للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بهجت البيطار


نداء للجنس اللطيف
يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف من سنة ١٣٥١
في حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام
(تابع لما نشر في الجزء الماضي)

٣٠- أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين
وحكمة تعددهن بعد الهجرة وفوائده
(الزوج الأولى خديجة رضي الله عنها)
تزوج صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة بالسيدة خديجة بنت
خويلد وهي ثيب بنت أربعين سنة، فعاشت معه خمس عشرة سنة قبل البعثة
وعشرًا بعدها، وتوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين وكانت عجوزًا بنت ٦٥ سنة وهو
في مستوى العمر الطبيعي، فقد قضى زهرة شبابه فلم يتزوج عليها، ولا أحب أحدًا
مثل حبه لها، وظل طول عمره يذكرها، ويكرم أصدقاءها ومعارفها، وزارته مرة
عجوز في بيت عائشة فأكرم مثواها وبسط لها رداءه فأجلسها عليه، فلما انصرفت
سألته عائشة عنها لتعلم سبب إكرامه لها فأخبرها أنها كانت تزور خديجة، وقد
صح عن عائشة أنها غارت منها وهي لم ترها حتى تجرأت مرة عليه عند ذكرها،
فقالت له: هل كانت إلا عجوزًا أبدلك الله خيرًا منها؟ (تعني نفسها، وكانت تدل
بحداثة سنها وجمالها وكونه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها وبكونها بنت
صديقه الأكبر أبي بكر رضي الله عنه وعنها) قالت: فغضب وقال: (لا والله ما
أبدلني الله خيرًا منها: آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني
بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء) قالت: فقلت
في نفسي لا أذكرها بعدها بسيئة أبدًا. رواه ابن عبد البر والدولابي.
وروى الشيخان عنها أنها قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله
عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها قط؛ ولكن كان النبي صلى الله عليه
وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة
- أي صديقاتها من النساء - وربما قلت له: لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟
فيقول: (إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد) زاد في رواية: قالت: وتزوجني
بعدها بثلاث سنين، وفي صحيح مسلم عنها: كان إذا ذبح الشاة قال: (أرسلوها إلى
أصدقاء خديجة) فذكرت له يومًا فقال: (إني لأحب حبيبها) وكانت خديجة أعقل
العقائل، وفضلى الفواضل، وكانوا يلقبونها من عهد الجاهلية بالطاهرة، وهي أول
من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كنت سئلت عن حكمة تعدد أزواجه صلى الله عليه وسلم سنة ١٣٢٠
فأجبت جوابًا نُشر في المجلد الخامس من المنار، ثم في الجزء الرابع من التفسير
(ص ٣٧) ثم طرقت هذا البحث في فتاوى (م ٢٨) من المنار، وأنا أذكر هنا
معنى ما هنالك مع فوائد أخرى فأقول:
٣١- الحكمة العامة لتعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
إن الحكمة العامة لهذا التعدد بعد الهجرة، في سن الكهولة، والقيام بأعباء
الرسالة، والاشتغال بسياسة البشر، ومصابرة المعادين، ومدافعة المعتدين، دون
سن الشباب وراحة البال - هي السياسة الرشيدة، وتربية الأمة وضرب المثل
الكامل لها في معاشرة النساء بالمعروف، والعدل بينهن، وتخريج بضع معلمات
للنساء، يعلمنهن الأحكام الشرعية الخاصة بهن، مما كان صلى الله عليه وسلم
يستحي أن يخاطب به النساء فيما كان يخصهن به أحيانًا من مواعظه، كما كان
أكثرهن يستحيين أن يسألنه عن أحكام الزوجية والجنابة والطهارة، وقد كان نساء
المهاجرين أشد حياء من نساء الأنصار في هذا، بل كان من نساء الأنصار من
يهبنه أن يسألنه عما لا يُستحيا منه.
ومن الشواهد عنهن في ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة من
الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض فأمرها كيف
تغتسل ثم قال: (خذي فرصة من مسك فتطهري بها، قالت: كيف أتطهر بها؟
قال: تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله تطهري، قالت عائشة:
فاجتذبتها إليَّ، فقلت: تتبعي بها أثر الدم) وفي رواية أخرى أنها قال لها: (خذي
فرصة ممسكة [١] فتوضأي ثلاثًا) ثم إنه صلى الله عليه وسلم استحيا أو أعرض
بوجهه حياء، أي منعه الحياء بأن يصرح لها بوضع القطنة المطيبة بالمسك في
المكان الذي كان يخرج منه الدم إتمامًا للطهارة، فأخذتها عائشة وأفهمتها المراد،
والحديث في المسند والصحيحين وأكثر السنن.
وفي صحيح مسلم أن أسماء، وهي بنت شكل [٢] سألت النبي صلى الله عليه
وسلم عن غسل المحيض فقال: (تأخذ إحداكن ماءها وسدرها [٣] فتطهر فتحسن
الطهور فتصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى يبلغ شؤون رأسها، ثم تصب
عليها الماء ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها، قالت أسماء: وكيف أتطهر بها؟
قال: سبحان الله تطهري بها) سبح الله تعجبًا من عدم فهمها المراد بالإيماء
والتعريض، وطلبها للتصريح به والتكشيف، ومنعه الحياء منه، حتى كفته زوجته
عائشة ذلك، وقد ورد في وصفه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان أشد حياء من
العذراء في خدرها) (متفق عليه) .
وكان المؤمنات يسألنه عن كل ما يعرض لهن على اختلاف درجاتهن في
الحياء حتى كان بعضهن يشكون إليه هجر بعولتهن لهن اشتغالاً بالتعبد أو لغير ذلك،
وكان لا بد له من تعليمهن وإنصافهن من بعولتهن، وكان أزواجه خير مبلِّغ له
عنهن ولهن عنه في حياته، وخير مرجع في الاستفتاء النسوي بعد وفاته، ومن ذا
الذي يقول إن زوجًا واحدة كانت تقوم بهذا الواجب وحدها؟
بل كان الرجال يرجعون بعده إلى أمهات المؤمنين في كثير من أحكام الدين،
ولا سيما الزوجية، فمن كان له قرابة منهن كان يسألها دون غيرها، فكان أكثر
الرواة عن عائشة أختها أم كلثوم وأخوها من الرضاعة عوف بن الحارث وابنا
أخيها القاسم وعبد الله ابنا محمد بن أبي بكر، وحفصة وأسماء بنتا أخيها عبد
الرحمن وعبد الله وعروة ابنا عبد الله بن الزبير من أختها أسماء، وروى عنها
غيرهم من أقاربها ومن الصحابة والتابعين وهم كثيرون جدًّا.
كذلك كان أكثر الرواة عن حفصة أخوها عبد الله بن عمر وابنه حمزة وزوجه
صفية بنت عبيد وأم بشر الأنصارية ... إلخ، وأكثر الرواة عن ميمونة بنت
الحارث أبناء أخواتها، ولا سيما أعلمهم وأشهرهم عبد الله بن عباس، وأشهر الرواة
عن رملة بنت أبي سفيان ابنتها حبيبة وأخواها معاوية وعنبسة وابنا أخيها وأختها.
وهكذا نرى كل واحدة من أمهات المؤمنين قد روى عنها علم الدين كثير من
أولي قرباها، ومن النساء والرجال الآخرين حتى أن صفية اليهودية كان لها ابن أخ
مسلم روى عنها فيمن روى، فهل كان يمكن أن ينقل ذلك كله زوج واحدة يروي
عنها كل مَن روَى عن أمهات المؤمنين؟ ولعل أكثر ما سمعه النساء منهن لم يصل
إلى الذين دونوا أحاديثهن.
وجملة القول: أن أمهات المؤمنين التسع اللائي توفي عنهن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كن كلهن معلمات ومفتيات لنساء أمته ولرجالها ما لم يعلمه عنه غيرهن
من أحكام شرعية وآداب زوجية، وحِكم نبوية، وكن قدوة صالحة في الخير وعمل
البر.
٣٢- الأسباب الخاصة لكل زوج منهن بعد خديجة
١- سودة بنت زمعة رضي الله عنها:
كانت سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشية أول امرأة تزوجها
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة، وكان توفي عنها زوجها ابن عمها
بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، والحكمة في اختيارها أنها من المؤمنات
المهاجرات الهاجرات لأهليهن خوف الفتنة والتعذيب لإرجاعها عن الإسلام، ولو
عادت إلى أهلها لأكرهوها على الشرك أو عذَّبوها عذابًا نكرًا ليفتنوها عن الإسلام،
فاختار صلى الله عليه وسلم كفالتها، وفيه تأليف لبني عبد شمس أعدائه وأعداء بني
هاشم، وتشريف لبني النجار أخوال عترته وأكرم أنصاره؛ فإن أمها الشموس بنت
قيس بن زيد الأنصارية من بني عدي بن النجار، وكانت أول من ذكر له مع
عائشة، فكفلها صلى الله عليه وسلم وقد تزوجها بمكة قبل الهجرة في عامها كما
يأتي، فهو لم يجمع بمكة بين زوجين بالفعل.
