للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ما وراء القبر

حديث مع أديصن عن الحياة والموت
قابل كاتب أمريكي المستر أديصن العالم الأمريكي المشهور واستطلعه رأيه
في نبأ نشرته الصحف الأمريكية، وفحواه أنه يبحث ويفتش لعله يفوز برفع الحجاب
عن حقيقة ما تصير إليه نفس الإنسان بعد الموت، ويؤيد ذلك بالدليل العلمي، وقد
نشرت خلاصة هذا الحديث في مجلة (السينتفك أميركان) المعروفة بتدقيقها
العلمي، وقدمته بمقدمة من عندها قالت فيها:
(إذا كان رجل في مقام لودج أو أديصن يهتم بموضوع ما، فإن الجمهور يبالغ
في الاهتمام بما يقول وبما يرجو أن يفعل، وعليه؛ فلما أذيع منذ أيام أن أديصن
يجرب تجارب لمناجاة الموتى فسحت الصحف مجالاً واسعًا لهذا النبأ يفوق ما يستحق
بالنسبة إلى الدرجة العليا التي بلغتها أعمال أديصن من التقدم العلمي، وقد أصابت فيما
فعلت؛ لأن القراء اهتموا مزيد الاهتمام بمجرد علمهم أن أديصن يشتغل بهذه المسألة)
إلى أن قالت: وأهم ما في الأمر أن أديصن رغم الأراجيف التي قد تذيعها الصحف
عن هذه المسألة وعلاقته بها يسعى ليعود بنا إلى الموقف الصحيح في أمر الحياة بعد
الموت وبقاء الأنفس وإمكان مخاطبة الموتى. وهذه صورة الحديث، قال الكاتب:
إن أديصن الذي استنبط المصباح الكهربائي والفونوغراف والصور المتحركة
وبطرية النكل والحديد والدينامو الكامل وغيرها من المكتشفات والمخترعات التي
تدخل أعمالنا اليومية سيوجه سعيه وجهده إلى أمر يفوق كل اكتشاف واختراع بما لا
يقاس، فإن في العالم نحو ١٥٠٠ مليون نسمة سيدركهم الموت عاجلاً أو آجلاً،
ولكنهم يجهلون كل الجهل مصيرهم بعده، ومثل ذلك يقال عن مجيئنا إلى هذه الدنيا،
وعليه؛ فالحياة والموت لا يزالان سرًا من الأسرار ولغزًا من الألغاز التي لم تفتح بها
على مخلوق.
منذ بضعة أسابيع شاع أن هذا المخترع العظيم يعد طريقة أو آلة لمخاطبة الذين
انتقلوا من هذا الوجود إلى وجود آخر أو عالم آخر، فنشرت صحف أميركا وأوربا
أن توماس أديصن اندمج في صفوف الروحانيين الذين بينهم الآن كثيرون من كبار
العلماء والمؤلفين والمخترعين والطبيعيين والمهندسين ورجال الدين وغيرهم،
ووصف الكتاب الفرنسويون الواسعو الخيال آلة أديصن بأنها محطة تلفونية أو مكتب
تلغراف أو ما أشبه يقصدها الناس ليخاطبوا منها أرواح أحبائهم وأصدقائهم في العالم
الآخر بطريقة عاجلة أكيدة.
وليس في الناس أحد أشد أسفًا من المستر أديصن على إذاعة أخبار مثل هذه،
فقد قال لي في حديثي معه: إني لا أستطيع تصور شيء يسمونه الروح، تصور
شيئًا لا ثقل له ولا صورة مادية ولا حجمًا، وبعبارة أخرى تصور غير شيء، أنا لا
أستطيع أن أعتقد أن الأرواح يمكن أن ترى في أحوال معينة وتحرك الموائد أو تقرع
عليها أو تعمل أعمالاً سخيفة مثل هذه، وكل ما قيل من هذا القبيل حديث خرافة.
وأقول هنا إنه إنما قابلني لإزالة ما علق بالأذهان من الإشاعات التي شاعت عن
غرضه من البحث والتنقيب في هذا الموضوع، ولا تزال الآلة التي شاع أنه يصنعها
في دور التجربة والامتحان، وقد طلب مني أن أعلن ما يأتي، قال:
فكرت منذ مدة في اختراع آلة أو أداة يمكن أن يستخدمها أو يؤثر فيها الذين
غادروا هذا الوجود إلى وجود آخر أو عالم آخر، والآن اسمع وعِ ما أقول لك، أنا لا
أدّعي أن شخصياتنا تنتقل إلى وجود آخر أو منطقة أخرى، ولا أدّعي علم شيء في
هذا الموضوع؛ لأني لا أعلم شيئًا فيه، ولا أحد من الناس يعلم، ولكني أدَّعي أنه
يمكن صنع آلة بالغة من الدقة مبلغًا بحيث إنه إذا كان أناس في عالم آخر يريدون
مخاطبتنا في هذا العالم فإن هذه الآلة تكون أوفى بهذا الغرض من تحريك الموائد
والنقر عليها أو غير ذلك من الوسائل السخيفة المعروفة.
