المسلمون أمة واحدة , مؤلفة من شعوب وقبائلَ كثيرةٍ مختلفةٍ في المذاهب والأجناس واللغات، والأقطار والحكومات، لا تجمعها إلا وَحْدَةُ العقيدة وأُخوة الإيمان، والعثمانيون أمة واحدة مؤلفة من شعوب وقبائلَ كثيرة مختلفة في كل شيء حتى في الأديان والمذاهب , لا تجمعها إلا الوحدة العثمانية السياسية والوطنية؛ إذ الممالك العثمانية كلها وطن عامّ لكل عثماني، له في كل ولاية منها من الحقوق ما لأهلها إن شاء أن يقيم فيها , ويجوز أن يُنتخب مبعوثًا عنها وإن لم يكن مقيمًا فيها [١] . للإسلام مزية في المملكة العثمانية ليست لغيره من الأديان , فقد صرح القانون الأساسي بأن دين الحكومة العثمانية الرسمي هو الإسلام , وأن سلطان العثمانيين هو خليفة المسلمين، وبهذا يكون للمسلم الأجنبي الذي يدخل المملكة العثمانية سائحًا أو مهاجرًا حقوق لا يشاركه الأجنبي غير المسلم فيها؛ لأن سلطان العثمانيين خليفته يجب عليه مراعاة أمره. وللعثماني غير المسلم من الحقوق في هذه المملكة ما لا يشاركه فيه المسلم الأجنبي؛ لأن جميع أحكامها تنفذ عليه دون المسلم الأجنبي الذي يلجأ إلى وكلاء دولته في البلاد العثمانية. ويجب على الخليفة أن يساعد المسلمين على إقامة أمورهم الدينية ولا سيما الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه إذا قامت به طائفة أو طوائف منهم، ولا يجوز له أن يساعد غير المسلمين على مثل ذلك , وإن كانوا عثمانيين، وإنما عليه أن يحمي حريتهم الدينية ويمنع غيرهم أن يعتدي عليهم فيها حَسَب ما قررته الشريعة الإسلامية العادلة. إن من آثار عدل هذه الشريعة وحريتها أن غير المسلمين قد كانوا حتى في عصر الاستبداد الحميدي متمتعين بحريتهم الدينية والتعليمية على حين تُصادَر الكتب الدينية الإسلامية ويمنَع طبعها ونشرها، ولا يصادر ولا يمنع من كتبهم شيء , ولا يوجد دولة أوربية تمنح المسلمين من حرية الدين والتعليم في بلادهم التي استولت عليها مثلما منحته الدولة العثمانية لليهود والنصارى في بلادها قديمًا وحديثًا، فهي في هذا أوسع حرية من إنكلترة التي تعد واسعة الحرية في ذلك بالنسبة إلى فرنسة وروسية، فهي لا تسمح لمسلمي الهند أن يعلموا أولادهم ويربوهم في المدارس والمكاتب كيفما شاءوا بلا مراقبة ولا سيطرة، كما تسمح الدولة العثمانية لليهود والنصارى في مدارسهم ومكاتبهم. ولو أنصفت دول أوربة لاعترفت لخليفة المسلمين بحق سؤالهن عن حرية المسلمين الدينية في ممالكهن وتحت حمايتهن، كما يسألن حكومته عن معاملة النصارى من رعيته في أمر دينهم ودنياهم، إنه ليس لملك من ملوك أوربة صفة دينية في مِلَّتِهِ مثل صفة خليفة المسلمين، ولكنهم قوم لا ينصفون. إن الدول الأوربية المستولية على الملايين من المسلمين يوجسن خيفة من ذكر المسلمين لدولة الخلافة , ومن دخول أي مسلم عثماني في البلاد التي يقيم فيها أولئك المسلمون لئلا يوجد بين أحد منهم صلة أو رابطة ما بالدولة , وهن يعلمن أنها (أي دولة الخلافة) لا تسعى إلى ذلك، ولكنهن يسعين دائمًا إلى بث نفوذهن في بلادها بكل