للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد المتعال الصعيدي


مريم أم عِيسَى عليه السلام
أخوتها لهارون بُنُوتها لعمران [*]

(١) {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ *
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ
مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ
إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ
وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (آل عمران: ٣٣-٣٦) .
(٢) {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِياًّ * يَا أُخْتَ
هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِياًّ} (مريم: ٢٧-٢٨) .
(٣) {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ} (التحريم: ١٢) .
يسوقنا إلى الكتابة في هذه الآيات تطاول بعض المسيحيين على القرآن الكريم
فيها؛ إذ يقولون: إن مريم لم تكن بنت عمران، ولم يكن هارون ابنه ولا أخو
موسى أخاها، فقد كان من بين موسى وبين عيسى ابنها ألف وخمسمائة سنة فلا
يصح أن يكون أبوه عمران أباها، ولا أن يكون أخوه هارون أخاها، ونحن نتلطف
في إيراد اعتراضهم هذا على هذه الآيات الكريمة، وندع ما يصحبه منهم من تهكم
واستهزاء، وتبجح وافتراء، وهم يقولون: إن مريم كانت بنت هالي أو عالي
وهي من نسل داود ومن سبط يهوذا، وموسى وهارون من سبط لاوي فنسبها بعيد
عن نسبهما ونسب أبيهما ولا تجتمع معهم إلا في إسرائيل الذي تجتمع فيه كل
أسباطهم.
وإنه ليقنعنا معشر المسلمين أن نقول: إن عمران والد مريم غير عمران والد
موسى وهارون وقد أخبر بذلك القرآن المُنَزَّل من عند الله فيجب علينا تصديقه،
ولكن هل يقنع هذا أولئك المعترضين الذي يصعب عليهم أن يتركوا بمثل هذا ما
ألفوه من أن والد مريم كان يسمى هالي ولم يكن يسمى عمران وهو عندهم أقرب
إلى أن يجعلوه حجة على القرآن، وطعنًا من الطعون التي يوجهونها إلى الإسلام.
وقد يمكننا أن نشككهم في أن والد مريم كان يسمى هالي أو عالي بما ورد في
إنجيل يعقوب من أن مريم كانت بنت يهوياقيم، وإن كان إنجيل يعقوب من
الأناجيل غير المُعَوَّل عليها عندهم، ولكن ماذا يفيدنا هذا في إقناعهم بأن والد مريم
كان يسمي عمران لا هالي ولا يهوياقيم.
ويجب إلى هذا أن نذكر أن أقرب الأقوال في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى
آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل عمران: ٣٣) هو أن آل
عمران فيه يراد بهم موسى وهارون وعمران أبوهما، وقال الله تعالى عقب ذلك في
والدة مريم: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} (آل
عمران: ٣٥) والقاعدة أن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى، فالظاهر أن
عمران هنا رجل والدة مريم هو عمران هناك والد موسى وهارون، وقد قال الله
تعالى في سورة مريم يخاطبها {يَا أُخْتَ هَارُونَ} (مريم: ٢٨) وأقرب الأقوال
فيه أنه هارون أخو موسى فليكن عمران المنسوب إليه مريم ووالدتها أبا موسى
وهارون أيضًا، وهنا تتجلى معجزة من معجزات القرآن الكريم ويصير بنا البحث
إلى دقائق التاريخ الإسرائيلي فيهتدى في ذلك إلى دقائق منه ما كان النبي صلى الله
عليه وسلم ليصل إليها في أميته لولا أن أخبره الله تعالى بها فيما أنزله عليه من
كتابه ومحكم آياته.
ذكر بعض المفسرين أن والدة مريم كانت تسمى حنا بنت فاقوذا وهي أخت
إيشاع (أليصابات) زوج زكريا عليه السلام وقد جاء في إنجيل لوقا (ص ١-٥)
إن امرأة زكريا أليصابات كانت من بنات هارون، وقد جاء في هذا الإنجيل أيضًا
ما يؤكد تلك القرابة بين أليصابات ومريم ووالدتها ص ٣٦-١ فتكون حنا والدة مريم
من بنات هارون أيضًا، وتكون مريم من بناته أيضًا من جهة أمها إذا كان أبوها من
نسل داود ومن سبط يهوذا على ما يقوله المسيحيون ويوافقهم عليه كثير من
المفسرين وتكون إيشاع (أليصابات) على هذا خالة مريم وقيل: إنها كانت أختها
والذي أرجحه أنها كانت تَمُتُّ إليها بقرابة من جهة أمها، ولم تكن أختها [١] لأن
أليصابات كانت من سبط لاوي ومريم كانت من سبط يهوذا وقد تكون أمها مع ذلك
أخت ألصيابات وقد تكون من بنات عمها ويرجع هذا إلى أن إنجيل لوقا لم يعين
هذه القرابة ولا ضير علينا في أن نرجع إليه في ذلك وأشباهه.
