للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الهدايا والتقاريظ
من
باب الآثار الأدبية

(اللؤلؤ النظيم في رَوْم التعلم والتعليم)
كتيّب لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري المتوفى سنة ٩٢٦ ذكر فيه شروط
الاشتغال بالعلم وآفاته. ثم ذكر العلوم المعروفة في العربية وتعريفاتها. أما ما ذكره
من الشروط والآفات فهو حسن جدًّا. ويا ليت أهل الأزهر يتدبرون قوله ويسيرون
على منهجه كما يقرأون منهجه في الفقه وغيره من كتبه. فقد ذكر من الشروط أن
يقصد كل طالب بالعلم الذي يميل إليه طبعه؛ لأن كلاًّ ميسَّرٌ لما خلق له، وهم لا
يراعون هذا. وذكر منها اختيار الكتب الجيّدة، وهم قد التزموا كتبًا مفضولة لا حجة
لهم على اختيارها إلا تقليد الآخر لمن سبقه في ذلك. وذكر منها أن لا يدخل علمًا
في آخر، وهذه الحواشي التي التزموها قد امتزجت فيها العلوم امتزاجًا، فصارت
أخلاطًا وأمشاجًا.
وأما ما ذكره في تعريفات العلوم وفوائدها فقد جرى فيه على المعروف عند
أهل عصره في الغالب وفيه خطأ وقصور من أغرب ذلك قوله في الكيمياء: (علم
بأصول يعرف بها معدن الذهب والفضة) وقوله: (علم الهيئة علم يعرف به
الأجرام البسيطة من حيث كمياتها وكيفياتها وأوضاعها وحركاتها اللازمة لها) .
* * *
(تعريف اصطلاحات علم الأصول)
رسالة أو مقدمة للشيخ زكريا الأنصاري أيضًا ينبغي لمن يبتدئ بتعلم الأصول
الاطلاع عليها، فإنها تؤنسه بتلك الاصطلاحات على ما فيها من خطأ وقصور، ومن
غريب ذلك قوله في تعريف المعدوم: (ضد الموجود) مع قوله عقيبه: (الضدان
أمران وجوديان يستحيل اجتماعهما في محل واحد) وهذا يفيد أن المعدوم من الأمور
الوجودية! ! ومنه قوله: (الذاتي ما يستحيل فهم ذاته قبل فهمه) ومنه تعريفه العدل
والعدالة بالاعتدال والثبات على الحق. وإنما نبهت على هذه الأغلاط لألفت طلاب
الأزهر إلى عدم التسليم بكل ما قال الشيوخ المؤلفون؛ لأنهم ألفوا وماتوا. هذا وقد
طبع الرسالتان أو المقالتان أو الكتيبان الشيخ أحمد عمر المحمصاني الأزهري وجعل
لهما مقدمة وخاتمة فكان جميع ذلك ٣٦ صفحة صغيرة ولكن الثمن أصغر من ذلك فهو
نصف قرش صحيح.
* * *
(المعلقات السبع)
هي أشهر من أن ينوَّه بها، فما من مشتغل بالعلم إلا وهو يعلم أنها أبلغ ما يؤثر
عن العرب في الجاهلية، وأنها يحتاج إليها في اكتساب ملكة فصاحة اللسان وذوق
اللغة، ولكن نسخها التي في الأيدي غير موثوق بضبطها وصحتها؛ لذلك
انبرى الشيخ أحمد عمر المحمصاني إلى تصحيحها وضبطها على الشيخ محمد
محمود الشنقيطي، وهو كما يعلم القراء إمام اللغة في هذا العصر وقد طبع
النسخة المصححة مضبوطة بالشكل، وذكر في هامشها اختلاف الروايات
وأضاف إليها القصيدة المعروفة بلامية العرب مضبوطة مثلها، وجعل ثمن
النسخة من الورق الأبيض الناعم قرشين صحيحين والنسخة من الورق النباتي قرشًا
ونصفًا، فَنَحُثُّ كل مشتغل بالعربية على حفظها بهذا الضبط والتصحيح. ويا حبذا لو
كان أضيف إلى ذكر الروايات تفسير الغريب.
* * *
(سفينة النجاة في قواعد النحاة)
اسم لكتاب تعليمي مؤلف من أجزاء طبع الثالث منها أخيرًا طبعًا حسنًا مضبوطًا
بالشكل على ورق حسن، وهو أوسع من كتاب النحو الرابع الذي يقرأ في المدارس
الأميرية أو مثله لكنه أكثر تمرينًا فهو خير كتاب رأيت في تسهيل تعليم النحو.