٢- عائشة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنها:
روى ابن سعد بسند مرسل رجاله ثقات وابن أبي عاصم من طريق عائشة
قالت: (لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون رضي الله
عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله ألا تزوج؟ [٤] قال: من؟ قالت:
إن شئت بكرًا وإن شئت ثيبًا، قال: فمن البكر، قالت: بنت أحب خلق الله إليك
عائشة بنت أبي بكر، قال: ومن الثيب؟ قالت: سودة بنت زمعة آمنت بك
واتبعتك، قال: فاذهبي فاذكريهما علي) وفي رواية ابن سعد (قالت: أفلا أخطب
عليك، قال: بلى فإنكن معشر النساء أرفق بذلك، قالت عائشة: فجاءت فدخلت
بيت أبي بكر فوجدت أم رومان - تعني أمها - فقالت: ما أدخل الله عليكم من
الخير والبركة، قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخطب عليه عائشة، قالت: وددت لو تنتظرين أبا بكر، فجاء أبوبكر فذكرت له
ذلك فقال: وهل تصلح له وهي بنت أخيه؟ فرجعت فذكرت ذلك للنبي صلى الله
عليه وسلم، فقال: قولي له أنت أخي في الإسلام وابنتك تحل لي) وفي رواية أن
أبا بكر هو الذي قال له هذا القول وأجابه صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب، ولم
تكن نزلت في ذلك الوقت آية محرمات النكاح ولا آية {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) .
وكانت عائشة أذكى أمهات المؤمنين وأحفظهن، بل كانت أعلم من أكثر
الرجال، قال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين وعلم
جميع النساء لكان علم عائشة أفضل، بل قال أبو الضحى عن مسروق: رأيت
مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض،
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيًا
في العامة، وقال هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا
بشعر من عائشة، وقال أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه: ما أشكل علينا أمر
فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها علمًا فيه، وقال أبو الزناد: ما رأيت أحدًا أروى
لشعر من عروة بن الزبير فقيل له: ما أرواك، فقال: ما روايتي في رواية عائشة؟
ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا.
وجملة القول أن مصاهرة الرسول صلى الله عليه وسلم لأول أصحابه
وأعلاهم قدرًا وإخلاصًا له ونصرًا، على ما كان من مودة بينهما قبل الإسلام،
كانت أعظم منة ومكافأة وقرة عين له، وخير وسيلة لنشر سنته وفضائله الزوجية
وأحكام شريعته ولا سيما النسوية، ولم يرد في الصحيح عن أحد الرجال أكثر مما
روي عنها من الأحاديث إلا أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقد
دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال من السنة الثانية للهجرة.
٣- حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما:
كانت حفصة زوجًا لحسن بن حذافة وهو ممن شهدوا غزوة بدر، وتوفي بعدها
في المدينة، فلما انقضت عدتها عرضها عمر على أبي بكر فسكت، فعرضها على
عثمان بن عفان بعد موت زوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
له: ما أريد أن أتزوج اليوم؛ وإنما كان يرجو أن يزوجه النبي صلى الله عليه
وسلم بنته أم كلثوم، وقد ساء عمر ما كان من أبي بكر وعثمان وهما الكفؤان
الكريمان لبنته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يتزوج حفصة من
هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة) فلقي أبو بكر عمر
فقال: لا تجد علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر حفصة فلم أكن لأفشي
سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لتزوجتها.
نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة في السنة الثانية من
الهجرة، فكان هذا قرة عين لصاحبه ووزيره الأول وخير مكافأة له في الدنيا على
صدقه وإخلاصه، فلما توفي زوج حفصة بنت وزيره الثاني رأى أن يساوي بينه
وبين أبي بكر في تشريفهما بمصاهرته، ولم يكن في الإمكان أن يكافئهما في هذه
الحياة بشرف أعلى من هذا، فتزوج حفصة في السنة الثالثة، وقيل في السنة
الثانية، ولولا ذلك لكانت حسرة في قلب عمر، فما أجلَّ سياسته صلى الله عليه
وسلم وما أعظم وفاءه للأوفياء له ‍‍! .
ويقابل ذلك إكرامه لعثمان وعلي رضي الله عنهما بتزويجهما ببناته، وهؤلاء
الأربعة أعظم أصحابه في حياته، وخلفاؤه في إقامة ملته ونشر دعوته بعد وفاته.
٤- زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها:
زوجها النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى لمولاه (عتيقه) ومتبناه زيد
ابن حارثة، ثم زوَّجه الله إياها بعد طلاق زيد لها لحكمة لا تعلوها حكمة في زواج
أحد من أزواجه، وهي إبطال بدعة التبني التي كانت متبعة في الجاهلية، وكان
ذلك سنة ثلاث، وقيل خمس من الهجرة.
ذلك أنه كان من عادات العرب الباطلة التي اتخذت دينًا تقليديًّا أنهم يتخذون
لأنفسهم أبناء أدعياء يلصقونهم بأنسابهم، ويعطون الدعي منهم جميع حقوق الأبناء
حتى في المواريث ومحرمات النكاح، وما كان الإسلام ليقرهم على باطل، فحرَّم
الله التبني وهو يعلم ما علق بالطباع ولصق بالوجدان من تأثير هذا النسب المفتعل،
وأن إبطاله وإبطال لوازمه مما يثقل على الناس امتثاله كما هو شأن التقاليد العامة
الراسخة، إلا على أصحاب الإيمان الكامل والعزائم المرهفة الحد، الذين لا يبالون
بشعور الجماهير، ولا برميهم لمخالفهم بنعوت التحقير وقليل ما هم.
علم الله تعالى هذا فألهم نبيه من قبل إنزال وحيه عليه وإرساله إلى الناس
مبشرا ونذيرًا أن يتبنى غلامًا كان ملكًا لزوجه خديجة، فوهبته له وأشرب قلبه حبه،
على ما كان من كرهه لعادات الجاهلية الباطلة، ليجعله هو القدوة الصالحة في
إبطال التبني وكل ما كان له من الأحكام، وكان هذا الغلام زيد بن حارثة، ومن
زيد بن حارثة؟
كان زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي من كرام العرب وكانت أمه سعدى بنت
ثعلبة من بني معن بن طيئ، وقد زارت قومها وهو معها فأغار عليهم جيل لبني
العين بن حر فسبوه وهو غلام يفقه، واحتملوه إلى عكاظ فعرضوه للبيع فاشتراه
حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد في الجاهلية، فلما تزوجها رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهبته إياه لما رأت من إعجابه بأدبه وفطرته الزكية، وكان أبوه
ينشده وينشد فيه الشعر موصيًا أولاده بالبحث عنه، فحج ناس من قومه فرأوا زيدًا
بمكة فعرفوه وعرفهم، وحمَّلهم شعرًا في حنينه إلى قومه فبلغوا والده حارثة خبره،
فخرج هو وأخوه كعب بفدائه فقدما مكة فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل
لهما هو في المسجد، فدخلا عليه فقالا: (يا ابن عبد المطلب يا ابن سيد قومه أنتم
أهل حرم الله تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا عندك، فامنن علينا
وأحسن في فدائه فإنا سندفع لك، قال: وما ذاك؟ قالوا: زيد بن حارثة، فقال:
أو غير ذلك؛ ادعوه فخيروه فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فوالله
ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء.
قالوا: فدعاه فقال: هل تعرف هؤلاء، قال: نعم، هذا أبي وهذا عمي، قال:
فأنا من قد علمت وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما، فقال زيد: ما أنا
بالذي أختار عليك أحدًا، أنت مني بمكان الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيد أتختار
العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: قد رأيت من هذا الرجل
شيئًا ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال:
اشهدوا أن زيدًا ابني يرثني وأرثه، فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما،
فدعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام) رواه ابن سعد، ونحوه في سيرة ابن
إسحاق.
وروى الحاكم خبر أسره ومجيء والده وأهله في طلبه مطولاً، وفيه أنه كان
بعد النبوة وأن أباه أسلم؛ ولكن هذه الرواية لا تصح.
ومن تدبر خبر اختيار زيد بن حارثة للرق عند محمد صلى الله عليه وسلم
على الحرية عند أبيه وقومه - وهو كخديجة أعلم الناس بأخلاقه وأعماله - يحكم
حكمًا عقليًّا وجدانيًّا بأن محمدًا كان من قبل النبوة آية من أكبر آيات الله تعالى في
فضائله وآدابه، فكيف يكون بعدها؟ وإذا كان بعض علماء الإفرنج يستدل بإيمان
خديجة به وتقديسها لفضائله وفواضله من قبل البعثة على أنه كان صادقًا في دعوى
النبوة، لا طالبًا لمنفعة أو رياسة، فأحرى بهم أن يعدوا إيثار زيد له على حريته
وأبيه وأمه وعشيرته برهانًا مثل ذلك البرهان على صدقه صلى الله عليه وسلم
وكماله بل أظهر منه.
تضاعف حب النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بهذا الإيثار وأعتقه وتبناه،
وكان التبني أعظم شيء مستطاع في تكريمه وتعظيم قدره، وقد كان يلقب بحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حبيبه، وفي صحيح مسلم: أن عبد الله بن
عمر كان يقول: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزل في القرآن
{ادْعُوَهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} (الأحزاب: ٥) وفي الصحيحين عن ابن
عمر أنه سُمع يقول: بعث رسول الله بعثًا وأمَّر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس
في إمرته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن تطعنوا في إمرته فقد
كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقًا للإمرة، وإن كان لمن
أحب الناس إلي، وإن هذا من أحب الناس إلي من بعده) وفي رواية لمسلم أنه قال
هذا على المنبر، وأن لفظه في زيد وابنه (وأيم الله إن كان لأحب الناس إلي) .