واسطة، ثم إن جرائدهن تشكو من الجامعة الإسلامية وتشنع عليها وتدعو إلى الحذر منها , ونحن لا نشكو من دسائسهم وجدّهم في بث نفوذهم في مقدونية وألبانية والأناضول والعراق وسورية وفلسطين - فهذه هي حقيقة الجامعة الإسلامية، مِن حيثُ علاقَتُها بالدول الأوربية. أما الدول والإمارات الإسلامية فوجودها مُنَافٍ للجامعة الإسلامية؛ لأن الإسلام يوجب أن يكون للمسلمين حكومة واحدة يرأسها إمام واحد يديرها بالشورى بين أهل الحل والعقد، لا بالاستبداد، ولكن بني أمية حولوا الحكومة الإسلامية في القرن الأول عن أساس القرآن وبنوها على أساس العصبية والقوة، فصار كل صاحب عصبية قوية يؤسس لنفسه ملكًا، وصار ملوك المسلمين يحارب بعضهم بعضًا؛ لأجل توسيع دائرة الملك كما يحاربون الكفار بلا فرق، ثم تأرثت بينهم الأحقاد والأضغان، ورسخت العداوة والبغضاء حتى صار بعضهم يُعين الأجانب الطامعين في ملكهم كلهم على بعض، وما استولت كل من إنكلترة وروسية وفرنسة على عشرات الملايين من المسلمين إلا بمساعدة المسلمين؛ فليعتبر العقلاء بهذه الجامعة الإسلامية التي تتهمنا بها أوربة ونحن على نقيضها في تفرقة إسلامية سياسية تدعمها تفرقة إسلامية مذهبية. مرت القرون الطوال على هذه الفرقة والعداوة , ولم يظهر في المسلمين مَلِك عاقل ولا وزير محنّك ولا زعيم مصلح يضع للحكومات الإسلامية المتفرقة نظامًا يربط بعضها ببعض في الأمور الدينية والحربية مع حفظ استقلال كل منها في الأمور الداخلية - لم يهتدوا إلى هذا بنور بصيرتهم ولا وفقوا إلى اقتباسه عن غيرهم وقد رأوا مثاله الصالح في الوحدة الجرمانية وكذا في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد قام في أواخر القرن الماضي المصلح الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني يحضهم عليه، ويبين لهم وجه الحاجة بل الضرورة إليه، فكان جزاؤه من ملوكهم وأمرائهم الاضطهاد، والنفي والإبعاد، ثم الإحاطة به في القسطنطينية، إلى أن وافته المنية، رحمه الله تعالى وأحسن جزاءه. لو وفق رجال المسلمين لهذا لَكَانَ لهم مملكة (أو إمبراطورية) كما يقال في عرف هذا العصر جناحها الأيمن حكومة مراكش على شاطئ القاموس الغربي (الأتلانتيك) وجناحها الأيسر حكومتا الأفغان وإيران وقلبها الحكومة العثمانية التي كانت تكون منها - كبروسية في الوحدة الجرمانية - مركز السلطة العليا والقيادة العامة , بل لو وفقوا لهذا قبل هذا العهد الأخير وأنفذه مثل السلطان سليم ياوز الذي شعر بالحاجة إليه , ولم يعرف طريقه لدخل في هذه الإمبراطورية جميع ممالك الهند وتركستان والقوقاس وبخارى ونصف إفريقية الشمالي برمته , ولكان أخذ بقية إفريقية وفتح كثير من الممالك الشرقية بعد ذلك أمرًا ميسورًا. فكر السلطان سليم في وجوب جعل الممالك الإسلامية كلها مملكةً واحدةً , ولكنه كان مخلوقًا من طينة الحرب وشديد الضراوة بسفك الدم , فَرَأَى أنْ ينفذ ذلك بحد الحسام، ولم يخطر في باله ما أشرنا إليه من النظام، وماذا كانت عاقبة ذلك التفرق والانقسام؟ استولت الدول الأوربية على أكثر الممالك الإسلامية حتى إنهم في هذين العامين اقتسموا مملكة إيران بالفتح السلمي , ووضعوا به مملكة مراكش تحت الحماية الفرنسية برضاء سلطانها الجهول الغبي , وتجرءوا على الدولة العلية , ففتحوا عليها باب الفتح الحربي - فهذه هي حقيقة الجامعة الإسلامية مِن حَيْثُ علاقَتُها بحكومة المسلمين وإنّ في ذلك لعبرة للمعتبرين. وأما خبر الجامعة الإسلامية فيما بين المسلمين أنفسهم فإننا لا نزال نرى السواد الأعظم منهم في كل قطر من أقطار الأرض يشعرون بالأخوة الإسلامية العامة، فيُسرُّ بعضهم لما يصيب بعضًا من حسنة، ويتألم لما يصيبه من سيئة، وإذا حل الشرقي منهم في أرض الغربي أو الغربي في أرض الشرقي يلقى من إخوانه المسلمين أهلاً بأهل وجيرانًا بجيران، وكثيرًا ما يفضلون أخاهم الغريب على مثله الوطني. فإن كان عالمًا بالغوا في تعظيمه والتلقي عنه، وإن كان تاجرًا تسابقوا إلى ترويج تجارته، وإن كان سائحًا تباروا في إكرامه وضيافته، وإنْ كان فقيرًا لم يقصروا في بره ومعونته، كان يكون هذا بين الأفراد، فسرى في هذا العصر إلى الشعوب والأمم، فصار كل أهل قطر يهتمون بأمور إخوانهم العامة في سائر الأقطار على قدر حظهم من معرفة السياسة والشئون العامة، وهذا ما تراقبه دول الاستعمار , وينظرون إليه بالمناظير المكبرة للصغير والمقربة للبعيد، وهو لم يتجاوز الشعور الرُّوحِيّ، إلا إلى قليل من الإعانة المالية، توجه إلى الدولة العلية، باسم دولة الخلافة الإسلامية. على أن هذه الأخوة الإسلامية لم تسلم من الآفات المفسدة، والعلل المفرقة، التي تحمل المرء على أن يفر من أخيه، وأمه وأبيه، وعشيرته التي تؤويه، وأول هذه الآفات اختلاف المذاهب والتفرق في الدين المنافي لأصل الإسلام، وكان أشدها ضررًا اختلاف أهل السنة والشيعة، وهذا الاختلاف والتفرق ينافي أصل الإسلام المبني على الوَحْدَةِ والأخوة، وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) وقال للمؤمنين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: ١٠٣) ؛ إلى أن قال: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: ١٠٥) . الإسلام دين التوحيد والألفة، والأخوة والمحبة، لا مجالَ فيه للشحناء، ولا موضع فيه للعداوة والبغضاء، وإنما هي السياسة لبست لباس الدين، ففرقت كلمة المسلمين، كانت الشيعة في العصر الأول حزبًا سياسيًّا، لا مذهبًا دينيًّا، وقد كان الإسلام قائمًا على رأي هذا الحزب أن عليًّا المرتضى هو أحق بالخلافة من غيره، ووجد من الأنصار الكرام من قال: نحن أحق بهذا الأمر من المهاجرين، ومَن قالوا: منا أمير ومنكم أمير، ومَن كان يرى أن أبا بكر الصديق أحق بالأمر، وقد غلب رأي هؤلاء وحزبهم، وَلَمّا كان الإسلام يومئذ قائمًا على صراطه لم يحدث هذا الخلاف تفرّقًا في الكلمة ولا شقًّا للعصا؛ لأن جمهور أهل الحل والعقد من أهل الصدر الأول وهم علماء الصحابة والسابقون الأولون منهم رضي الله تعالى عنهم، كانوا يعلمون أنه ليس بعد الكفر ذنب أضرّ ولا أقبح من التفرق، والاختلاف وأن مَن يرى أنه أحق بالأمر إذا تركه لِمَن هو حقيق به يكون أولى من مطالبته به مطالبةً تُفضي إلى التفرق والاختلاف؛ لهذا كان عليّ أشد نصير وظهير لأبي بكر ومَن بعده، فيما يرى حزبه أنه هو أولى به، فَهَلاَّ سَارَ المتأخرون من شيعته على هديه والتأسّي بعمله؟ إنهم لم يفعلوا، ولماذا لم يفعلوا؟ إنما سبب ذلك السياسة ودسائس المجوس وجمعياتهم السرية التي كانت تعمل على محو الإسلام لإزالة سلطان العرب الذين أزالوا ملكهم. كان بين الفرس والعرب قبل الإسلام عداوات وحروب ومفاخرات يحقر بها كل منهما الآخر , ويفضل جنسه على جنسه، ولذلك مزق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الملوك الذين دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام , فدعا عليه بأن يمزق الله ملكه، وكان أبو بكر هو الذي جهز الجيش لقتال الفرس , وتم فتح بلادهم في خلافة عمر في أقرب وقت إجابةً لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم , فعظم ذلك على القوم وَرَأَوْا أن الإسلام قد أعطى العرب قوةً من الوحدة والعقيدة لا تقاوم بقوة مثلها فلجأوا إلى الحيَل والدسائس؛ لإفساد أمر الإسلام وتفريق كلمة العرب فألَّفوا الجمعيات السرية لذلك، وأظهر كثير منهم الإسلام؛ لأجل تنفيذ مقاصدهم، فأول شيء فعلوه هو قتل الخليفة عمر فاتح بلادهم وجامع كلمة المسلمين بسياسته الحكيمة وعدله الشامل، ووجدوا لتفريق الكلمة مجالاً واسعًا وهو الخلاف في أمر السلطة والحكم، واتسع لهم الميدان عندما صار الأمر في يد بني أمية ولا سيما المجاهرين منهم بالفسق، والمسرفين في سياسة الظلم، كيزيد وكثير من بعده، فكان أكثر المسلمين في باطنهم من شيعة آل علي وهم آل رسول الله صلى الله عليه وسلم لِما كانوا عليه من الصلاح والتقوى، فصارت جماعات المجوس تبثّ في نفوس الناس الغلو في تعظيم عَلِيٍّ وآله وحبهم، وفي تحقير أعدائهم وبغضهم، ونظموا الخلفاء الثلاثة وكبار المهاجرين الأولين مع فساق بني أمية وظَلمتهم في سلك أعدائهم، وانتهوا في ذلك إلى تكفيرهم، والتقرب إلى الله تعلى بسبهم ولعنهم، ومن غلا في تعظيم شيء أو شخص غلا في تحقير ضده وخصمه، وذهب في ذلك إلى غير غاية. وكان للمجوس في ذلك عدة مقاصد يتوسلون بها إلى غايتهم من إفساد دين الإسلام وإزالة ملك العرب (أحدها) تشكيكهم في أصل الدين بزعمهم أن جمهور الصحابة رضي الله عنهم قد ارتدوا عن الإسلام , وحرفوا القرآن , وحذفوا كثيرًا منه، وقد راجت دسيستهم هذه في سوق جهلة الشيعة , وغفلوا عن كونها تتضمن الطعن في أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه فإنه لا يشك أحد منهم ولا من سائر المسلمين أنه كان يحفظ القرآن كله، فلماذا لم يظهره ولو في مدة خلافته، ولم يقاتل عليه كما قاتل معاوية على ما هو دونه، وهو هو الذي لا يخاف في الحق أحدًا, ولا يخشى في الله لومة لائم. (ثانيها) نقض عُرى الإسلام عروةً عروةً، وهدم أركانه رُكْنًا ركنًا، بزعمهم أن له ظاهرًا وبطانًا، وأن معرفة باطنه الذي هو مراد الله من عباده لا يمكن أن يؤخذ إلا عن أئمة