اقترحنا على إمامي أقوى الحكومات
الإسلامية العربية المجاورة للحرمين التصدي لإصلاح ذات البين، ولو بقتال الفئة
الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، ولكن مثل هذا الاقتراح لا ترجى فائدته بالإخلاص
الذي يطلبه المسلمون الذين ليس لهم هوًى ولا منفعة بنصر إحدى الطائفتين على
الأخرى، وإننا نخشى أن نرى الحرمين في يوم قريب ميدان قتال يتعذر إقامة ركن
الحج في أثنائه، وتنتهك فيه حرمة بيت الله تعالى وحرمه، أو حرم رسوله -
صلى الله عليه وسلم -، فلعلنا في ذلك نعرض على أهل الرأي والحصافة والمكانة
من المسلمين الاقتراح الآتي:

* * *
(اقتراح لصيانة الحرمين الشريفين من الحرب وعمرانها وأمنهما)
للقطر الحجازي صفة لا يشاركه فيها قطر آخر من أقطار الدنيا، فكل قطر
سواه لأهله الامتياز فيه على غيره بالحكم والتصرف في حكومته وأرضه ومرافقه،
ولحكومته أن توالي وتعادي وتحارب وتعاهد من تشاء، وتمنع من دخوله عند
الحاجة من تشاء، وتأذن فيه لمن تشاء بحسب قوانينها والقانون الدولي العام.
وأما الحجاز ففيه حرم الله وحرم رسوله اللذين حرم الله فيهما ما لم يحرم في
غيرهما، كأكل الصيد وترويعه وقطع الشجر وغيره من النبات، وشرع فيه من
العبادة ما لم يشرعه في غيره، فأوجب على مسلمي جميع الأقطار الحج والعمرة فيه،
وندب الرسول صلى الله عليه وسلم شد الرحال إلى مسجديه وجعله؛ أي:
القطر - خاصًّا بالمسلمين كمعابدهم، لا يباح لغيرهم الإقامة فيه كما أوصى
صلى الله عليه وسلم في مرض موته، وامتن الله على عباده بجعل جوار بيته
حرمًا آمنًا، وجعله مثابة للناس وأمنًا وقال فيه: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل
عمران: ٩٧) ، وقال: {وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: ٢٥) ، وقد ورد في
التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين أن خلق
الله فيه سواء، لا فرق بين المقيم بمكة وغيره ممن يحجه من سائر الأقطار، وأنه
يجب على أهل مكة أن لا يمنعوا أحدًا من الحاج مشاركتهم في سكنى بيوتهم،
وحرم بعض السلف أخذ الأجرة منهم، وكرهها بعض آخر، بل رووا في ذلك
أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم توفي، وتوفي من بعده أبو بكر وعمر، وما كانت رباع مكة تدعى إلا
السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن، وكانوا ينهون أن يكون لبيوتها
أبواب؛ لئلا يكون منعًا من دخولها، وليس هذا الاقتراح بالذي يتسع لنقل الروايات
ومذاهب الأئمة فيها، وربما خصصنا له مقالاً بعد.
وقد روي عنهم في تفسير الإلحاد والظلم في الحرم تشديد عظيم، فلم يخصوه
بارتكاب ما حرمه الله هنالك مما حرمه في غيره وما لم يحرمه إلا فيه، بل جعلوا
من معناه مضاعفة السيئات، وكون الصغيرة في غيره كبيرة فيه، حتى شتم الخادم،
وكذلك الهم بالسيئة والعزم عليها ولو قبل الوصول إلى مكة، وفي الحديث:
(احتكار الطعام بمكة إلحاد) ، وفي رواية: في الحرم، بدل مكة، وقال ابن عباس:
(تجارة الأمير بمكة إلحاد) .
قصر المسلمون فيما يجب عليهم للحجاز، فلم يقوموا به حق القيام، ولم
ينفذوا وصية الرسول الأخيرة فيه، وهو المقصود الأهم من وصيته في جزيرة
العرب، حتى زعم بعض العلماء أنه هو المراد بها، خلافًا للمتبادر من لفظ الحديث،
ولا مراء في أن الحاجة إلى العناية به في هذا الزمان أشد من كل الأزمنة الماضية
من وجوه كثيرة - ليس هذا محل شرحها - فأكثر مسلمي هذا العصر تابعون
لحكومات غير إسلامية تهتم بحمايتهم وشؤونهم في سفرهم إلى الحجاز، فإذا وقع فيه
قتال، فإنها تمنعهم من أداء فريضة الحج في أثنائه، وإذا كان لحكومة الحجاز ما
لسائر الحكومات من حق قطع العلاقات الودية وإعلان الحرب على أي دولة يقع
بينها وبينها ما يقتضي ذلك، فإن هذا يبيح للدولة المحاربة لها الهجوم على الحرمين
والاستيلاء عليهما، أو حصرهما ومنع الأقوات وغيرها عنهما، كما أنه قد يدعو
الدول الأجنبية إلى منع رعاياها المسلمين من السفر إليه للحج، ولا سيما إذا كانت
معادية، وكل هذا ينافي مصلحة المسلمين العامة، وليس فيه منفعة دينية ولا دنيوية
ترجح على المفاسد الكثيرة التي اكتفينا بالإشارة إليها عن شرحها وتفصيل القول
فيها.