وروي عن الشعبي أنه قال: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قط
وفيهم زيد بن حارثة إلا وأمره عليهم، أقول وإنما طعن بعض الناس في إمارة زيد
على السرايا؛ لأنه كان عتيقًا فكيف يقدمه على كبراء المهاجرين والأنصار؟ وأما
طعنهم في إمارة ولده حارثة بعده فلأنه كان صغير السن لم يبلغ العشرين؛ ولكن
هذا من أفضل سياسته صلى الله عليه وسلم في خفض استعلاء العصبية وكبرياء
النسب (الأرستقراطية) .
بعد هذه المقدمة أقول: لما أراد الله تعالى أن يبطل دعاية التبني وأحكامها
الجاهلية أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يزوج زينب بنت جحش بن رباب بنت
عمة النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب - لزيد بن حارثة مولاه، وهو
عز وجل يعلم أنهما لا يتفقان على هذه الزوجية؛ لأنها تتكبر عليه بالطبع، وهو
عزيز النفس لا يحمل ذل الكبرياء عليه.
فذهب صلى الله عليه وسلم إلى زينب فقال: (إني أريد أن أزوجك زيد بن
حارثة فإني قد رضيته لك، قالت: يا رسول الله ولكني لا أرضاه لنفسي، وأنا أيم
قومي وبنت عمتك فلم أكن لأفعل، فنزلت الآية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ
ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} (الأحزاب: ٣٦) .
فقالت زينب للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أطعتك فاصنع ما شئت، فزوجها
زيدًا ودخل عليها، فكانت تغلظ له القول وتتعظم عليه بالشرف فيذهب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم شاكيًا منها ويستأذنه في طلاقها، فيقول له صلى الله عليه وسلم
أمسك عليك زوجك واتق الله) وهو يعلم أنه لا بد له من طلاقها، وأن الله يأمره
بالتزوج بها بعده إبطالاً لبدعة التبني وما كان من تحريم الجاهلية لامرأة الدعي
كامرأة الابن الحقيقي؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يظهر له ولا لغيره،
وكان بمقتضى الشعور الطبيعي يخشى ما يقوله الناس ولا سيما المشركين، إن
محمدًا تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (الأحزاب: ٣٧) أي واذكر أيها الرسول إذ تقول للذي أنعم
الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالعتق والإكرام] أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [
في معاشرتها بالمعروف ولا تطلقها] وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ [
أن يقولوا تزوج امرأة ابنه أو متبناه] وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ [ولا تبالي بما يقول
الناس في تنفيذك لشرعه وإقامتك لدينه] فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا [
الوطر: الحاجة المهمة أو التي ليس بعدها مأرب، وقضاؤه إياه عبارة عن
تطليقها بمحض إرادته ورغبته؛ لأنه لم يبق له حاجة فيها، ولا رجاء في معاشرتها
بالمعروف، وتنكير (الوطر) هنا دون إضافته إلى زيد للدلالة على أنه شيء أراده
الله تعالى منه وسخره له، وهذا من دقائق البلاغة في تحديد المعاني باللفظ المفرد
النكرة، وقوله تعالى:] زَوَّجْنَاكَهَا [نص في أن هذا التزويج كان من الله تعالى لما
ذكر من حكمة التشريع فيه، ولم يكن برغبة النبي صلى الله عليه وسلم وميله.
وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم لم يعقد عليها كما عقد على سائر أزواجه؛
لأن تزويج ربه إياه بها أقوى وأثبت، والعقد بعده لغو لأنه تحصيل حاصل.
ثم قال: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} (الأحزاب:
٣٧) وهو تصريح بعلة تزويجه إياها، أي: لأجل أن لا يجد أحد من المؤمنين
في نفسه أدنى ضيق صدر ولا مبالاة بلوم في التزوج بنساء أدعيائهم بالتبني،
وكفى برسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة في ذلك] إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً [
فطلقوهن بإرادتهم لعدم بقاء شيء من الرغبة لهم فيهن كما فعل زيد] وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ
مَفْعُولاً [أي: وكان قضاؤه في التكوين والتشريع نافذًا لا مرد له، ولا رأي لأحد
فيه.
ثم أكد الله تعالى هذا الأمر برفع الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه؛
لأنه هو الذي قضاه واختاره له، فما كان له أن يختار لنفسه غيره، ولا أن يخشى
غير الله في تنفيذه، وأن تلك سنته تعالى في رسله بما يبلغون من رسالته وينفذون
من أحكامه ويخشونه ولا يخشون غيره فقال:
{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن
قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ
أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} (الأحزاب: ٣٨-٣٩) أي ما كان عليه صلى الله
عليه وسلم وهو نبي الله ورسوله أدنى حرج وضيق فيما فرضه وقسمه الله من مثل
هذا الزواج من التشريع وتنفيذ الأحكام وفاقًا لسنته تعالى في إخوانه النبيين الذين
خلوا من قبله، وكان أمر الله الذي يريده من إقامة شرعه يجري على حكم القدر
وهو النظام والتقدير الذي يكون به المسبب على قدر السبب، والمعلول تابعًا للعلة،
كما وقع في إبطال التبني، ولما كان هذا من تبليغ الرسالة الإلهية كان من شأن
رسل الله أن يخشوا الله ولا يخشوا أحدًا غيره في تبليغ رسالته، وكفى بالله رقيبًا
عليهم ومحاسبًا لهم، فلا يبالون بغيره.
وقفى على هذا بنفي أبوة محمد صلى الله عليه وسلم لزيد ولغيره، والرد على
من قالوا إنه تزوج حليلة ابنه، كما رواه الترمذي عن عائشة تأكيدًا لما بينه في أول
السورة من نفي بنوة الأدعياء والأمر بنسبتهم إلى آبائهم، أو وصفهم بأخوة الدين
وولاية العتق فقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: ٤٠) .
فرية لبعض الرواة في تفسير
{وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب: ٣٧)
لقد كان من مثار العجب، وغرائب سفاه العقل وسوء الأدب، أن خطر لبعض
وضاع الحديث، وصناع الروايات في التفسير، أن يحرف هذه الآيات الجلية كلها
عن مواضعها، ويحملها على غرض ينأى عنه منطوقها، ويتبرأ منه مفهومها،
وتأباه حكمة التشريع فيها، ويستلزم الطعن بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه، والنيل من خلق رسول الله وأدبه، الذي قال الله له فيه:
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: ٤) فاخترع لها خبرًا زعم فيه أن النبي صلى الله
عليه وسلم مر ببيت زيد وهو غائب فرأى زينب فوقع في قلبه منها شيء فقال:
(سبحان مقلب القلوب) فسمعت التسبيحة زينب، فنقلتها إلى زيد فوقع في قلبه أن
يطلقها، فكان هذا سببًا لاستئذانه النبي صلى الله عليه وسلم في طلاقها، وزعموا
أن هذا هو المراد من قول الله تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب: ٣٧) وهذه الرواية لم يثبت لها سند؛ وإنما نقلها بعض المفسرين
كعادتهم في نقل كل ما يسمعون، وقد صرح بتلفيقها المحققون؛ لأنها مخالفة للآيات
الصريحة المحكمة من جهات كثيرة، ومنافية للعقول المستقلة في الفهم والحكم أيضًا؛
فإن تزويج النبي صلى الله عليه وسلم زينب لمولاه، وحبه وربيبه ومتبناه، يكون
بحسب الطباع الكريمة مانعًا من الميل إلى التزوج بها، وناهيك بما اجتهد به من
إقناعها، وهو يعرفها من صغرها، وهذا إذا كان تزويجه لها تزويجًا عاديًّا ليكونا
زوجين ما بقيا، فكيف وهو صلى الله عليه وسلم يعلم أنه تزويج موقت بالنسبة إلى
عاقبته وغايته التي يجهلها كل منهما، ثم إنه على حسب زعمهم أمر واقع في نفسه،
وتنسمته زينب بالقرينة من تسبيحه، ولفظ ذلك التسبيح لا يدل عليه، ولم يعلم به
الناس فيخشى أن يخوضوا فيه، ويعاتبه ربه على خشيته إياهم وينزل في ذلك
قرآنًا يتلى ويتعبد به، ثم إن زيدًا كان يعلم بمعاشرته له من سن الصبا أن نفسه من
أجل وأكبر من أن يلم بها ذلك، وإن كان لا ينافي عصمة النبوة، ولولا هذا العلم
بعلو نفسه وسمو فضائله لما آثر الرق عنده على الحرية عند والده وفي قومه، وقد
أبى الحافظ ابن كثير ذكر هذه الرواية السخيفة في تفسيره لتجنبه رواية
الموضوعات، وذكر الأباطيل الواضحة فيه، وإن كان ينقل الأحاديث الضعيفة
المعقولة أحيانًا، وشنَّع ابن العربي وغيره على ناقليها.
لولا أن دعاة النصرانية يذكرون هذه الفرية في كل كتاب يلفقونه في الطعن
على الإسلام والنيل من مصلح البشر، وأفضل النبيين والرسل، لما ذكرتها في هذه
الرسالة الوجيزة، وإن لشيخنا الأستاذ الإمام مقالة خاصة في تفنيدها بالمعقول
والمنقول، ولي مقالة أخرى في إيضاح مقالته والرد على أديب نصراني انتقدها،
وقد نشرتهما في المجلد الثالث من المنار، وطبعتها مع تفسير الفاتحة وبعض
مشكلات القرآن.