أهل البيت المعصومين، ووضعوا لذلك أصول مذهب الباطنية أو دين الباطنية الذي يتدرجون به من القول بعصمة الأئمة , إلى القول بألوهيتهم , إلى الإلحاد , وإنكار النبوة ألبتة، وقد راجت هذه الأضاليل عند بعض غلاة الشيعة , فظهر منهم الإسماعيلية القرامطة والنصيرية وآخر فرقهم البابية البهائية وغير البهائية وكلهم يعبدون البشر من دون الله. (ثالثها) تأسيس ملك باسم بعض أئمة آل البيت، قوته وعصبيته من الفرس, وممن يستجيب لدعوتهم من سائر المسلمين، والتوسل بذلك إلى إزالة الملك من العرب ثم تحويله إلى الفرس. ومن آثار عناية الله تعالى بالإسلام أنه لم يكن لأولئك الجموع من الكائدين جهة وحدة , تجعل عملهم يمد بعضه بعضًا، فاهتدى طلاب الملك من العباسيين إلى مقاصد السياسيين منهم , فسخروهم لخدمتهم وحولوهم عن العلويين حتى إذا ما ظفروا بالأمر فتكوا بالزعيم الفارسي العظيم أبي مسلم الخراساني، ثم فتك الرشيد بالبرامكة الذين سلكوا في الكيد طريقًا آخر. وكان الإسلام ينتشر في الفرس بقوة نوره من جهة وقوة استعدادهم له من جهة أخرى , فصار أكثر الفرس من المؤمنين الصادقين , فتآخوا مع العرب بالإخاء الصحيح لغلبة الدين على السياسة، وانتشرت دعوة الباطنية الكفرية في غير بلاد الفرس , وقام بها أمم راجت في بلادهم , فتأسست دولتهم في المغرب وظهرت في مصر شيعية في الظاهر كفرية في الباطن، ثم قضت عليها الدولة الأيوبية، ولم يَبْقَ منها إلا مثل ما كان في الشرق من الدعوة الخفية. وصارت الشيعة الظاهرية مذهبًا دينيًّا، بعد أن كانت حزبًا سياسيًّا، فأكثرهم وهم الإمامية الاثنى عشرية لا يتوسلون بمذهبهم إلى إقامة إمام علوي؛ لأن الإمام الثاني عشر من أئمتهم قد اختفى وهم ينتظرون ظهوره بالخوارق والتأييد الإلهي قرنًا بعد قرن , فلا يستعدون لذلك بشيء، ويرى بعض السياسيين أن هذا كان بدسيسة من العباسيين , وأقل فرقتي الشيعة الظاهرية الكُبريَيْن عددًا وهم الزيدية ما زالوا يقيمون لهم إمامًا علويًّا زيديًّا بالانتخاب، وقد قاتلتهم الدولة العلية على ذلك, فكانت الحرب بينهما سِجالاً منذ أربعة قرون إلى أن وفقهم الله في العام الماضي للصلح والاتفاق. ومجمل القول في مسألة شيعة عَلِيٍّ وآله -عليهم الرضوان والسلام- أنها كانت حزبًا سياسيًا , كان عدده قليلاً مدة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما , ثم كثر حتى صار السواد الأعظم من المسلمين على حب الآل , وتفضيلهم منذ صار الملك في بني أمية، ولكن الملك لم يعد منوطًا بالحب والاعتقاد , بل بالبراعة في تكوين العصبية، وبذلك انتقل من الأمويين إلى العباسيين والفاطميين وملوك الطوائف ولو كان المجوس الذين بثوا دسائسهم في الشيعة مجمعين على جعل السلطة في آل البيت لقدروا , ولكنهم كانوا مذبذبين؛ لأن لهم غرضًا آخر. ولما صارت الشيعة مذهبًا دينيًّا فَشَا فِيهِم اعتقاد أن كل مَن ليس على مذهبهم فهو خَصْم لآل البيت وعون على إضاعة حقهم في الخلافة، وبهذا صار التفرق بين هاتين الطائفتين مِن المسلمين مَدْعُومًا بِشُبُهات مِنَ الدين، وصارت السياسة تذكي نارها كما وقع بين العثمانيين والإيرانيين، ولم يقم من علماء المسلمين أحد يبحث عن الحقيقة بالاستقلال والإنصاف , ويبين للفريقين بالحجج الناهضة حقيقةَ الأمر , وأنه لا موجب ولا مسوغ للعداوة , وأن هذا التفرق مفسدة للدين، ومضعف لجميع المسلمين، ولا فائدة فيه إلا لذة بعض الملوك والأمراء الجائرين. وقد آنَ لَنَا الآن أن ندرك ذلك ونغض النظر عن الماضي كيفما كان، ويعذر بعضنا بعضًا في رأيه واعتقاده، ونجعل الخلاف فيه كالخلاف في مسائل الفنون اللغوية، والعلوم الرياضية والكونية، لا يوجب تفرقًا ولا عداوة، كما كان سلفنا الصالح حتى في فَهْم المسائل الدينية، ثم نتحد على رفع عدوان العادين على ديننا وسلطتنا، والساعين إلى استعبادنا واستذلالنا، الذين بثوا الدعاة لِتَنْصِير كل مسلم من سُنِّيٍّ وَشِيعِيٍّ، وعقدوا المحالفات لإزالة الملك الإيراني والعثماني، وهم مختلفون في المذاهب كاختلافنا بل أشد من اختلافنا، ولكنهم متحدون في المصالح المشتركة بينهم والضارة بنا، فَعَلاَمَ تتفق الأمم والدول عَلَيْنَا ونحن لا نزال مختلفين، وكتابنا ينطق علينا بالحق مبينًا لنا أن الاختلاف والتفرق من صفات الأشقياء المخذولين، والوفاق والاتحاد من صفات الموفقين المرحومين؟ {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: ١١٨-١١٩) . (الآفة الثانية من آفات الجامعة الإسلامية، عصبية الجنسية الجاهلية) : ألف الإسلام بين جميع المهتدين به مِن العرب والعجم، بل وضع أساس الوفاق بين جميع الشعوب والأمم، وقد كانوا يتعادون بعصبية النسب القريب، وإن جمعتهم اللغة والوطن والنسب البعيد، فلم تكن العداوة بين العرب والفرس، إلا دون العداوة بين الأوس والخزرج، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) ومما بينه النبي صلى الله عليه وسلم للناس في حَجَّة الوداع وأمر أن يبلغه الشاهد للغائب أنْ لا فضلَ لعربي على عجمي , ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، ولهذا كان المؤمنون في الصدر الأول إخوانًا , وظلت هذه الأخوة بينهم سببًا لِنموِّ الإسلام وانتشاره عِدّة قرون على ما كان يدس في بلادهم من دسائس الزنادقة والمنافقين، فلم يكن العرب يغمطون حق المبرز في العلم من العجم، ولا يستنكفون أن يأخذوا عنه ويفضلونه على مَن دونه، ولا يبالون أن يرفعوه إلى مقام الرياسة والإمامة لعلوِّ مقامه، فتذكر مقام أبي حنيفة في الفقهاء والبخاري في المحدثين، وسيبويه في النحاة، والزمخشري في البلغاء والمفسرين، ثم تذكر مقام الوزراء من العجم عند الخلفاء من العرب، ثم مقام الملوك الأعاجم من السلاجقة والأكراد والترك العثمانيين ومن قبل العثمانيين، وناهيك بنور الدين وصلاح الدين، الذين نعدهم في الدرجة التي تلي درجة الخلفاء الراشدين. ثم لَمّا زاد ضعف الإسلام وجهل أهله به، وانحرافهم عن صراط هدايته، حدثت فيه بدعة العصبية الجنسية واللغوية، وكان أشدها قُبْحًا وأخشاها عاقبةً ما كاد يتفاقم من التغاير بين الترك والعرب العثمانيين وهما