وإنما المصلحة الإسلامية العامة أن يكون الحرمان الشريفان وسياجهما
من البلاد قطرًا حرًّا مسالمًا لجميع الأمم والدول؛ ليكون مصونًا من الاعتداء عليه
وانتهاك حرمته، ويكون ركن الحج من أركان الإسلام قائمًا أبدًا، بل ليتحقق وإنما
جعل الله تعالى إياه حرمًا آمنًا، وكونه لجميع المسلمين سواء العاكف فيه والبادي، لا
تعدي فيه ولا إلحاد.
فنقترح على أهل الغيرة الإسلامية من مسلمي الحجاز وسائر الأقطار أن
يسعوا إلى هذه المصلحة سعيها، وهي تتوقف فيما نرى على وضع نظام لحكومة
الحجاز يبنى أساسه على جعل الحجاز قطرًا سلميًّا على الحياد، لا تكون حكومته
خصمًا ولا عدوًّا لدولة من الدول، ولا حكومة من الحكومات، فلا تعتدي ولا يعتدى
عليها، ولا تخاف ولا يخاف منها، وأن تسعى هذه الحكومة بمساعدة أهل النفوذ من
مسلمي جميع الأقطار إلى حمل جميع الحكومات المجاورة لها وسائر الحكومات التي
لها رعايا مسلمون يركبون متون البحار ويشدون الرحال إلى الحرمين الشريفين
للنسك والعبادة فيهما، ونظن أن جميع الدول تجيب إلى هذا ولا تعارض فيه.
نعرض هذا الاقتراح مجملاً على العالم الإسلامي، وفي مقدمته حكومة الحجاز
وأشراف الحرمين وعلمائه؛ لبيان الآراء التفصيلية فيه بنشرها في الصحف
الدورية، والمنار مستعد لنشر ما يأتيه فيه، وإن كان لا بد من التذكير ببعض
التفصيل فيه فليكن اقتراح إنشاء محكمة إسلامية بمكة، يكون لكل قطر إسلامي حق
تمثيله فيها بعضو من علماء الشرع المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية التي يستقبل
المتبعون لها هذا البث في صلاتهم، ويحجونه لأجل محاكمة من يعتدي في تلك
البلاد على مال غيره أو بدنه، أو عرضه أو شرفه، ومنه الطعن في المذاهب،
فإن ضمان حرية كل منتم إلى مذهب من مذاهب المسلمين في تلك البلاد التي لهم
حق أداء النسك فيها يستلزم أن لا يطعن أحد منهم في مذهب الآخر، وهو من أكبر
الإلحاد في الحرم.
بل إذا قيل: إنه ينبغي أن يكون لجميع الشعوب الإسلامية حق المشاركة في
تأمين هذا القطر المقدس وحمايته، ومراقبة إقامة الشعائر فيه مع منع الظلم، كما
أن عليهم أن يتعاونوا على كفاية أهله الحاجة، وإغناء أعرابه عن التعدي، وعلى
نشر الدين والعلم فيهم، وجعل المسجدين الأشرفين مثابة للناس في العلم وفي العبادة
جميعًا - إذا قيل هذا كله رجونا أن يتقبله جميع المؤمنين الصادقين بقبول حسن
ويتكاتفوا على القيام به حق القيام.
لعل الملك حسينًا يقبل هذا الاقتراح ويبادر إلى تنفيذه برأي كبار الشرفاء
والعلماء في مكة المكرمة بأن يضموا له مشروع النظام وينشر في جريدة القبلة،
وترسل منه نسخ إلى المدن الإسلامية الكبرى في الشرق والغرب والجنوب والشمال
لأخذ رأي أهل العلم والخبرة فيه، ويضرب موسم الحج القابل موعدًا لتنفيذه بعد
جمع الآراء وتمحيصها فيه بعرضها على لجنة تؤلف من خيار حجاج هذه الأقطار
علمًا ورأيًا، وحينئذ يكون سعي هؤلاء المسلمين لموافقة الحكومات على حياده وأمنه
مرجو النجاح في أقرب وقت.
وإننا نرى أن هذا المشروع إذا تم يسهل ما اقترحناه في الجزء الذي قبل هذا
من إنشاء مجلس تحكيم لما يقع من الخلاف بين أمراء العرب إذا وفقوا لعقد الاتفاق
الذي يتمناه لهم كل عربي، بل كل مسلم يفقه الإسلام ويغار على مصالح أهله، بأن
يكون هذا المجلس في مكة المكرمة، بل يترتب عليه تعاون جميع المسلمين على
عمران الحجاز وتسهيل طرقه وتكثير موارده وتموين أهله ونشر العلم فيه، وغير
ذلك من المصالح والمنافع، والله الموفق.

* * *
(كلمة للصحف الإسلامية)
نرجو من حرفائنا الكرام أصحاب الصحف الإسلامية في جميع الأقطار أن
يبينوا رأيهم في هذا الاقتراح، ويحثوا قراءهم على القيام بما يرونه فيه.