للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

(باب الولد من كتاب)
(١٠) من أراسم إلى هيلانة فى ٣ يونية سنة -١٨٥
أظن أن ما ينسب للاعتقاد الدينى من التأثير فى طباع الناس وأخلاقهم مُبالغ
فيه كثيرًا [١] وعلى كل حال فالتصديق بأن الإنسان يوفى جزاء أعماله في دار أخرى
بعد هذه الدار يُعرِّض صاحبه لأنواع من خيبة الآمال تكون آلامها صعبة الاحتمال ,
فإنه إذا هبت عليه أعاصير الشُّبه في مستقبل أيامه فزعزعت أركان عقيدته التي
بنيت عليها الفروض والواجبات فلا تلبث دعائم تربيته الأولى أن تنهار انهيارًا تامًّا
فكيف نرجو إذن في هذا العصر الذي ثارت فيه الشكوك , وأطلقت حرية النظر
أن لا تؤثر عوارض الشبه في عقائد الطفل إذا كبر , وهي إنما تفرغ في مخه حال
صغره إفراغًا , وتلصق به لصقًا إن صح أن يقال ذلك؟
فالذي أتمناه (لأميل) هو أن يكون له وجدان مستقل عن الإيمان , وليس يهدأ
لي بال ولا يطمئن لي قلب على سلامة شرفه وتهذيب نفسه إلا بحصول هذه الأمنية ,
إني كثيرًا ما سمعت بعض المسيحيين إذا عصى أولادهم أوامرهم يهددونهم
تهديدًا وحشيًّا وهم في شدة حنقهم بقولهم لهم: سيعاقبكم الله ويهلككم , وكنت كلما
سمعت منهم ذلك تقلص جميع دمي من عروقي إلى قلبي غيظًا وغمًّا. فليت شعري
هل الاستغاثة بأحكم الحاكمين على تنفيذ عقوباتنا السافلة في الأطفال والاستصراخ
بالذات العلية لتشفي غلنا بالانتقام لنا منهم واقتضاء فعل الشر من الله ليسكن بذلك
وجدنا عليهم- هل كل ذلك هو ما يعبر عنه بتأسيس علم الأخلاق على الاعتقاد
الديني؟
كأني بك تقولين: إنك لم تختر من أمثلة التربية الدينية لتوجيه انتقادك إلا
أردأها وأحقها بالطعن، فأقول: نعم , ولكن هذه التربية على كل حال فيها عيب
شنيع جدًّا وهو إلزام الناشئ في سيرته بأعمال لا يدرك عللها , فلو أني قلت للطفل:
يجب عليك أن تكون مؤدبًا عاقلاً لتكون محبوبًا عند الله، لكان ذلك منى بلا شك
ألغازًا وتعميةً لأنه لا يعرف ما هو الله , ولا يعرف علامة يميز بها ما يرضيه وما
يغضبه , وأما إن قلت له: يجب عليك التزام الأدب لتحبك أمك، فإنه يفهم هذه العلة
أكثر من سابقتها بكثير.
من تكلم في الدين مع طفل حديث السن جدًّا فإنما يريد منه أن يفسد معنى ما
يؤديه إليه من الأفكار الدينية , ويقلب المراد منها، فلو أن الأم أشارت بيدها إلى
السماء دلالة لولدها على أنها هي محل الذات الذي يجب أن يتوجه إليه بدعائه ,
لتوهم أن هذه السماء الدنيا المادية هي إلهه.
أنا أعلم أن كثيرًا من الآباء لا يهتمون بهذا الأمر كثيرًا , ولا ينظرون فيه
نظرًا بليغًا , ولكونهم ممن يشكون في كل شيء؛ ترينهم يلزمون أولادهم بأداء
بعض الأعمال الدينية التي هم أنفسهم لا يؤدونها , أو إنما يؤدونها أمامهم فقط ,
فكأنه لا أهمية للصواب والخطأ في حق هؤلاء الأطفال ولا نتيجة لهما , وأن أهم
شيء في حقهم هو أن تكون باكورة أعمالهم في أول حياتهم اتباع ما جرى عليه
الناس من العوائد مع إرجاء النظر فيها إلى المستقبل.
وحينئذ فمثل هؤلاء الآباء يتسببون في إفساد وجدان أبنائهم وقوتهم الحاكمة
بخفتهم وطيشهم أو عدم اكتراثهم بشأنهم , فأنا أتحامى الأديان التي يكون شأن
الآخذين بها فيها كشأن من لا يؤمنون بها بالمرة أو من لا يؤمنون بها إلا إيمانًا
ناقصًا فإنها أضر الأديان بكرامة الإنسان.
فاحترامًا لأميل ولطائفة من المعاني التي يجب أن ينظر فيها متى كبر بفكر
خالٍ من التأثر بغيرها؛ أود أن يُجتنَب في تربيته زمن طفوليته الخوض في
المسائل الدينية , فإننا مؤتمنون على عقله وعلى حرية ضميره , ومسئولون عن
ذلك , فإذا نحن عجلنا بحرمانه من حق النظر فقد ثلمنا أمانتنا اهـ.
(المنار)
أبان كلام المؤلف عن عدم عنايته بالدين كما تقدم في الهامش , ولكن له وجهًا
في شيء واحد وهو عدم تلقين الطفل كثيرًا من أمور الدين في وقت لا يعقل منها
شيئًا , فما تكون إلا كلمات يعتادها لسانه ولا يكون لها أثر في نفسه.
مثال ذلك: الأيمان التي يحلفون بها أمامه , أو يكلفونه الحلف بها , ومنها
التخويف الذي ذكره، فإذا كبر وفهم معاني ما تلقنه بالمعاملة والمعاشرة تكون عند
العمل كسائر العادات التي يفعلها من غير ملاحظة معناها وبدون تأثر بها , بخلاف
ما إذا كان لا يلقى إليه شيء من أمور الدين إلا إذا استعد لفهمه وتدبره , ولذلك
حكمت الشريعة الإسلامية بأن لا يعلم الطفل الدين إلا في سن التمييز , ولا يكلف به
إلا إذا بلغ رشده.
((يتبع بمقال تالٍ))