رُكْنَا الدولة وقوامها، لولا أن تداركه بعض العقلاء، وبين خطر مغبته النصحاء، ثم فطنت الحكومة لوجوب تلافيه، وعدم الاستهانة به. وإنني أرى أن ما سرى إلينا من الآراء والأفكار الأوربية في السياسة ونظام الاجتماع التي لا تصلح لنا، ولا نشبه فيها غيرنا، هو الذي زَيَّنَ لمقلدة الإفرنج بغير هدى ولا بصيرة أن يتعصبوا لِقَوْمِهِم الذين تجمعهم اللغة تعصّبًا يحلّ رابطة الأخوة بينهم وبين إخوانهم في الجامعة الدينية أو الجامعة الإسلامية أو يضعفها، وأرى أن ساسة الإفرنج الطامعين فينا هم الذين يًزِيِّنُونَ لتلاميذهم منا أن يعملوا لهذه العصبية عملها، وأن يجلعوا نهضتهم الاجتماعية نهضةً قوميةً، جنسيتها وجامعتها لغوية، لا دينية ولا سياسية. ولولا هذا لَمَا قام مسلمو الألبانيين بتدوين لغتهم بالحروف اللاتينية , وطالما بينت في مجلتي (المنار) مخالفة العصبية الجنسية لهدي الإسلام وحذرت منها. وقد رأيت في سياحتي في الهند أن مسلمي الهند أبعد الناس عنها , ومن أقواهم شعورًا بالجامعة الإسلامية المضادّة لها. إذا كانت هذه البدعة الأوربية قد رسخت في بعض الشعوب الإسلامية حتى صاروا يرون أنه لا بُدَّ لهم منها فعليهم أن يتقوا ضررها , فلا يتعدوا فيها السعي والاجتهاد في ترقية قومهم، إلى التقصير في إحكام الروابط التي تربطهم بغيرهم: فلا ينسى الألباني (مثلاً) ما يجب عليه من الحقوق الدينية لإخوته المسلمين، وهو ما أشرنا في هذا المقال إليه وَنَوَّهْنَا بِهِ، ولا ما يجب عليه من الحقوق السياسية والاجتماعية لإخوانه العثمانيين، وهو ما سنشير إليه في القسم الثاني من هذا المقال ونحثّ عليه. بل يجب عليه قبل كل شيء أن لا ينسى حقوق الدولة العلية التي لا حياةَ له إلا بحيلتها ولا عزة له إلا بعزتها ولا شرف له إلا بشرفها , بل أقول منذ الآن: إنه يجب على كل شعب عثماني يجدّ ويجتهد في ترقية نفسه أن يقصد بذلك ترقية دولته وأن يشعر نفسه دائمًا أنه عضو منها وأنه لا حياةَ له إلا بإمدادها والاستمداد منها. (الآفة الثالثة من آفات الجامعة الإسلامية نزغة الوطنية الشيطانية) : وأعني بهذه الوطنية ما بثته بعض جرائد الحزب الوطني بمصر , وهي وطنية مذبذبة تنافي أخوة الإسلام؛ لأنهم يعدون بها المسلم الذي يقيم بمصر دخيلاً لا يشرفونه بلقب المصري ولا يساوونه بالمصريين، ولا يرضاها القبط الذين هم من سكنة مصر الأوّلِينَ، ولا غيرهم مِن المهاجرين العثمانيين، وقد أثرت وساوس تلك الجرائد في نفوس بعض قُرّائِها الذين يحسنون الظن بكل ما يكتب فيها , فصاروا ينفرون من الغريب وإن كان مسلمًا قُرَشِيًّا محبًّا لمصر وأهلها , ولحبها وحبهم اختارها على بلاده وجعلها وطنًا له، وَنَحْمَدُ الله أن وقى من نفثاتهم السامة السواد الأعظم من المصريين , فلا يزال الشعور بالجامعة الإسلامية يقوى وينمي فيهم؛ فتراهم على مشرب الأنصار الكرام يحبون مَن هاجر إليهم ويهتمون بأمر إخوانهم المسلمين البُعداء عنهم. (شطر المقال الثاني ينشر في العدد التالي) كتب في بغداد باقتراح واليها جمال بك. ((يتبع بمقال تالٍ))