ولو كان عند هؤلاء الدعاة المبشرين عرق حياء ينبض، لمنعهم الجِذْع الكبير
الذي في أعينهم عن رؤية قذاة ضئيلة في عين غيرهم! أي لمنعتهم قصة داود النبي
الذين يصلون ويعبدون الله بمزاميره مع امرأة أوريا الحثي إذ رآها كما يروي كتابهم
المقدس تغتسل فأعجبته فاستحضرها وضاجعها، فحملت وأمر بجعل زوجها في
مقدمة الحرب وتعريضه للقتل فقتل لينفرد بها من دونه، كما هو مفصل في الفصل
١١ من سفر صموئيل الثاني، والمسلمون يبرءون نبي الله داود عليه السلام مما
ترويه عنه كتب قومه المقدسة عندهم وعند النصارى، وقصة داود في سورة (ص)
لا تدل على اقترافه الفاحشة وجريمة القتل إرضاء للشهوة حاشاه الله من ذلك.
٥- هند أم سلمة المخزومية رضي الله عنها:
هي هند أم سلمة بنت أبي أمية المخزومية كان أبوها من أجواد العرب
المشهورين، وتزوجت ابن عمها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وهو من
السابقين الأولين إلى الإسلام، أسلم بعد عشرة أنفس وهو ابن عمة رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، وكان أول من هاجر إلى الحبشة، وكانت معه
وولدت له سلمة في أثناء ذلك، ثم عاد إلى مكة، ولما أراد الهجرة بها إلى المدينة
صدها قومها وانتزعوها منه هي وابنها سلمة، ثم انتزع بنو عبد الأسد آل زوجها
ابنها سلمة من آلها بالقوة حتى خلعوا يده، فكانت كل يوم تخرج إلى الأبطح تبكي
حتى شفع فيها شافع من قومها فأعطوها ولدها فرحّلت [٥] بعيرًا ووضعت ابنها في
حجرها وهاجرت عليه، فكانت أول امرأة هاجرت إلى الحبشة، ثم كانت أول
ظعينة هاجرت إلى المدينة، وكانت تُجل زوجها أيما إجلال حتى أن أبا بكر وعمر
خطباها بعد وفاته من جرح أصابه في غزوة أحد فلم تقبل، وعزَّاها النبي صلى الله
عليه وسلم عنه بقوله: (سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيرًا) فقالت:
ومن يكون خيرًا من أبي سلمة؟ فلم ير لها عزاء ولا كافلاً لها ولأولادها ترضاه
غيره صلوات الله تعالى عليه وعلى آله، ولما خطبها لنفسه اعتذرت بأنها مسنة وأم
أيتام وذات غيرة، فأجاب صلى الله عليه وسلم بأنه أكبر منها سنًّا، وبأن الغيرة
يذهبها الله تعالى، وبأن الأيتام إلى الله ورسوله، فاجتمع لها من الفضائل: النسب
الشريف، والبيت الكريم، والسبق إلى الإسلام، وعلو الأخلاق ولا سيما الوفاء
وكفالة اليتيم، وكل منها سبب صحيح لاختيار صاحب الخلق العظيم المبعوث لإتمام
مكارم الأخلاق لهذه المرأة الفضلى أن تكون من أزواجه الطاهرات، وأمهات
المؤمنين ومعلمات المؤمنين.
على أن لها فوق ذلك فضيلة أخرى هي جودة الفكر وصحة الرأي، وحسبك
من الشواهد على هذا استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لها في أهم ما حزنه
وأهمه من أمر المسلمين في مدة البعثة، وما أشارت به عليه، ذاك أن الصحابة
رضي الله عنهم كان قد ساءهم صلح الحديبية الذي عقده صلى الله عليه وسلم مع
المشركين على ترك الحرب عشر سنين بالشروط المعلومة التي تدل في ظاهرها
على أن المسلمين مغلوبون، ولم يكونوا بمغلوبين وإنما حبه صلى الله عليه وسلم
للسلم ولاختلاط المسلمين بالمشركين - وكان دونه خرط القتاد - وكراهته للحرب
التي أكرهه المشركون عليها بعداوتهم - هما اللذان حببا إليه قبول شروطهم لهم في
الصلح، وكان من أثر استياء المسلمين من شروطهم أن أمرهم صلى الله عليه وسلم
بالتحلل من عمرتهم بالحلق أو التقصير لأجل العود إلى المدينة، فلم يمتثل أمره أحد،
ولم يقع مثل هذه المخالفة من قبل ولا من بعد، فلما استشارها رضي الله عنها في
ذلك وقال: (هلك الناس) هونت عليه الأمر، وأشارت عليه بأن يخرج إليهم
ويحلق رأسه وجزمت بأنهم لا يلبثون أن يقتدوا به؛ لأنهم يعلمون أنه صار أمرًا لا
مرد له، ولأن تأثير العمل في القدوة أقوى من تأثير القول وحده، وكذلك كان،
خرج فأمر الحلاق بحلق رأسه، فتنافسوا في التبرك بشعره، وبادروا إلى الاقتداء
به. وكانت من أعلم أزواجه، وروى عنها كثيرون من الرجال والنساء، فهي تلي
عائشة في كثرة الرواية والعلم وتفضلها في الروية والرأي.
٦- جويرية بنت الحارث رضي الله عنها:
وفي سنة خمس تزوج برة بنت الحارث سيد بني المصطلق وسماها جويرية،
وكان أبوها هو وقومه قد ساعدوا المشركين على المؤمنين في غزوة أحد سنة أربع،
ثم بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجمع الجموع لقتاله، فخرج فالتقى الجمعان
في المريسيع وهو ماء لخزاعة، فأحاط بهم المسلمون وأخذوهم أسرى بعد قتل
عشرة منهم، وكانت برة بنت سيدهم في الأسرى، فكاتب عليها من وقعت في
سهمه [٦] ، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فتعرفت إليه بأنها بنت سيد قومها،
وذكرت لها سَبْيها واستعانته على كتابتها لتحرير نفسها، فقال: (أو خير من ذلك؟
أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك) قالت: نعم، ففعل، فقال المسلمون: أصهار رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقوا جميع الأسرى والسبايا فأسلموا كلهم، فكانت أعظم
امرأة بركة على قومها، وكان لهذا العمل أحسن التأثير في العرب كلها، وروي أن
أباها جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنتي لا يسبى مثلها فخل سبيلها،
فأمره صلى الله عليه وسلم أن يخيرها فسُرَّ بذلك، فخيرها فاختارت الله ورسوله،
وكانت من أعبد أمهات المؤمنين، وروى عنها ابن عباس وجابر وابن عمر
وعبيد بن السباق وابن أختها الطفيل وغيرهم.
٧- صفية بنت حيي الإسرائيلية رضي الله عنها:
وفي سنة ست تزوج صفية بنت حيي بن أخطب الإسرائيلية من ذرية نبي الله
هارون أخي موسى عليهما السلام، كانت من بني النضير وأُسِرتْ بعد قتل زوجها
في غزوة خيبر، فأخذها دحية في سهمه، فقال أهل الرأي من الصحابة: يا رسول
الله إنها سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك، فاستحسن رأيهم وأبى أن تذل
هذه السيدة بالرق عند من تراه دونها، فاصطفاها وأعتقها وتزوجها، كراهة لرق
مثلها في نسبها وقومها، ووصل سببه ببني إسرائيل لعله يخفف مما كان من
عداوتهم له، وروى الإمام أحمد أنه خيَّرها أن يعتقها وتكون زوجته أو يلحقها بأهلها،
فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته، وكان بلال قد مرَّ بها وبابنة عم لها على قتلى
اليهود فصكت ابنة عمها وجهها وحثت عليه التراب وهي تصيح وتبكي، فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم: (أنُزعَتْ الرحمة من قلبك حتى تمر بالمرأتين على
قتلاهما) رواه ابن إسحاق، وفي حديث الترمذي أن صفية بلغها أن عائشة وحفصة
قالتا: نحن أكرم على رسول الله منها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:
(ألا قلت: وكيف تكونان خيرًا مني وزوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى)
وقد لقبتها زينب مرة باليهودية احتقارًا لها، فهجرها النبي صلى الله عليه وسلم
شهرًا كاملاً عقوبة لها، فتأمل هذه الشمائل المحمدية والتربية الإسلامية، روى
عنها ابن أخيها وموليان لها وعلي بن الحسن بن علي عليهم السلام وغيرهم.
٨- أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأموية رضي الله عنها:
وفي سنة ست أو سبع تزوج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأموي أشد أعدائه
تحريضًا عليه وحربًا له صلى الله عليه وسلم، وكان قومه بنو عبد شمس أعداء
بني هاشم قوم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان تزوُّجُه بها تأليفًا له ولقومه، وقد
كانت أسلمت بمكة وهاجرت مع زوجها عبد الله بن جحش إلى الحبشة، فتنصر
زوجها هنالك وفارقها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها له
وأصدقها عنه أربعمائة دينار مع هدايا نفيسة، ولما عادت إلى المدينة بنى بها،
ولما بلغ أبا سفيان الخبر قال: هو الفحل لا يقذع أنفه، فهو لم ينكر كفاءته صلى الله
عليه وسلم، بل افتخر به؛ ولكنه ما زال يقاتله حتى يئس بفتح مكة، وكان من
تأليفه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أن قال: (من دخل المسجد الحرام فهو آمن،
ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) وقد آمن يومئذ رياء وتقية، ثم كان من تأليفه
له صلى الله عليه وسلم بعد غزوة حنين أن أعطاه غنيمة هوازن مائة ناقة، فهذا
التأليف بعد التأليف لأبي سفيان يدل على أن تزوجه صلى الله عليه وسلم ببنته كان
لمثل ذلك على أن تركها أرملة مهينة بعد مصابها بتنصر زوجها وعداوة أبيها وأمها
لم يكن يهون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عنها ابنتها وأخواها وابن
أخيها أو ابن أختها ومولياها وآخرون.