وكانت حنة قد أمسك عنها الولد حتى أيست وكبرت فدعت الله أن يهب لها
ولدًا ونذرت أن تتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه فحلمت بمريم
ومات أبوها قبل أن تضعها فلما وضعتها لفتها في خرقة وحملتها إلى بيت المقدس
ووضعتها عند أحباره من أبناء هارون عليه السلام، وكانت كهانة بني إسرائيل لهم
متوارثة فيهم فكانوا يلون من بيت المقدس ما تلي الحجبة من الكعبة، فتنافس
الأحبار في هذه النذيرة الصغيرة أيهم يكفلها وقد فاز بها منهم زكريا عليه السلام
زوج قريبتها أليصابات، وكان زكريا مثل أولئك الأحبار من أبناء هارون وهم من
سبط لاوي ولم يكن من نسل داود كما يزعم بعض المفسرين بعد أن ذكر أن أحبار
بني إسرائيل كانوا من أبناء هارون، وهذا الاضطراب منشؤه عدم الإلمام الكافي
بدقائق تاريخ بني إسرائيل، وذلك مما يجب توفره في مفسري القرآن الكريم
فضم زكريا مريم إليه ورباها في بيته الهاروني واهتم بأمرها اهتمامًا بالغًا
حتى يقال: إنه بنى لها بيتًا واسترضع لها مراضع غير أمها وكانت شيخة كبيرة لا
يغذيها لبنها التغذية التي تصل بها إلى حد الكمال في جسمها وغيره، ولا غرو أن
يهتم بها زكريا هذا الاهتمام فإنه كان قد كبر وشاخ ولم يرزق بولد، لأن امرأته
كانت عاقرًا لا تلد مثل قريبتها حنا والدة مريم، فتبنى زكريا هذه اليتيمة الصغيرة
واهتم هذا الاهتمام بها حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بَنَى لها محرابًا في المسجد
وجعل بابه في وسطه فلا يرقى إليه إلا بسلم ولا يصعد إليها غيره، وكان كل يوم هو
الذي يقدم لها طعامها وشرابها.
فإذا أردنا أن نستخلص شيئًا من تاريخ مريم إلى أن بلغت هذا السن من شبابها
أمكننا أن نستخلص منه هذه الأشياء: -
(١) أن مريم ولدت نذيرة الرب وابنة البيت المقدس، وانقطعت في ذلك
نسبتها إلى أبيها وأمها ولا يزال الناس ينذرون أولادهم إلى بعض من يعتقدون فيهم
فينسبونهم إليهم ويجعلونهم أبناءهم وتسمعهم يقولون عن أحدهم: إنه ابن السيد وهو
ليس ابنه، وعن الآخر: إنه ابن الرفاعي وهو ليس ابنه، وهكذا.
(٢) أنها تربت في بيت من بيوت هارون وهم من سبط لاوي فاتصلت
نسبتها بهذا البيت وانقطعت نسبتها إلى سبط يهوذا قوم أبيها الذي مات قبل أن تولد،
ويظهر أن أمها ماتت وهي في سن الرضاع فشبت لا تعرف لها أبًا غير زكريا
ولا أما غير زوجه أليصابات.
(٣) أنها عاشت بين الأحبار أبناء هارون كأنها واحدة منها تشاركهم في
وظيفتهم الدينية وتقضي وقتها في عبادة ربها ولا ينظر قومها إليها إلا أنها راهبة
من راهبات بيتهم يقيسون بذلك أعمالها ويزنون به ما تفعله منها ويخاطبونها كما
يخاطبون واحدًا من أولئك الأحبار، فإذا قالوا له: يا أخا هارون؛ لأنه واحد من
أبنائه قالوا لها: يا أخت هارون؛ لأنها أصبحت واحدة منهم، وهذا كما يقال في
العرب للتميمي مثلا: يا أخ تميم وللتميمية يا أخت تميم، فإذا جاور شخص تميما
وطال عيشه بينهم قيل له أيضًا يا أخا تميم بحكم الجوار وقيل لزوجه أو غيرها من
نسائه يا أخت تميم مثله، وكان اليهود يوزعون أنفسهم على أسباطهم كما كان
العرب يوزعون أنفسهم على قبائلهم [٢] وتتشابه في ذلك عيشة هذين الشعبين اللذين
يَمُتَّان إلى أصل واحد، ويتفرعان من أرومة واحدة.