ومما رأيته منتقدًا فيه ذكر جمل فاسدة في التمرينات لأجل إصلاح التلامذة لها
وعندي أن هذا مما يترك للمعلمين ولا يكتب في الكتب. والخطب سهل، ومنه ذكر
بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم المأثورة مع تصرف فيها بالزيادة
والنقصان، أو التبديل والتغيير والمعنى صحيح، ولعل المؤلف يعتذر بأن هذا من
قبيل الاقتباس الذي اعتادوا التصرف فيه بالمأثور، وهو عذر يقال وإنما انتقدت؛
لأن القارئ يقع في الوهم من ذلك السرد الذي ليس مظنة للاقتباس إذ لم يعتد في
مثل هذا المقام، أما مؤلف الكتاب فهو أحد (الفرير) وقد أشار إلى اسمه بهذه
الإشارة (ح. ط.) وأتبعها بهذه العبارة (مفتش اللغة العربية في أحد المدارس
الكبرى بالقاهرة) .
* * *
(المنار وجريدة (تربيت) الفارسية)
جاء في جريدة تربيت الفارسية التي تصدر في طهران تحت عنوان (مجلة
المنار) ما ترجمته: إنَّ العلوم والمعارف في هذا العصر قد بنيت في عمدة أقسام
الدنيا كما ينبغي أن تبنى، وأحكمت كما يجب أن تحكم، ولم يبق إلا القليل من
الأمكنة التي يعيش أهلها بالأوهام الباطلة، والخيالات الواهية، جاعلين عنان
اختيارهم بأيدي أهواءٍ مختلفة ورياح متناوحة، يسلكون المناهج المظلمة عميًا لا
يبصرون.
إن معارف الفلاسفة الأقدمين وأفكار العلماء العرفاء من أهل الفروق المتوسطة
قد أصبحت مفاتح لحكماء هذا العصر الجديد حتى سهل لهم بها تذليل الأقفال
الصعبة، وفتح الأبواب الموصدة، وأصبح عمر الإنسان القصير من جراء هذه
الاكتشافات يعد بالألوف من السنين. والعالم يفهم أن بمعنى العيش وحقيقة الحياة
هو العلم، ومن فوائد العلم القدرة على العمل، ومن لا علم له لا قدرة له.
والأشياء التي يرومها الجاهل في عمره ويرجو أن يدفع بها آلامه وأوجاعه
هي التي تولد الأمراض وتضاعف الأوجاع. فحكمها حكم الخمرة التي يشربها
الشارب في جنح الليل لصدع همومه فيحدث في صباحه ما يكثر همومه من الصداع
والكسل، قال أحد عبدة الخمر: إني لم أشرب في عمري غير جام واحد لترويح
النفس، وكل ما شربته بعده فإنما كان لدفع ما أورثته تلك الكأس من الخمول
والخمود.
لا نبعد، فالغرض هو العلم إذ به أصبحت أكثر الممالك في هذا العصر جنات
دانية الجنى، وقد تسلسلت أنهار الفضل ببعضها، وصيرت السراب بحرًا متدفق
الجوانب بالأمواه العذبة. وأحد تلك البحور الزاخرة التي ليس لها ساحل هو وادي
النيل وكرسي الفراعنة الذي صار حقيقًا بأن يدعى في عصرنا هذا بعرش الحكمة،
وأي دليل على ما نقوله أقوى من وجود منبع الفضل العلامة الأوحد مولانا الأستاذ
الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية _ متعنا الله بطول حياته - في الجامع
الأزهر في القاهرة.
(الجامع الأزهر هو مدرسة تحتوي على آلاف من الطلبة مشغولين فيه
بتحصيل العلوم) ، وقبل هذا كثيرًا ما تكلمنا عن الجرائد والمجلات المصرية،
وإننا نكرر الحديث فيها حتى لا نكون مدينين بشيء لشرح هذا المطلب المهم، ولا
يفوتنا مستحب مؤكد بل فريضة لازمة.
في هذا الأسبوع وردت على إداره التربية (مجلة المنار) ففاز رواد المعارف
الذين هم في حوزتنا الصغيرة من مطالعة تلك المجلة بأكبر المنافع، وبها عرفنا منزلة
صاحبها سيد الفضلاء الأستاذ الألمعي السيد محمد رشيد رضا ومقدار ما عليه
حضرته من الفضل والأدب.
أقول: لم يبق في هذا العصر للأمة المصرية شيء يمنعها من بلوغ مقاصدها
السامية فإن أسباب الكمال مجموعة لديها فكاتبها مثل السيد ومحررو أخبارها من
ذكرنا قبلُ ومرشدها فيلسوف مثل فضيلة الشيخ الأجل محمد عبده (شكر الله
مساعيه) ، ودار كتبها الشهيرة (الكتبخانه الخديوية) لا يحيط بها الوصف. فإذا لم
يصل أولئك القوم إلى أقصى درجات العلم والحكمة فلا أدري من أي جهة يكون
التقصير، وما هو السبب فيه؟
المنار مجلة علمية أدبية تهذيبية ملية وفيها أخبار متنوعة تصدر في غرة كل شهر وفي السادس عشر منه هي جنس يجب أن يُشْرى بالروح. ومن زينة الحياة
الدنيا أن هذه المجلة الواحدة تكفي وتغني. إن ما يسطر فيها يمزج بماء الحياة
ويشرب فهو ينقذ من مخالب الاستسقاء المهلك، ويحي الروح وينجي من الموت ولم
يؤلف كتابًا ولا رسالة أحسن من مجلة المنار؛ لأجل الوصول إلى الحقيقة ومزايا
الإسلام، ولو أن ابن خلدون الحضرمي كان حيًّا لعلم ما أقوله وأثبته.
في كل مقالة من هذه المجلة الغراء أثر من طيب ريحانة الفاضل الخبير،
والنحرير الذي ليس له نظير، رئيس معلمي قاموس كل علم، علم الأعلام، سند
الإسلام، فضيلة الشيخ محمد عبده - دام علاه - الذي هو كمال المشرق والمغرب
وجمالهما. وإذا راقت الآراء المعدودة من حكمائنا في أعين العرفاء من الإفرنج
فأول تلك الآراء هي تصورات ذاك المولى الكبير - أعني الشيخ محمد عبده جعل
الله إلى أعلى المقامات منتهاه، وإلى أعظم البحور طريقه.
ومن هذه الجملة استنبط حسن حظ المصريين الذين هم إخواننا المسلمون،
واعلم أن شكر هذه النعمة من الواجب، وبعد الأسف الكثير على حال المسجونين
في ظلام الجهل أقول: بخ بخ لمصر التي منحت فوق دار الكتب ودار الآثار
والعاديات والمدارس كنوز معارف من المجلات المضيئة المفيدة، وما أطيب زمن
طلاب جامع الأزهر إذ يحكمون مباني عقولهم وأفهامهم، وينورون ساحات قلوبهم
وأبصارهم بسماع حكمة تلك الكلمات والآيات وجواهر أحاديث الفيلسوف الأعلم،
الجناب المستطاب المعظم، الشيخ محمد عبده سلمه الله تعالى. يحسن من أهل
بلادنا أيضًا أن يطلبوا مقدارًا من هذه المجلة، ويسرحوا النظر فيها، وإذا نشأ عن
ذلك خطايا فخطاياه في عنقي.
طالت حياة شيخنا الأجلّ الشيخ محمد عبده إذ فيها خير المسلمين، وإن شاء
الله سنزين أوراق التربية بشرح ذاك مع الفوائد العظيمة من مجلة المنار.
***
(المنار)
لقد سبق أن قرظ المنار من علماء الأقطار وفي خير الجرائد والمجلات
العلمية في مصر وغيرها، ولم نقل من ذلك شيئًا لأننا نرى أن ناقل مدحه كمادح نفسه
بنفسه، ولكننا عنينا بتعريب ما كتب في هذه الجريدة (تربيت) ونشرناه لا لأن
صاحب الجريدة من أكابر العلماء والفضلاء، وخيرة الكتاب البلغاء. ولا
لأن الجريدة لها المكانة العالية في نفوس كبراء الفرس وفضلائهم كما أخبرنا بذلك
صديقنا مِيرزا مهدي بك صاحب جريدة (حكمت) الغراء بل لأن صاحبها على
مذهب الشيعة، فأحببنا أن يعرف قراء المنار من أهل السنة أن من فضل الله تعالى
على الإسلام والمسلمين أن نزع من قلوبهم في هذا العصر تلك العصبات والتحزبات
التي خضدت بها من قبل شوكتهم، وفرقت كلمتهم، فذهبت ريحهم، وخبت
مصابيحهم، تقشعت الظلمات وانجلت الغياهب عن فضلاء الأمة فأبصروا أن
مصلحتهم واحدة لأن جامعتهم واحدة وهي جامعة الدين الحق الذي جعلهم إخوانًا.
صار المسلم في فارس يفرح لأخيه المسلم في مصر إذا أحسن عملاً ويحزن لأخيه
في مُرّاكش إذا أساء صنعًا، وكذلك حال المصري يبتهج بما يسمع من حسن حال
إخوانه في إيران. ويستاء إذا هضمت حقوقهم في بلوجستان، إلا ما يلغط به بعض
الأحداث، وإن لم يصادف أقل اكتراث، فلا وطنية ولا عصبية في هذه الديانة
الإسلامية، وعلى كل حال يجب أن نشكر لأخينا صاحب جريدة (تربيت) حسن
ظنه بنا وبالمنار على ضعفنا وتقصيرنا. أما ما قاله في الأستاذ الإمام، فهو الذي
اتفق عليه ذوو الأفهام، ولكن الشرط في حصول المراد، هو كمال الاستعداد.