(تابع لمكتوب ١٩) من الخطأ أن يعتقد معتقد أن الحكومات المطلقة تكره تقدّم سير التعليم العام وتعاديه عن قصد، فما الذي تخشاه منه، وليس هو إلا جملة أنواع من العرفان هي تحرّرها وتصوّرها كيفما شاءت؟ أليس بيدها مقاليد هذه الجملة؟ أليست طرق التعليم التي تقرّ عليها وهي المتبعة دون غيرها هي أحسن ما وجدته لتمكين أصل الرضوخ للقوّة الحاكمة في نفوس المتعلمين؟ إن أخوف ما أخافه على الأمة من المخازي المهينة التي تشين شرفها هي العبودية في الاختيار، فإن الأصفاد التي تقيّد الرقيق قد تسقط بمقاومة قليلة (وروى لنا التاريخ في ذلك أكثر من مثل) وأما ما يتزيّا به حواشي الأمراء وخدمهم من الملابس الرسمية، فما أطول بقاءه على أبدانهم! ! إذا تعلمت الأمة بالتربية الفاسدة الطاعة والانقياد، وكان الباعث لها عليهما المنفعة أو الأثرة أو الوجدان، كان ذلك كل ما يطلبه منها مربيها. إن مذهب القائلين بوجوب توسط الحكومة في التعليم مؤسس كله على أمور الاعتقاد التقليدي، وعلى أن السلف كانوا يأتمرون بأوامر مدير المدرسة أو رئيس القرية، كما نُقل إلينا ذلك في آثارهم، فلا يطالب أصحاب هذا المذهب من يعلمونهم بالاستقلال في الفكر والعمل، وإنما يحملونهم على العمل بما يُقال لهم، فتكون قلوب الأطفال بأيدي معلميهم مادة لينة يتخذون منها للحكومة رعية نافعة مطيعة، وإذا كانت هذه هي غايتهم التي يرمون إليها، فهم لا يبالون بما عداها، بل إن أحب شيء إليهم أن تصير المدرسة بهذه الطريقة: مربى يتخرج منه أوساط الناس، فإن الأمة تصير بذلك أسلس للوازع قيادًا وأخفض جناحًا. لا يشك أحد في أن معاهد التعليم عندنا يرأسها كثير من الرجال العارفين الأحرار، وللمدرسة العامة فوق ذلك مزية نادرة الوجود في رأي أهل النظر وهي أنه لما كانت الثورة الفرنساوية هي الأصل في وجود القسم الأكبر منها كان من المتعسر أن تتحوّل عن مبادئها وأصولها مهما تغيرت عليها الأحوال وتبدلت الشؤون فأي معقل رفيع غيرها يحمي الأفكار والآراء الحديثة من إغارات مذاهب الكهنوت عليها؟ كل يوم تتخرج من مدارسنا الاختيارية وكلياتنا عقول سليمة، بل عقول حرة أيضًا، إن في استطاعة الحكومات أن تسن ما شاءت من قوانين التعليم، وليس في وسعها أن تبطل تأثير علم الحكمة والأفكار التي ولدتها ثورة سنة ١٧٨٩ وغيرها من المؤثرات التي تعمل في نفوس الأحداث رغمًا عن كل قانون ونظام، من أجل هذا أنا لا أعيب المدارس لذاتها، وإنما أعيب فيها مجموع طرق التعليم من حيث هو مؤسس على أوهامنا وأخلاقنا وعوائدنا. التربية الخاصة عندنا هي أيضًا أقل قيمة من التربية العامة، فإن الوليد عندما يسلك سبيل الحياة لا يتوجه قصدنا إلا إلى إلزامه الجري على مألوف العادة، وما يلقى في ذهنه من المعارف كله تجريبي، فمن ذا الذي فكر إلى الآن في جعله مساوقًا لفطرة الإنسان ومناسبًا لها؟ إننا منذ نصف قرن قد جدّدنا طرق تناول العلوم الرياضية والطبيعية، وفنون الاقتصاد السياسي والتاريخ، والحكمة والأدب والانتقاد وكل شيء إلا ما يختص بتربية الأطفال , على أنها هي التي كان يجب البداءة بها في التغيير. أود قبل كل شيء أن يُحترم وجود الإنسان حتى في ذات الطفل، إني لو أتاح لي الحظ سماع خطب علماء الأخلاق ورجال الحكومة في مذهب الاشتراكيين لما خامرني شك في أن هذا المذهب فاسد ممقوت، مغاير للدين، بما لهم على ذلك من الحجج القوية والبراهين الصحيحة، وأنا منحاز معهم إلى فريق ذوي الاستقامة والصلاح، فاسمعي ما يقولونه في شأن التربية والتعليم عندنا، يقول قائلهم: إني إذا دخلت مدارسنا الابتدائية الثانوية لا يسعني إلا أن أعترف على الفور بأن ما فيها من الأبنية وأنواع التأديب وتوحيد طرق التعليم واختلاط الدروس، كل ذلك لم يوضع إلا لحبس الجسم والعقل والتضييق عليهما، فالمصريون على ما يروى عنهم قد اخترعوا أفرانًا لطبخ الدجاج، ونحن قد اكتشفنا أفران طبخ التلامذة. إن القوتين اللتين يعتنى بإنضاجهما في هؤلاء أشد العناية على هذه الحرارة الصناعية، وهما قوتا التقليد والذاكرة، هما ولا شك أقل جميع القوى الإنسانية كشفًا عن حقيقة العقل وإظهار الملكات الصحيحة، فكأن المعهود إليهم بالتربية والتعليم قصدوا أولاً وبالذات أن يجعلوا كل رجل من أول نشأته شبيهًا بجميع الناس، ولست أعدم قائلاً يقول: إن ذلك هو إحدى النتائج الضرورية لتطلعنا إلى الحكومة الجمهورية، وتحققنا بأصوله، فأجيبه: إن هذا القول من الخبط والخلط الغريب، فكيف يشبّه توحد المعارف والملكات بالمساواة في الحقوق؟ ألا يرى أن سكان الولايات المتحدة على إيغالهم أكثر منا في الأخذ بسنة النظام الجمهوري هم على العكس منا يزداد فيهم شعور الاستقلال بالوجود الشخصي الذي هو أصل الحرية حياة وقوة، فتظهر آثاره في أعمالهم ظهورًا جليًّا؟ إن الشاب ليمكنه أن يتعلم من جديد مستقلاًّ بنفسه إن أراد، ما لم يكن أحسن تعلمه أثناء دراسته، وهذا ما وقع لجميعنا بعد الخروج من المدرسة، ولكن من ذا الذي يفكه من أغلال العوائد التي تخلق بها في صغره؟ كيف يتيسر لهذا المنفلت من المدرسة أن يهتدي في مستقبله بمجرد ما اكتسبه من المعارف، مع أنه إلى وقت خروجه منها كان لا يستقل بعمل من أعماله، بل كان يعملها جميعها بأعين معلميه؟ ما الحيلة في إحياء قوة نفسه بعد أن أنهكها التأديب المؤدي إلى درجة البهيمية؟ ما معنى الكلام على الزاجر النفسي إذا كان وجدان اليافع يُسلب منه ويُوضع بأيدي من يديرون شؤونه؟ ذلك هو أخص ما أخشاه من أنواع الخطر، ومن العبث أن يتمثل هنا ببعض مشاهير الرجال الذين كانوا في زمن طفوليتهم في أشد المراقبة والحصر لكن لم يؤثر هذا في مستقبلهم شيئًا، فيقال: إن فولتيير [١] مثلاً تربّى في حجر اليسوعيين , وتخرّج التيتانيون [٢] الذين اشتهروا في ثورة سنة ١٧٨٩م على رجال الكهنوت، فإنني لا أتكلم هنا عن الأفراد من الرجال الشذّاذ، وإنما أقصد بكلامي جملة الأمة وعامتها، وأُسائل نفسي عما يحدثه مثل هذا النظام من الأثر في طباع أوساطها، كوني على يقين أنه ليس من الميسور لكل واحد أن يجد ما يكفي من القوة لاسترجاع ما فقده من سلطانه على نفسه بعد أن ألقى لغيره زمام عزيمته. إنك قد لاقيت في الناس من جرى الاصطلاح بتسميتهم (الشبان العارفين) فهل رأيت منهم كثيرًا يمتازون بجرأة الجنان الحقيقية، ألم تريهم يقاومون في الغالب من وسائل الترقي وطرق الإصلاح ما عساه أن يذهب ببعض آمالهم، ويسخرون به ميلاً مع الأثرة وحبًا للاختصاص، وألا تجدينهم أشد عداوة من جهلة العامة لبعض العلوم؟ إنهم ليؤمنون على السواء بكل ما قدسه مرور الزمن عليه وآراء الناس فيه غير مهتمين بالتمييز بين صحيحه وفاسده، وحقه وباطله، وما لهم ولهذا التمييز إذا كانت مهارتهم توصلهم إلى مقاصدهم، هل هم في هذا العالم حتى يشتغلوا بمصالح غيرهم؟ كلا، إنهم ليقنعون بنقصهم الذي يظهرونه للناس في مظهر الكمال ويهزءون بما كان من جد الخائبين وإخلاص المخلصين، وصدق نفوس الصادقين، وهم لما فيهم من خفة الأحلام وكثرة المجون والغرور والترف يلتمسون في كل أمر وسيلة الانتفاع بحاضرهم، ومع قلة ما لهم من المعارف الحقة يظهرون في مظهر العارفين بكل شيء، المجتمع الإنساني هو حلبة سباق كبرى، فهم فيها يعملون لمزاحمة غيرهم في الحصول على سبقها [٣] ، أو على الألقاب التي تعطى في العادة لمن يقاربون هذا السبق، فتفضل الشخص الذاتي هو أيضًا في هذا الميدان الجديد لا يلتفت إليهم كثيرًا؛ لأن الذي يمنح الجوائز هي المحاباة، والذين ينالونها هم أهل الدسائس والخدع، فلا جرم إذن أن كدح المتعلمون من الشباب بعد خروجهم من ربقة النظام المدرسي في دخولهم تحت ولاية الحكومة. إن سمعتِ كلامي وصدّقتِ قولي فلا تربي ولدنا على الطرق المتبعة، وربما كان عملنا في ذلك أحسن من عمل غيرنا أو أسوأ منه، إلا أننا على كل حال نكون قد أقمنا حقًا مقدسًا، فإن تربية الطفل منوطة بالبيت والأهل والعشيرة قبل أن تناط بالمجتمع الإنساني. ما هذه الكلمات التي قد جمح لها قلمي؟ قلت: إن التربية منوطة بالبيت، ولكن واأسفى على بيتنا، فقد هدم، نعم، إن عشّنا الذي كنا لا بد أن نناجي فيه بأحسن أمانينا وتسكنه أعز آمالنا قد ثارت عليه عواصف المحن فدمرته تدميرًا. لا بأس علينا من ذلك، فسنعيد بناءه بروابط الحب فوق جو الفتن، فأكون معك في هذا العمل بقلبي، وأنت تسهرين وتنوبين عني في السهر على حراسة ذخرنا، فإني قد استودعتك إياه، والسلام. ((يتبع بمقال تالٍ))