٩- ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها:
وفي أواخر سنة سبع تزوج ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية وكان اسمها
برة فسماها ميمونة، وكان ذلك في إبان عمرة القضاء وهي آخر أزواجه أمهات
المؤمنين زواجًا وموتًا كما في بعض الروايات، وقد قالت فيها عائشة: أما إنها
كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم. ولم أقف على سبب ولا حكمة خاصة لتزوجه
بها؛ ولكن ورد أن عمه العباس رغَّبه فيها وهي أخت زوجه لبابة الكبرى أم الفضل
وهو الذي عقد له عليها بإذنها، ولولا أن العباس رأى في ذلك مصلحة عظيمة لما
عني به كل هذه العناية لإرضاء امرأته، روى عنها أبناء أخواتها ومواليهم
وآخرون أجلهم ابن عباس.
وجملة القول: إنه صلى الله عليه وسلم راعى المصلحة في اختيار كل زوج من
أزواجه عليهن الرضوان في التشريع والتأديب والمودة والتأليف وكفالة الأرامل
والأيتام، فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم، وعلَّم أتباعه احترام النساء وإكرام
كرائمهن والعدل بينهن، وقرر الأحكام بذلك وترك من بعده تسع أمهات للمؤمنين
يعلمن نساءهم من الأحكام ما يليق بهن مما ينبغي أن يتعلمنه من النساء دون الرجال،
ولو ترك واحدة فقط لما كانت تغني في الأمة غناء التسع.
ولو كان صلى الله عليه وسلم أراد بتعدد الزواج ما يريده الملوك والأمراء من
التمتع بالحلال فقط لاختار حسان الأبكار على أولئك الثيبات المكتهلات منهن، كما
قال لمن استشاره في التزوج بامرأة ثيب: (هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك) وفي
رواية زيادة (وتضاحكها وتضاحكك) وهو من حديث جابر في الصحيحين.
وأذكِّر القارئ بأن تعدد الزوجات في ذلك العصر كان من الضروريات لكثرة
القتلى من الرجال وحاجة نسائهم إلى من يكفلهن؛ لأن أكثر أهلهن من المشركين،
فالمصلحة فيه للنساء لا للرجال إما بالكفالة والنفقة، وإما بالشرف والتكرمة؛ ولذلك
كن يسعين أو يسعى الآباء أو غيرهن من الأقربين لمن يقتل زوجها أو يموت بكفؤ
يتزوجها وإن كان له زوج أو أزواج غيرها كما فعل عمر بعرض بنته حفصة على
أبي بكر وعمر.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان النساء يعرضن أنفسهن عليه، كما
يعرضهن بعض أولي القربى منهن، وسيأتي بعض الروايات في ذلك، فهل يتصور
أحد أن تعدد الزوجات كان في ذلك العهد هضمًا لحقوقهن، وقد أعطاهن الإسلام من
الحقوق والتكريم ما أعطاهن، وناهيك بشرف التزوج برسول الله صلى الله عليه
وسلم وسيأتي ما يؤيد ذلك كله.
٣٣- سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في معاشرة نسائه
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الكامل والأسوة الحسنة للرجال في
حسن معاشرة أزواجه بالمعروف، والقسمة بينهن بالعدل في كل من المبيت والنفقة
واللطف والتكريم، وفي احتمال غضبهن وغيرتهن، وتنازعهن بالأناة والرفق
والموعظة الحسنة، وكان يزورهن كلهن صباحًا للوعظ والتعليم، ومساء للمجاملة
والمؤانسة، وكن يجتمعن معه في بيت كل منهن، وكان يخدم في بيته ويقضي
حوائجه بيده، قالت عائشة: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة
له ولا خادمًا قط) [٧] (وسُئلت: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟
قالت: كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة) [٨] ولها
أحاديث أخرى مفصلة في خدمته في بيته وقيامه بحاجة نفسه، ومن وصفها له:
(كان ألين الناس وأكرم الناس، وكان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان بسامًا) [٩] .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر ضرب القرعة بينهن، إذ لا يمكن
السفر بهن كلهن، وترجيح إحداهن يسخط سائرهن، وإن كان فيها من المرجحات
ما يقتضي الترجيح، إذا لا يتساوى النساء في استعدادهن للسفر ومشقاته؛ ولكنه
لما حج أخذهن كلهن معه.
ولما مرض مرضه الأخير شق عليه أن ينتقل بين بيوتهن كل يوم كما كان
يفعل في حال صحته، فكان يسأل (أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟) يريد يوم عائشة،
فأذن له أزواجه كلهن أن يكون حيث شاء، فاختار بيت عائشة وفيه توفي [١٠] .
وروي عنها أنه بعث في مرضه إلى نسائه فاجتمعن فقال: (إني لا أستطيع
أن أدور بينكن، فإن رأيتن أن تأذنَّ لي أن أكون عند عائشة، فأذِنَّ له) [١١] ومن
حكمة ذلك أن يدفن في بيتها، وقد كان صرح بأنه يدفن حيث يموت.
ولما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة تبغي رضاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم عنها [١٢] وفي رواية عنها: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا
وهو يطوف علينا جميعًا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو
يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنَّتْ وفرقت، أي: خافت
أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله يومي لعائشة، فقبل
رسول الله ذلك منها) [١٣] .
وقد كان لعائشة بنت الصديق رضي الله عنهما من قلب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما لم يكن لأحد من نسائه بعد خديجة رضي الله عنها، فكانت الحبيبة
بنت الحبيب، وكانت هي أكثرهن إدلالاً عليه، وفي الصحيحين عنها قالت: قال
لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم إذا كنت راضية عني وإذا كنت
علي غضبى، فقلت: من أين تعرف ذلك؟ قال: أما إذا كنت عني راضية فإنك
تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم! قلت: أجل،
والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك) .
وكان هذا الحب الطبعي الذي تعددت أسبابه أعظم دليل على عدله صلى الله
عليه وسلم بين أزواجه، فهو لم يكن يفضلها على أقلهن مزايا في الخلق والخلق
والذكاء والنسب بشيء من النفقة أو المبيت أو حسن العشرة، ولذلك كان يقول في
قسمه بينهن بالعدل: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) [١٤]
يعني الحب ولوازمه الطبيعية غير الاختيارية، وما ابتلي الرجال بشيء أبعث
على الجور والمحاباة كفتنة حب النساء؛ فإن الرجل الضعيف الدين والإرادة ليظلم
أولاده ونفسه مرضاة لمن يحبها ولو أجنبية فكيف لا يظلم ضرتها؟
٣٤- تغاير نسائه صلى الله عليه وسلم
وتحزبهن ومناشدتهن إياه العدل
لما كان من طباع البشر أن العدل بينهم يغريهم بالمطالبة بأكثر من حقوقهم،
والظلم يسكتهم على ما دونها ولا سيما النساء، ورأى نساء النبي صلى الله عليه
وسلم أنه لا يفضل إحداهن على غيرها بشيء ما، إلا أن الناس يتحرون بهداياهم له
يوم عائشة - رأين أن في هذا هضمًا لحقوقهن وكرامتهن، وإن كان هذا الهضم ليس
من فعله صلى الله عليه وسلم وكان ينالهن من الهدايا كلهن فطالبنه بإنصافهن،
وأغلظن في المطالبة وألحفن حتى أسكتهن بما يكرهن.
قالت عائشة: إن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين، فحزب
فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء النبي
صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله صلى الله عليه
وسلم عائشة، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعث
صاحب الهدية بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، فكلَّم حزب
أم سلمة (أم سلمة) فقلن لها: كلِّمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس
فيقول من أراد أن يُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فليهدها إليه حيث
كان من بيوت نسائه، فكلمته أم سلمة بما قلن فلم يقل لهن شيئا، فسألنها فقالت: ما
قال لي شيئًا، فقلن لها: كلميه، قالت: فكلمته حين دار إليها أيضًا فلم يقل لها شيئًا،
فسألنها فقالت: ما قال لي شيئًا، فقلن لها: كلميه حتى يكلمك، فدار إليها فكلمته
فقال لها: (لا تؤذيني في عائشة فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة)
قالت فقلت: أتوب إلى الله من أذاك يا رسول الله. ثم إنهن دعون فاطمة بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول:
(إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر، فكلمته فقال: يا بنية ألا تحبين ما
أحب؟ قالت: بلى، فرجعت إليهن فأخبرتهن، فقلن: ارجعي إليه، فأبت أن ترجع،
فأرسلن زينب بنت جحش فأتته فأغلظت، وقالت: إن نساءك ينشدنك العدل في بنت
أبي قحافة فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبتها، حتى أن رسول الله
لينظر إلى عائشة هل تكلم؟ فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها، قالت:
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وقال: إنها بنت أبي بكر) [١٥] يعني أنها
مثل أبيها في الذكاء والعقل والحجة.