والحق يقال: إن سخافة هذه الوسائل هي التي تحملني على الشك في صحة
مناجاة الموتى التي يدعونها، فلست أدري لم يضيع الأشخاص الذين في العالم الآخر
وقتهم في تحريك مثلث من الخشب على مائدة عليها حروف الهجاء، وما غرضهم من
تحريك الموائد؟ هذا كله يظهر لي أنه من الأعمال الصبيانية حتى لا أستطيع أن
أبحث فيه بعين الجد والاهتمام، وعندي أنه إذا شئنا أن نتقدم تقدمًا حقيقيًّا في البحث
العقلي، وجب أن نقدم عليه بالآلات العلمية وبالطرق العلمية كما نفعل في الطب
والكهربائية والكيمياء وغيرها.
وأما ما أريد أن أعمله فهو أن أجهز الباحثين في المباحث العقلية النفسية بآلة
تلبس عملهم لباسًا علميًّا، وهذه الآلة ستكون مثل مصراع أو تشبه مفتاحًا صغيرًا
يستطيع به رجل واحد ضعيف القوة أن يفتح مصراعًا تدار به آلة قوتها ٥٠ ألف
حصان، وستكون آلتي على هذا المثال حتى إن أصغر قوة تكبر بها كثيرًا فتساعدنا
على بحثنا، ولا أقول أكثر من ذلك عن ماهيتها، وقد مضت عليّ مدة وأنا أشتغل
بتفاصيلها، وكان يعاونني في عملي هذا صديق فتوفي منذ حين، ولما كان يعلم ما أنا
ساع إليه فالواجب أن يكون أول من يقدم على استعمال هذه الآلة إن استطاع ذلك.
واعلم أني لا أدعي أني أعلم شيئًا عن بقاء الشخصيات بعد الموت، ولا أعد
بمخاطبة الذين انتقلوا من هذا الوجود، وإنما أقول: إني ساع في تجهيز الباحثين
النفسيين بآلة قد تساعدهم في عملهم كما يساعد المكرسكوب رجال الطب في مباحثهم،
وإذا عجزت هذه الآلة عن أن تكشف لنا شيئًا خارق العادة فإني أفقد كل ثقة وإيمان
ببقاء الشخصيات بعد الموت كما نعرفه في هذا الوجود.
ومما يقال عن المستر أديصن أنه لا يصدق المذاهب المعروفة في الحياة
والموت؛ لأنه يعتقد أنها فاسدة الأساس. قال لي باسطًا مذهبه فيهما: عندي أن
الحياة كالمادة غير قابلة للفناء، فقد كان في هذا العالم مقدار معين من الحياة على
الدوام، وسيبقى هذا المقدار كما هو على الدوام، فإنك لا تستطيع خلق الحياة ولا
إبادتها ولا مضاعفتها. وفي اعتقادي أن أجسامنا مركبة من ملايين من الكائنات
المتناهية في صغرها، وكل منها حي مفرد ويرتبط بعضها ببعض لتكوين الإنسان.
ونحن نقول عن أنفسنا: إن كلاً منا شخص واحد قائم بنفسه، ونتكلم عن الهرة أو
الفيل أو الحصان أو السمكة كأن كلاً منها فرد قائم برأسه. ولكني أرى أن طريقة
التفكير هذه فاسدة الأساس، فإن هذه الأشياء كلها تظهر أنها بسيطة مفردة؛ لأن
الكائنات الحية التي تتألف منها أصغر من أن ترى حتى بأعظم المكبرات.
وقد يعترض على هذا الرأي بأنه إذا كانت هذه الكائنات الصغيرة إلى هذا
الحد فلا يمكن أن تكون مؤلفة من أعضاء مختلفة تستطيع القيام بالأعمال التي
سأذكرها. فأقول في الرد على ذلك: إنه لا حد لصغر الأشياء، كما أنه لا حد لكبرها
واكتشاف الألكترون خير جواب على مثل هذا الاعتراض، فقد ظهر لي بالحساب
أنه يمكن وجود حي متقن التركيب والتنظيم مؤلف من ملايين من الألكترونات
الصغيرة التي لا ترى بما نعرف من المكبرات.