فكان لهذه العوامل الثلاثة ذلك الأثر في انقطاع نسبة مريم إلى بيت أبيها من
سبط يهوذا إذا صح أنه كان من ذلك السبط، وفي اتصال نسبتها ببيت هارون من
سبط لاوي إذ تربت في بيت أحد أحباره، ثم وفت نذر أمها فترهبت في البيت الذي
نذرتها له، وكان بيت هارون هو الذي يقوم بشأنه وينسب كل شي فيه له وكان ذلك
حقهم الذي أعطتهم التوراة إياه من عهد أبيهم هارون إلى ذلك العهد كما ورد ذلك في
الإصحاح العاشر من سفر التثنية (هناك مات هارون وهناك دفن فكهن العازر ابنه
عوضًا عنه) .
فلما حملت مريم بابنها وأتت به قومها تحمله بعد وضعها له خاطبوها هذا
الخطاب الذي تخاطب به كل مترهبة مثلها {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ
سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِياًّ} (مريم: ٢٨) وقد آثروا خطابها بذلك على غيره ولم
يقولوا لها: يا مريم أو نحو ذلك؛ ليشيروا بذلك إلى أن ما أتت به إلا يليق بمترهبة
مثلها قضت حياتها بين الأحبار حتى صارت كواحد منهم وعدت أختًا لهم، فقولهم
يا أخت هارون في قوة قولهم يا أخت الأحبار سواء بسواء.
فالمراد بهارون في الآية هارون أخو موسى قطعًا، وقد قال كعب الأحبار
لعائشة رضي الله عنها: إن هارون فيها ليس أخا موسى فقالت له: كذبت، فقال
لها: يا أم المؤمنين إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر وإلا
فإني أجد بينهما ستمائة سنة فسكتت والحق مع عائشة رضي الله عنها. وهذا
خطاب تسوغه العربية وإن كان بين مريم وهارون أكثر من ستمائة سنة، وأين من
هذا القول المبني على دقائق التاريخ الإسرائيلي ما يقوله الذي يذهب إلى أن هارون
في الآية غير هارون أخي موسى من أن أهل الصلاح فيهم كانوا يسمون هارون،
وأن هارون هذا كان رجلاً صالحًا في عهدها، قيل: إنه يوم مات تبع جنازته
أربعون ألفًا من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون سوى سائر الناس، فمن يصدقنا
في هذا الغلو؟ ومن هو هارون هذا الذي لا يعدو أمره إلا أن يكون هيان بن بيان،
ولو تبع جنازته ثمانون ألفا يسمون هارون لا أربعون، وقيل: إنه كان أخًا لمريم
من أبيها وهو قول مثل سابقه من تلك الإسرائيليات التي اخترعت لتفسير بعض
آيات القرآن الكريم ولم يخف أمرها على كثير من محققي المفسرين ولكنه كان لها
أثرها في صرف المفسرين عن الرجوع إلى غيرها مما صح من أخبار بني
إسرائيل والانتفاع به بدلها في علم التفسير.
وإني الآن في حالة من هذا الرأي الذي أذهب إليه في تفسير تلك الآيات بعد
الرجوع إلى تاريخ هذه النذيرة لا أشك معها في أن شعب بني إسرائيل كان لا
يخاطبها إلا هذا الخطاب المحبوب (أخت هارون) فأصبح هو الغالب عليها
وأصبحت لا تُعْرَف إلا به، ونسي الناس نسبها الجسدي إلى أبيها وآثروا عليه هذا
النسب الروحي إلى هارون أب الأحبار الذين ربوها هذه التربية الروحية التي
صرفت قلوب الشعب إليها وجعلتهم يلهجون بذكرها، وما أخالهم كانوا يعنون بأبيها
في قولهم: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} (مريم: ٢٨) إلا زكريا عليه السلام فهو
الذي تولى تربيتها وكان الأب الروحي لها.
وإني لا أشك أيضًا في أنهم كما كانوا ينادونها هذا النداء المحبوب (أخت
هارون) كانوا ينادونها نداء آخر محبوبًا (ابنة عمران) عمران أبي موسى وهارون
الذي جعل من الآباء الأولين للأنبياء والمؤمنين مع آدم ونوح وإبراهيم {إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل عمران: ٣٣)
ولماذا لا تكون مريم ابنة روحية لعمران وهي أخت روحية لابنه هارون؟ اللهم إني
لأعجب من هذه النسبة إلى عمران. كيف لا يلتفت إليها أحد من المفسرين فيذهب
بعضهم في قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ} (التحريم: ١٢) إلى أن عمران
فيه هو أبو موسى ويؤول فيه بتأويل من تأويلاتهم كما ذهب بعضهم إلى مثل هذا
في قوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} (مريم: ٢٨) وقد كان عمران أقرب أولئك
الآباء السابقين إلى اليهود وهو والد موسى صاحب شريعتهم ومنشئ أمتهم. فمن
المعقول جدًّا أن ينسبوا إليه هذه النسبة التشريفية كل من يتعلقون بحبه منهم مثل
هذه النذيرة أو غيرها من نسائهم أو رجالهم.