ورواية مسلم عنها: (أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنت عليه
وهو مضطجع معي في مرطي، فأذن لها فقالت: يا رسول الله إن أزواجك
أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة - وأنا ساكتة - فقال لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ قالت: بلى، قال: فأحبي
هذه، فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن: ما
نراك أغنيتِ عنَّا من شيء، فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له:
إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة، فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبدًا،
قالت: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وهي التي كانت
تساميني منهن في المنزلة عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أر قط امرأة خيرًا في
الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثًا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد ابتذالاً
لنفسها في العمل الذي تصدق به وتتقرب به إلى الله تعالى ما عدا سورة من حدة فيها
كانت تسرع منها الفيئة) (أي الرجعة إلى الحلم) ... إلخ.
ولها مع زينب مهاترة أخرى ذكرها أنس ملخصها أن نساء النبي كن يجتمعن
كل ليلة في بيت صاحبة النوبة منهن، فدخلت زينب بيت عائشة فمد إليها النبي
صلى الله عليه وسلم يده، فقالت عائشة: إنها زينب فكف النبي صلى الله عليه وسلم
فتقاولتا حتى ارتفعت أصواتهما، فمر أبو بكر فسمعهما فقال: يا رسول الله احثُ
في أفواههن التراب، وجاءت الصلاة فخرج صلى الله عليه وسلم ولم يكلمهما؛
ولكن أبا بكر عاد بعد الصلاة فعنف عائشة [١٦] وهو المشهور بالحلم، وأين حلمه
من حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
٣٥- غيرة أزواجه صلى الله عليه وسلم
وصبره عليهن فيها
الغيرة الزوجية غريزة أو عاطفة في الرجال والنساء، وهي فيهن أشد ولا
سيما إذا تعددن عند الرجل، وكان يحابي بعضهن على بعض، ولئن كان أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم كلهن يغرن من عائشة لعلمهن بأنها أحب إليه، فلهي
كانت أشدهن غيرة عليه، حتى كانت تغار من خديجة زوجه قبلها، وهي لم ترها
كما تقدم، فكانت على شدة ما ترى من عدله ومساواته بين نسائه تطيع ما يوسوس
إليها الشيطان إذا خرج من عندها في ليلتها أنه يذهب إلى غيرها، حتى تبعته مرة
من حيث لا يشعر، فإذا هو قد ذهب إلى البقيع (مقبرة المدينة) يستغفر للمؤمنين
والمؤمنات والشهداء، قالت: فقلت: بأبي أنت وأمي! أنت في حاجة ربك وأنا في
حاجة الدنيا، فانصرفت فدخلت حجرتي ولي نفس عالٍ ولحقني رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقال: (ما هذا النفس يا عائشة؟ فقالت: بأبي أنت وأمي أتيتني
فوضعت ثوبيك، ثم لم تستتم أن قمت فلبستها فأخذتني غيرة شديدة ظننت أنك تأتي
بعض صويحباتي حتى رأيتك بالبقيع تصنع ما تصنع، فقال: يا عائشة أكنت
تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله) [١٧] وخرج مرة قالت: (فغرت عليه أن
يكون أتى بعض نسائه فجاء فرأى ما أصنع فقال: أغرت؟ فقلت: وهل مثلي لا
يغار على مثلك؟ فقال: لقد جاءك شيطانك، قلت: أومعي شيطان؟ قال: نعم،
قلت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم، قلت: ومعك؟ قال: نعم ولكن ربي أعانني عليه
حتى أسلم) [١٨] يعني أنني أسلم من طاعة وسوسته، أو هو أسلم فلا يأمر بشر.
وقالت: (ما رأيت صانعة طعام مثل صفية، صنعت لرسول الله صلى الله
عليه وسلم طعامًا وهو في بيتي فأخذني أفكل - هو بالفتح: الرعدة والقشعريرة -
فارتعدت من شدة الغيرة فكسرة الإناء ثم ندمت، فقلت: يا رسول الله، ما كفارة ما
صنعت؟ قال إناء مثل إناء وطعام مثل طعام) [١٩] .
وقالت تعيب صفية لتغيرها منها: (يا رسول الله حسبك من صفية قصرها،
فقال لها: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) [٢٠] أي أن كلمتها في
قبحها وخبثها لو ألقيت في البحر لأثرت فيه كله وخبث بها.
٣٦- تواطؤ أزواجه وتظاهرهن على الكيد له
صلى الله عليه وسلم
شرب مرة عسلاً عند زينب كان أهدي إليها، وكان يحبه فأغرت عائشة به
جميع نسائه فتظاهرن على الكيد له حتى لا يعود إلى شرب العسل عندها بأن
تواطأن على أن ينكرن رائحته مما شرب ففعلن، وكان شديد الكراهة للرائحة
الخبيثة فامتنع من شرب ذلك العسل عندها وحرمه على نفسه، فلما علم بكيدهن
وكذبهن عليه غضب عليهن كلهن [٢١] .
وتواطأت عائشة مع حفصة في حادثة تحريم مارية القبطية، وكان سببه
غضب حفصة لاجتماعه بها في بيتها فاسترضاها بتحريمها عليه وأمرها أن تكتم
الخبر فأفشته لعائشة، وروي أنه أسر إليها حديثًا آخر في مسألة الخلافة وتظاهرتا
- أي تعاونتا - عليه في ذلك، وفيهما نزل قوله تعالى معاتبًا له ومنذرًا لهن:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ
النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ
وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ * إِن
تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ
وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً
خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} (التحريم: ١-٥) .
حاصل معنى الآيات أنه لا ينبغي لك أيها النبي أن تبالغ في مرضاة أزواجك
فتبلغ منها أن تحرم لأجلهن ما أحل الله لك، والله غفور رحيم، غفر لك هذه فلا
تعودَنَّ إلى مثلها، وإن الله قد شرع لكم كفارة أيمانكم ومنها يمين تحريم المرأة أو
الأمة، فهو كاليمين بالله تعالى - أي يكفره إطعام عشرة مساكين مرة واحدة أو
كسوة كل منهم ثوبًا أو عتق رقبة، فمن لم يستطع إحدى هذه الثلاث وهو مخير فيها،
فصيام ثلاثة أيام - والله هو العليم بأفعالكم ونياتكم فيها الحكيم بما يشرعه لكم فيما
يعرض لكم من مقتضى الطباع البشرية فيربيكم به ويزكيكم، ثم ذكر ذنب التي
أفشت سره صلى الله عليه وسلم وهي حفصة بما هو ظاهر المعنى في الجملة،
وليس تفصيله من موضوع هذه الرسالة، وأرشدها هي والتي أفشت لها السر وهي
عائشة إلى التوبة من ذنبهما وما صغت أي مالت إليه قلوبهما، ووافق أهواءهما من
تلك الواقعة، وأنذرهما إن أصرتا على التظاهر، أي التعاون والتمالؤ على الرسول
صلى الله عليه وسلم بأن الله هو مولاه الذي ينصره ويتولاه في كل أمر وكذلك
جبريل وصالحو المؤمنين، والمراد بهم هنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما،
والملائكة بعد ذلك كله يظاهرونه ويؤيدونه صلى الله عليه وسلم، ثم هددهما بأن
الرسول إذا طلقهما وسائر أزواجه المتحزبات عليه؛ فإن الله يبدله خيرًا منهن في
كل ما يتفاضل به النساء عنده من صفات الكمال، ولو كان صلى الله عليه وسلم
يهمه التمتع الجسدي لوصف الله البدل بصفات الحسن والجمال؛ ولكنه لم يكن
يحفل به، ولو لم يكن نقصًا في نفسه.
٣٧- غضبه صلى الله عليه وسلم على أزواجه
وإيلاؤه منهن شهرًا فتخييره إياهن بين الطلاق
وبقاء الزوجية المرضية لله ولرسوله
علمنا من الشواهد الصحيحة التي رويناها في حسن عشرة النبي صلى الله
عليه وسلم لأزواجه بما هو أعلى من المعروف من عدل وحلم ولطف، وصبر على
تغايرهن وائتمارهن؛ ليكون أسوة حسنة لرجال أمته ولا سيما المهاجرين في ذلك،
وعلمنا أنه آل أمرهن إلى الائتمار بينهن والتظاهر عليه واستباحة الكذب وإفشاء
السر، وكدن يكن أسوة سيئة لنساء المؤمنين، على خلاف ما يراد من تربية
الرسول لهن ليكُنَّ قدوة صالحة لهن، وكان قد اضطرب أمر النساء مع الرجال إذ
زادت جرأتهن عليهم بتأثير ما أعطاهن الإسلام من الحقوق، وما أوصى بهن النبي
صلى الله عليه وسلم من التكريم حتى إنه قد اجتمع عند نسائه صلى الله عليه وسلم
مرة سبعون امرأة كل تشكو زوجها، فلما انتهى نساؤه معه إلى هذا الحد مع العدل
الكامل، واللطف الشامل، غضب غضبة الحليم، وحلف أن لا يقربهن شهرًا،
واعتزلهن كلهن تربية لهن، ولا تتم التربية إلا بوضع الحلم في موضعه والغضب
في موضعه، وإنني أستخلص من الصحيحين خبر غضبه وحلفه هذا بما فيه زيادة
البيان لما كان عليه حال النساء في أول الإسلام، وأبدأ بسياق مسلم فأقول:
روى مسلم في صحيحه أن عبد الله بن عباس قال: (مكثت سنة وأنا أريد أن
أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجًّا،
فخرجت معه فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت له
حتى فرغ ثم سرت معه، فقلت: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت له:
والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك، قال: فلا
تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك، قال:
وقال عمر: والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرًا حتى أنزل الله تعالى فيهن ما
أنزل وقسم لهن ما قسم، قال: فبينما أنا في أمر أأتمره إذ قالت لي امرأتي لو
صنعت كذا وكذا فقلت لها: وما لك أنت ولما ههنا؟ وما تكلفك في أمر أريده؟
فقالت لي: عجبًا لك يا ابن الخطاب ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان، قال عمر فآخذ ردائي ثم
أخرج من مكاني حتى أدخل على حفصة، فقلت لها: يا بنية إنك لتراجعين رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه،
فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله؟ يا بنية لا يغرنك هذه
التي قد أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، ثم خرجت حتى
أدخل على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها فقالت لي أم سلمة: عجبًا لك يا ابن
الخطاب، قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأزواجه؟ قال: فأخذتني أخذًا كسرتني عن بعض ما كنت أجد [٢٢]
فخرجت من عندها) (هذه مقدمة مسلم لحديث عمر وأذكر تتمته من رواية
البخاري عنه) .