وهناك دلائل كثيرة تدل على أننا نحن الخلائق البشرية يتصرف كل منا
تصرف جماعة من الأحياء لا تصرف حي واحد، وهذا ما يحملني على اعتقاد أن
كلاًّ منا يحتوي على ملايين من الأحياء، وأن أجسامنا وعقولنا تمثل أفعال الكائنات
التي تتألف منها.
ولننظر الآن في السبب الذي يحملني على القول بأنه لا بد أن تكون أجسامنا
مؤلفة من هذه الكائنات. خذ بصمة إبهامك كما يفعل البوليس في بصم أباهم
المشبوهين، ثم أزل خطوط إبهامك بحرقها بالنار، فمتى نما الجلد ثانية تجد أن
خطوطه لم تتغير ألبتة عما كانت عليه قبل احتراقه، وقد امتحنت ذلك بنفسي حتى
تحققته، هذا سر من الأسرار ما فتئ مغلقًا حتى الآن، تقول لي: إن هذا عمل
الطبيعة، وهو جواب يراد به التفصي لا غير؛ إذ لا معنى له، بل هو وسيلة
لإسكات السائل بذكر كلمة فارغة مكان الجواب. إن كلمة (طبيعة) ما أقنعتني قط،
أما جوابي أنا فهو أن الجلد لم ينبت ثانية، كما كان أولاً بمجرد الاتفاق، بل إن
هناك من وضع رسوم النمو الثاني وعني بمطابقته لرسوم النمو الأول من كل وجه
وأنت لا تعلم شيئًا من تلك الرسوم، فإن دماغك لم يشترك في هذا العمل، وهنا
تدخل الكائنات المشار إليها وتشترك في العمل، وأنا أعتقد جد الاعتقاد أنها تحوك
نسيج جلد الإبهام بمزيد العناية، مستعينة على رسم التفاصيل الدقيقة بذاكرتها
العجيبة.
ولزيادة الإيضاح أقول: لنفرض أن كائنًا من سكان المريخ هبط إلى هذه
الأرض، ولنفرض أن بصره ليس دقيقًا كبصرنا، وأن أصغر شيء يمكنه أن يراه
بعينيه هو جسر (كُبْري) مثل جسر بروكلن فهو إذًا لا يرى أجسامنا، وقد يحسب
الجسر المذكور شيئًا طبيعيًّا، كما نحسب نحن العشب أو الرمل أو المعادن وغيرها
من الأشياء الطبيعية، ولنفرض أنه هدم جسر بروكلن وذهب ثم عاد بعد سنين،
فمر من هناك فوجد جسرًا جديدًا مكان القديم وعلى مثاله، فهل يقوده الفكر الصحيح
إلى افتراض أن الجسر الجديد نما بنفسه مكان القديم، وعلى مثاله، أو إلى افتراض
أنه مد ثانية بفعل فاعل عاقل، لا ريب أن الفرض الثاني أقرب إلى العقل.
هذا هو الموقف الذي يجب أن نقفه نحن بإزاء الكائنات الحيوية، والمسألة
كلها مجرد افتراض وتخمين كما لا يخفى، فقد يكون ٩٥ في المائة من تلك الكائنات
التي تتألف أجسامنا منها عمالاً، والخمسة الباقية مديرة للعمل وقد يكون غير ذلك،
ومهما يكن من الأمر فإن مجموعها هو الذي يكون شكل أجسامنا الطبيعي وصفاتنا
العقلية وشخصياتنا وما أشبه ذلك.
وهذه الكائنات هي الحياة بعينها، وهي لا تفتأ تعمل وترمم أنسجة أجسامنا
وتشرف على وظائف أعضائنا، فإذا أصيب الجسم بطارئ أفضى إلى موته كأن
يكون مرضًا عضالاً أو عارضًا أو هرمًا، فإن هذه الكائنات تفارقه ولا تترك
وراءها إلا بناءً خاويًا خاليًا، ولما كانت عمالاً لا تكل ولا تمل، فإما أن تدخل جسم
إنسان آخر أو تبدأ العمل في صورة أخرى من صور الحياة وأشكالها، وسواء كان
هذا أو ذاك فإن هذه الكائنات محدودة العدد، وهي نفسها عملت كل شيء في عالمنا
هذا، ولكن تعدد التراكيب التي تتألف منها هو الذي أوقعنا في الخطأ، فحسبنا أن
لكل مولود حياة جديدة.