وأما قوله تعالى في حق والدتها: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ} (آل عمران:
٣٥) فالإضافة فيه على معنى من، والمراد امرأة من عمران وقد كانت حنا والدة
مريم من بنات هارون بن عمران مثل أليصابات، وهذه الإضافة يقصد منها في
القرآن الكريم تشريف والدة مريم بإضافتها إلى عمران عقب ذكره اصطفاءه له
ولآله على العالمين، وهي أيضًا من آله من جهة إيمانها ومن جهة نسبها، وهذا كما
قصد من إضافة ابنتها إلى هارون وعمران تشريفها فكلها إضافات تشريفية لا
تقتضي نسبًا حقيقية، وقد تكون حنا من غير سبط عمران ولكنها تنسب إليه؛ لأن
أبوته المذكورة في القرآن الكريم لكل المؤمنين من بني إسرائيل فيدخل فيها كل
الأسباط ولا يختص بها سبط دون سبط.
وإذ بعدنا بالقرآن الكريم عن مجال الطعن وهو ما يمتاز به تفسيرنا لتلك
الآيات مع ما يقوم عليه من تلك الأسس التاريخية واللغوية فلا نحب أن نترك هذا
البحث بدون أن نختمه بذكر رأينا في اسم والد مريم الذي جاءت بها أمها حنا منه
فقد يكون اسمه هالي أو عالي، وقد يكون اسمه يهوياقيم وقد يكون اسمه عمران
بهاتين النسبتين التشريفيتين (أخت هارون وابنه عمران) نسي الناس فيهما نسبتها
الحقيقية، وساعد على ذلك موت أبيها قبل أن تلدها أمها، ولا يوجد الآن نص
صريح في القرآن الكريم أو الأناجيل الموجودة لدى المسيحيين يمكن أن يؤخذ منه
اسم أبيها بيقين. فأما القرآن الكريم فقد جاء فيه: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ} (التحريم:
١٢) ولكن هذا شأنه ما لو كان قيل فيها ابنة إسرائيل أو ابنة إبراهيم أو غيرهما
من آبائها الأولين الذين يصح نسبها إليهم على طريق التشريف والتعظيم، وأما
إنجيل يعقوب الذي سمي فيه أبوها يهوياقيم فهو ليس من الأناجيل الموثوق بها
لدى المسيحيين [٣]
وأما إنجيل لوقا الذي ورد فيه اسم هالي فإن هذا الاسم لم يرد فيه مضافًا
صريحًا إلى مريم، وإنما ذكره مضافًا إلى ابن عمها يوسف النجار فيما ذكره من
نسب المسيح وقد قال: إنه كان فيما يظنه الناس ابن يوسف هذا خطيب أمه مريم،
وهذا هو نصه في ذلك من الإصحاح الثالث (ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين
سنة وهو على ما كان يظن ابن يوسف بن هالي بن منثات) فهو في صريح هذا
النص والد يوسف لا والد مريم، ولكن إنجيل متى ذكر في نسب المسيح من
إصحاحه الأول أن رجل مريم التي ولد منها المسيح يوسف بن يعقوب بن متان إلخ
فوالد يوسف في هذا النسب يعقوب لا هالي وهذا تناقض ظاهر فاضطروا في دفع
هذا التناقض إلى أن يقولوا: إن هالي كان والد يوسف من جهة مريم؛ لأنه لم يكن
لأبيها ولد ذكر فنسب إليه يوسف على ما كان مقررًا عند اليهود في ذلك، ولكن
التناقض بين الإنجيليين في نسب المسيح لا يقف عند هذا التناقض، وقد ذكر لوقا
في نسب المسيح إلى إبراهيم عليهم السلام أربعة وخمسين أبًا، وذكر متى واحدًا
وأربعين أبًا، فمن الجائز أن يكون هالي من آباء يوسف الذين تركهم متى أو نحو
ذلك، وليس أبا لمريم، وليس عندهم نص غير هذا النص قيل فيه صريحًا إن مريم
كانت ابنة هالي حتى يمكننا أن نجزم به في نسبتها إليه، وغاية ما عندهم في ذلك
أن اليهود كانوا يسمونها مريم بنت هالي ولكن في أي كتاب وفي أي زمان سمى
اليهود بذلك مريم وزنًا عليها السلام؟
... ... ... ... ... ... ... ... عبد المتعال الصعيدي
... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بكلية اللغة العربية