قال: (ثم استقبل عمر الحديث يسوقه قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار
في بني أمية بن زيد وهم من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى
الله عليه وسلم فينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك
اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك، وكنا معشر قريش نغلب
النساء [٢٣] ، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من
أدب نساء الأنصار، فصخبت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني قالت:
ولم تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه،
وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فأفزعني ذلك وقلت لها: قد خاب من فعل
ذلك منهن، ثم جمعت علي ثيابي، فنزلت فدخلت على حفصة فقلت لها: أي
حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم،
فقلت: قد خبت وخسرت أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه
وسلم فتهلكي، لا تستكثري النبي صلى الله عليه وسلم [٢٤] ولا تراجعيه في شيء
ولا تهجريه وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب
إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يريد عائشة) .
قال عمر: (وكنا قد تحدثنا أن غسان تنعل الخيل لغزونا فنزل صاحبي
الأنصاري يوم نوبته، فرجع إلينا عشاء فضرب بابي ضربًا شديدًا وقال أثم هو؟
ففزعت فخرجت إليه فقال قد حدث اليوم أمر عظيم، قلت: ما هو أجاء غسان؟
قال: لا، بل أعظم من ذلك وأهول، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه،
فقلت: خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون، فجمعت عليَّ
ثيابي، فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم فدخل النبي صلى الله
عليه وسلم مشربة [٢٥] له فاعتزل فيها، ودخلت على حفصة فإذا هي تبكي، فقلت:
ما يبكيك ألم أكن حذرتك هذا؟ أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا
أدري ها هو ذا معتزل في المشربة، فخرجت فجئت إلى المنبر فإذا حوله رهط
يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلاً، ثم غلبني ما أجد فجئت المشربة التي فيها النبي
صلى الله عليه وسلم فقلت لغلام له أسود: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم كلم النبي
صلى الله عليه وسلم، ثم رجع فقال: كلمت النبي صلى الله عليه وسلم وذكرتك له
فصمت، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد
فجئت فقلت للغلام استأذن لعمر، فدخل ثم رجع فقال قد ذكرتك له فصمت،
فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت:
استأذن لعمر، فدخل ثم رجع إلي فقال قد ذكرتك له فصمت، فلما وليت منصرفًا
(قال) إذا الغلام يدعوني فقال: قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير [٢٦] ليس بينه
وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه متكئًا على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت
عليه ثم قلت وأنا قائم: يا رسول الله أطلَّقت نساءك؟ فرفع إليّ بصره فقال: لا،
فقلت: الله أكبر، ثم قلت وأنا قائم أستأنس: يا رسول الله، لو رأيتني وكنا معشر
قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي صلى الله
عليه وسلم، ثم قلت يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لها: لا يغرنك
أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم (يريد عائشة)
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته تبسم فرفعت
بصري في بيته فوالله ما رأيت في بيته شيئًا يرد البصر غير أهبة ثلاثة [٢٧] فقلت:
يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وأعطوا
الدنيا وهم لا يعبدون الله [٢٨] فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئًا فقال: أو
في هذا أنت يا ابن الخطاب؟ إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت يا
رسول الله: استغفر لي) فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه من أجل ذلك
الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعًا وعشرين ليلة وكان قال: (ما أنا بداخل
شهرًا) من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله تعالى، قالت عائشة: ثم أنزل الله
تعالى آية التخيير فبدأني أول امرأة من نسائه فاخترته، ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل
ما قالت عائشة.
اتفقت الروايات على أن تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه بين تطليقهن
وإبقائهن على عصمته على الوجه الذي يريده منهن وهو أن يكن قدوة صالحة
للنساء في الدين بعد حادثة غضبه وهجره لهن شهرًا ثم رضاه عنهن، وقد صح أنه
حدث في أثناء ذلك سبب آخر للتخيير وهو إلحافهن بطلب التوسعة في النفقة
والزينة.
٣٨- مطالبة أزواجه صلى الله عليه وسلم إياه
بسعة النفقة والزينة
كان من السهل على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيش مع نسائه عيشة
الترف والنعمة، وأن يمتعهن بما أحببن من اللباس والحلي والزينة، بما كان له من
الحق في خُمس الغنيمة، ومنها غنائم بني النضير، ثم بما كان له من الأرض في
خيبر، وكانت غاية توسعته عليهن إعطاؤهن مؤنة سنة كاملة من التمر والشعير
الذي كان يتخذ منه الخبز في الغالب، وكان ربما يتصدق ببعض ما آتاهن أو به
كله إذا وجد من هو أحوج إليه من الفقراء، بل ذبح مرة شاة فتصدق بها كلها فقالت
له عائشة: (هلا أبقيت لنا قطعة منها نفطر عليها، قال: لو ذكرتيني لفعلت) وقد
وقع لها بعده مثل ذلك بعينه، فقالت لها مولاة لها كما قالت للنبي صلى الله عليه
وسلم فأجابتها بما أجابها به، فهذه هي التربية المحمدية لأمهات المؤمنين، ولو اتبع
أهواءهن في الترف والزينة والأمة في طور التأسيس، لعُدِمْنَ فضائل الدين، على
ذم القرآن للمترفين المسرفين.
ولقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتح بلاد الشام والفرس ومصر
والاستيلاء على خزائن كسرى وقيصر والسيادة فيها، وفي غيرها من الأرض،
وحذرهم من الإسراف فيما أباح الله لهم في كتابه من الزينة والطيبات، وقال: (ما
تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) [٢٩] ومن هذه الفتنة أنهن الداعيات
إلى الإسراف في النفقة والزينة، فلما أراد نساؤه ذلك جعل الله تعالى له مخرجًا منه
بتخييرهن بين بقائهن على عصمته إيثارًا لحظ الآخرة، وبين تمتيعه لهن بما يطلبن
مع طلاقة لهن وتسريحه لهن بإحسان إيثارًا منهن لمتاع الحياة الدنيا وزينتها، فلو
أن نساءه صلى الله عليه وسلم غلب عليهن التمتع بالنعمة والزينة والترف لاقتدى
بهن جميع النساء من ذلك العهد، ولما استطاع الرجال صرفهن عنه، ولما قامت
للأمة قائمة؛ فإن الإسراف في الترف والزينة يهلك الأمم الغنية، فكيف تقوى به
الأمم الفقيرة؟ أم كيف يمكن أن تؤسس أمة قوية عزيزة مصلحة لفساد البشر
وظلمهم بتنشئتها على التنافس في الشهوات والزينة.
وإنما أباح الله الزينة والطيبات في حال السعة والثروة بدون إسراف ولا بطر
ولا مخيلة، والغرض من كثرة أزواجه أن يكن قدوة للنساء في الفضائل النسائية
كما أنه هو القدوة العليا والأسوة الحسنى للأمة كلها في معاملة النساء وفي سائر
الأمور، وملاك ذلك كله إيثار سعادة الآخرة على متاع الدنيا.
٣٩- تخييره صلى الله عليه وسلم لأزواجه
بين الدنيا والآخرة
قد ثبت أنه كان لهذا التخيير سببان أحدهما غضبه وموجدته عليهن فيما كان
من تظاهرن عليه، وقد ذكرنا أصح الروايات فيه، وأما السبب الآخر وهو
مطالبتهن له بالتوسع في النفقة والزينة فهو ما دلت عليه الآية الأولى من آيتي
التخيير الآتيتين، وذكر بعض المفسرين بعض ما طلبن من ذلك، وإنني أختار من
الروايات الصريحة فيه حديث جابر من صحيح مسلم وهذا نصه:
عن جابر بن عبد الله قال: (دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله
عليه وسلم فوجد الناس جلوسًا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل،
ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا حوله نساؤه
واجمًا ساكتًا، قال: فقال أبو بكر: لأقولن شيئًا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت
عنقها [٣٠] ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي كما ترى
يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها
كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟ فقلن: لا
والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا أبدًا ليس عنده، ثم اعتزلهن
شهرًا أو تسعًا وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} (الأحزاب: ٢٨) حتى بلغ {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب: ٢٩)
قال فبدأ بعائشة فقال: يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرًا أحب أن لا تعجلي
فيه حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية قالت:
أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك
أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها
إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا ولكن بعثني معلمًا ميسرًا، ثم خيرهن كلهن
فاخترن ما هو خير لهن) اخترن الله ورسوله والدار الآخرة وهذا نص آيتي
التخيير: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ
أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ
اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب: ٢٨-٢٩) .