وهذه الكائنات خالدة لا تموت، فإنك لا تستطيع إفناءها، كما لا تستطيع إفناء
المادة، وجهد ما هناك أنك تستطيع تغيير صورة المادة لا غير، فقد كان مقدار
الذهب والحديد والكبريت والأكسجين وغيرها في بدء العالم كما هو الآن بلا زيادة
ولا نقصان، نعم إننا نستطيع التغيير في تركيب مركبات هذه العناصر، ولكننا لم
نظفر بتغيير نسب بعضها إلى بعض.
وهذا هو حال الكائنات الحيوية، فإننا لا نستطيع إفناءها بل نغير صورها
وأشكالها، وقدرتها متعددة الضروب حتى يصعب علينا تمييز أعمالها في كل
الأحوال. وعليه لم يستطع العلماء حتى الآن أن يرسموا حدًّا بين الأشياء الحية
وغير الحية، وقد يكون أن هذه الكائنات تمتد إلى الجماد وتعمل فيه، وإلا فما
الشيء الذي يجعل البلورات تتكون على أشكال هندسية محددة؟
والآن نأتي إلى مسألة الشخصية، أنت لكربورا (اسم الكاتب) وأنا أو
أديصن؛ لأن في كل منا مجموعًا من الكائنات يختلف عن مجموع الآخر، فقد
أثبت الطب باثنتين وثمانين عملية جراحية شهيرة عملت حتى الآن أن مركز
شخصيتنا هو في تلفيف من تلافيف الدماغ اسمه تلفيف (بروكا) ، ومن العقل
والصواب أن نفرض أن مركز مقر الكائنات التي تدير حركاتنا وتشرف عليها
إنما هو في ذلك التلفيف، فهو الذي يشعرنا بالتأثيرات العقلية وبشخصيتنا.
ولقد قلت: إن ما نسميه الموت إنما هو مفارقة تلك الكائنات لأبداننا. والمسألة
كلها في زعمي هي مسألة ما يجري للكائنات المرشدة التي مقرها في تلفيف بروكا؛
إذ المعقول أن الكائنات الأخرى التي تعمل عملاً ميكانيكيًّا في أجسامنا تتشتت
وتذهب في جهات مختلفة طلبًا للعمل فيها، وأما الكائنات التي تتكون منها
شخصياتنا فتكون أنت بها لكربورا وأكون أنا أديصن، ويكون زيد زيدًا، فماذا
يجري بها؟ هل تبقى مجموعة واحدة أو تتفرق في الكون طالبة العمل منفردة لا
مجتمعة؟ فإن كانت تتفرق فإن شخصياتنا لا تبقى بعد الموت، فقد تقدم القول أن
هذه الكائنات تعيش إلى الأبد وتمنحنا الخلود الذي يرجوه كثير منا، ولكن إن كانت
تتفرق ثم تتحد بكائنات أخرى لتؤلف أجسامًا جديدة منا فإن ذلك يضيع علينا
شخصياتنا والخلود الذي نرجوه؛ أي خلود تلك الشخصيات بعينها.
ولي الرجاء أن شخصياتنا تبقى، فإن كانت تبقى فإن الآلة التي أنا ساع في
اختراعها لا بد أن تفيدنا، وهذا ما يحدوني على الانهماك بعملها وإخراجها على
غاية من الدقة، وإني أنتظر النتيجة بذاهب الصبر.

(المنار)
يؤخذ من حديث هذا المخترع الشهير أنه يعتقد بنظره العقلي واختباره
العلمي جواز ما يجزم به جميع المليين إيمانًا بالغيب، وكثير من الفلاسفة والعلماء
الروحيين بالدلائل أو الاختبار الذي يعرف باستحضار الأرواح، ويرجو أن يكون
ما يجوزه ويقول بإمكانه من الحياة بعد الموت والبقاء بعد فناء هذه الهياكل الجسدية
حقًّا واقعًا وإن كان يرتاب فيه بما شرحه من نظريته الخيالية في سر الحياة وسببها،
وبناءً على هذا الرجاء يحاول وضع الآلة الكهربائية التي يرى أنها تكون خير
وسيلة وأقوى سبب لتأثير أرواح الموتى في الأحياء بمخاطبتها لهم بها إن كان ذلك
مما تتوجه إليه، وتعنى به كما يدعي أهل المذهب الروحاني الذي عرفه الإفرنج في
هذا العصر، وكان معروفًا عند الصوفية في القرون الماضية والعصور الخالية.
فتأمل كيف قربت العلوم المادية عالم الغيب من عالم الشهادة، إن في ذلك للمتفكرين،
وقد أقر بجهله بحقيقة الروح ولا غرو {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ
العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: ٨٥) .