خلاصة معنى الآيتين: قل لهن: إن كنتن تردن من حياتكن الزوجية حظوظ
الدنيا وشهواتها وزينتها؛ فإنني لم أبعث لذلك ولا تزوجتكن لذلك فتعالين أعطكن
المتعة المالية التي شرعها الله للمطلقات وأسرحكن إلى أهليكن سراحًا جميلاً لا إهانة
فيه ولا إساءة كما أمر الله كل من احتاج إلى تطليق امرأته لعدم استطاعته أن يعيش
معها عيشة راضية مرضية لله ثم له ولها، وهو دليل على أنه صلى الله عليه وسلم
لا يستطيع أن يقوم بوظيفة نبوته مع نساء همهن من حياتهن النعيم والزينة.
وإن كنتن تردن من هذه الزوجية مرضاة الله تعالى ومرضاة رسوله بالقيام
بأعباء الدين، وإصلاح أمور المؤمنات والمؤمنين، وثواب الدار الآخرة، تؤثرنه
على نعمة الدنيا العاجلة؛ فإن الله قد أعد للمحسنات منكن في ذلك أجرًا عظيمًا هو
أعظم وأكبر مما أعده للمحسنات من سائر المؤمنات، وقد بيَّن هذا في الآيات التي بعد
هذه، وهي وما سبق من أسباب نزولها تدل على افتراء أعداء الإسلام الذين يقولون
إن هم محمد من حياته التمتع باللذات والشهوات، وأنه لذلك أكثر من الزوجات.
٤٠- تأديب الله لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم
وتعليمهن ما يراد منهن
أمر الله تعالى رسوله أن يبلغ أزواجه ما ذكر من التخيير على أنه من ربه لا
من عند نفسه، ووصل الأمر بمواعظ وحكم عرفهن بها منزلتهن وتفضيلهن على
سائر النساء بجعلهن قدوة لهن في التقوى وحسن معاملة الأزواج، بما أتاحه لهن من
معاشرة مصلح البشر الأعظم محمد رسول الله وخاتم النبيين وما يتلقينه عنه من
آيات الله والحكمة، وما يشاهدنه من معاملته وعلو أخلاقه من الأسوة الحسنة، وأن
مقتضى ذلك أن يكون أجرهن على العمل الصالح مضاعفًا، وعقابهن على الأعمال
الفاحشة مضاعفًا، على قاعدة الغرم والغنم، وكون الذي يقتدى به في الخير له
أجره ومثل أجور من يقتدون به فيه، والذي يُقتدى به في الشر عليه وزره ومثل
أوزار الذين يقتدون به فيه، وفي ذلك حديث نبوي في صحيح مسلم معروف، ولو
كانت سيرة أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم فاسدة لفسدت سيرة سائر المؤمنات،
بل لكان ذلك من أسباب فساد اعتقاد كثير من الرجال، قال الله عز وجل مخاطبًا
لهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا
مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ
تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ
وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى
فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} (الأحزاب: ٣٠-
٣٤) .
الفاحشة المبينة هي الفعلة الظاهرة القبح كالكذب في مسألة العمل دون الهفوة
واللمم بما قد يخفى قبحه على فاعله، والقنوت لزوم الطاعة مع الخضوع وإذعان
النفس، والعمل الصالح أعم منه، والتقوى اتقاء مخالفة الله ورسوله وكل ما تسوء
عاقبته، والخضوع بالقول لين الكلام الأنثوي الذي يطمع الرجل الخبيث الضعيف
الإيمان في المرأة لارتيابه في عفتها - والقول المعروف هو الحسن البريء من
الريبة الذي لا ينكر نزاهة قائلته من يسمعه {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (الأحزاب:
٣٣) أمر من القرار أي الزمن بيوتكن فلا تخرجن منها لغير حاجة - والتبرج:
التبختر مع إظهار الزينة لجذب الأبصار وهو من منكرات الجاهلية القديمة،
والرجس الدنس المعنوي وهو كل ما يمس الدين أو الشرف، وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ} (الأحزاب: ٣٣) تعليل لهذه الأوامر والنواهي كلها؛
فإن امتثالها ينافيه وتتم به الطهارة بأكمل معانيها، وذكر الضمير (عنكم) ليشمل
صاحب البيت صلوات الله وسلامه عليه فإن شرف أزواجه شرف له، فإن علق
بإحداهن رجس أصابه ألمه وعاره - أعلى الله كرامته ونزه ساحته - وقد يشمل
بعمومه سائر أهل بيته غير نسائه المقصودات بالذات، وتؤيده بعض الروايات،
وآيات الله كتابه وبراهينه، والحكمة المعارف المعقولة المرقية للعقول المزكية
للنفوس، الحاملة لها على معالي الأمور.
٤١- توسعة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم
بما تكمل به تربية أزواجه
بالغ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في التضييق عليه بباعث الغيرة
وجرأهن عليه حلمه الواسع ولطفه، واعتقادهن أن المساواة بينهن واجبة عليه،
وتوهمهن أن منها المساواة في الحب، وفي أمره الناس بأن يهدي إليه من شاء منهم
حيث كان من بيوتهن، فكان من تربية الوحي لهن ما ذكرنا آنفًا من تهديد زعيمتيهن
عائشة وحفصة وإنذارهن الطلاق وإبدال ربه إياه خيرًا منهن، ثم ما خاطبه به في
الآية الخمسين من سورة الأحزاب من أنه أحل له أزواجه اللائي تزوجهن بمهورهن
وغيرهن من قريباته المهاجرات وما أفاء عليه من ملك اليمين ومن تهبه نفسها
ليتزوجها بدون مهر خاصًا به، مع بقاء ما فرضه على سائر المؤمنين من المهور،
وتقييد الزواج بأن لا يزيد على أربع نسوة في حال القدرة مع العدل والمساواة،
وعلى واحدة عند الخوف من الظلم، وكان بعض النساء يهبن أنفسهن له صلى الله
عليه وسلم وبعضهن يعرضن عليه قريباتهن حتى نهاهن عن ذلك [*] ، ثم أفتاه الله
تعالى في الآية التي بعدها برفع الحرج عنه في معاملة أزواجه كلهن بما يشاء ليعلمن
أن مساواته بينهن فضل منه صلى الله عليه وسلم عليهن وإحسان بهن لا واجب
عليه من الله تعالى لهن لئلا يعدن إلى مثل ما كان منهن قال تعالى {تُرْجِي مَن تَشَاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن
تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً} (الأحزاب: ٥١) .
رفع الله عن نبيه بهذه الآية ما فرضه على أمته من القسم والمساواة بين
الأزواج، وأباح له ما يشاء من إرجاء نوبة بعضهن أي تأخيرها، وإيواء من شاء
إليه متى شاء، وعزل من شاء وإبعادها؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم ظل على ما
كان من مساواته بينهن بالعدل، فرضين منه لأنه بمحض الفضل، ولم يتزوج
عليهن أحدًا ممن أبيح له في الآية التي قبلها، ولو كانت رغبته في تعدد الأزواج
للاستمتاع بهن لفعل ولاختار حسان الأبكار على الثيبات.
ولما نزلت هذه الآية قالت عائشة له كلمة شاذة لعلها أشذ ما صدر عنها من
إدلال وحب الزوجية وغرارة الحداثة، قالت له: ما أرى إلا أن ربك يسارع في
هواك [٣١] ، تعني بهواه رغبته وميله النفسي، فقابل صلى الله عليه وسلم هذه
الكلمة الجريئة النابية عن الأدب بحلمه الواسع حتى علمت عائشة وغيرها أنه صلى
الله عليه وسلم لم يكن له أدنى هوى نفسي في هذه التوسعة عليه؛ فإنه لم يعمل بها؛
وإنما كانت لأجل تربيتها هي وسائر أزواجه وإقناعهن بكمال عدله فيهن وفضله
عليهن فيما لم يوجبه ربه عليه.
وكانت عائشة على حداثتها قوية الإيمان والإجلال له صلى الله عليه وسلم؛
ولكن الغيرة النسائية كانت تغلب على وجدانها، ولقد أقنعتها حفصة في سفر لهما
مع النبي صلى الله عليه وسلم بأن تستبدل بعيرها ببعيرها ففعلت فرأته صلى الله
عليه وسلم يكلم حفصة ظانًّا أنها عائشة، فاشتعلت نار غيرتها فلما نزلت وضعت
رجلها في الإذخر (نبات معطر معروف) وصارت تدعو الله أن يرسل عليها حية
أو عقربًا تلدغها وتقول: إنه نبيك ولا أستطيع أن أقول له شيئا، رواه البخاري.
روت معاذة عن عائشة قالت: إن رسول الله كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد
أن أنزلت هذه الآية {تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ} (الأحزاب: ٥١) ... إلخ، فقلت
لها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول له إن كان ذلك إلي فإني لا أريد يا رسول
الله أن أوثر عليك أحدًا [٣٢] ، وفي رواية لم أوثر أحدًا على نفسي، فأين هذا
الجواب من إنكارها عليه مد يده إلى زينب لمصافحتها في بيتها ومن تجسسها عليه
إذ أبطأ في زيارته لها يوم شرب العسل عندها؟
(يتبع)
((يتبع بمقال تالٍ))