للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(الوباء والعدوى والوقاية)
ظهرت الهيضة الوبائية في بلدة موشة التابعة لمديرية أسيوط وانتقلت إلى
القاهرة ثم ظهرت في عدة بلاد، وقد اعتنت الحكومة بالوقاية منها، واهتم رجال
الصحة بمنع انتشارها بقدر الإمكان، ولا أظن أن العناية في غير القاهرة مثلها فيها
وإن كان متيسرًا، على أن حفظ الماء من القذارة في الأرياف عسر جدًّا وإلزام الناس
بالنظافة هناك أعسر، ومما يزيد الوباء فتكًا عدم مساعدة الأهالي للحكومة فيما
تفعله لوقايتهم؛ لأنهم لجهلهم يتوهمون أن الحكومة تسعى في إهلاكهم وتريد إهانتهم
وضررهم حتى أن الأكثرين يعتقدون أن أطباء الحكومة يُسفون المصابين الأدوية
السامة ليميتوهم، ولا شك أن هذا الوهم فاسد، وأن الحكومة خير لهم في هذه الحال
من أهليهم ومن أنفسهم لأنها تجتهد في وقايتهم قبل أن يصابوا وفي معالجتهم بعد ذلك
بعلم ومعرفة وإنما تخدمهم برجالهم وتنفق عليهم أموالهم المحفوظة عندها.
ونحن لا ننتقد على الحكومة إلا عدم الاعتناء بالتنظيف حيث يسكن الوطنيون
كاعتنائها به حيث يسكن الأجانب، فقد استغاثت الجرائد بمصلحة الصحة طالبة
تنظيف بعض الجهات القذرة التي اتخذها الناس مناصع (والمناصع هي المواضع
يتخلى فيها للبول والغائط) كشارع الخليج من جهة باب الخلق، فكان الواجب على
الحكومة أن تأمر بمنع التخلي هناك وفي أي شارع لئلا يتخلى فيه مصاب فيحمل
الذباب جراثيم الداء من برازه إلى البيوت المجاورة، وشيء آخر لا يزال منتقدًا من
رجال الصحة وهو معاملة الناس بالغلظة والخشونة عند أداء وظائفهم وهم يعلمون
أن الناس معذورون بالجهل ولعل هذه المعاملة لطفت بعد أمر جناب مستشار
الداخلية بالتلطف في المعاملة.
ومن أسباب انتشار الوباء جهل الأهلين بصحة العدوى، وهي ثابتة شرعًا
وعلمًا واختبارًا بالمشاهدة، وأما العدوى المنفية بالحديث فهي ما كان يعتقد في
الجاهلية من حصول ذلك بطبعه من غير قدرة الله تعالى وفي روايات الحديث ما
يدل على ذلك.
أخرج أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة: (لا عدوى ولا طيرة ولا
هامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد) فبعد أن نفى ما كانت تعتقده
الجاهلية أمر بالفرار من المجذوم، وصرح الحافظ ابن حجر وغيره من شراح
البخاري في حديث المجذوم بأن العلماء المحققين لا سيما الشافعية قالوا بإثبات
العدوى على أنها سبب من الأسباب العادية التي قام بها نظام الكون.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: (لا عدوى ولا هامة ولا صفر،
ولا يحل الممرض على المصح وليحل المصح حيث شاء قيل: ولم ذاك يا رسول
الله، قال: لأنه أذى) وهذا أصرح من الأول في إثبات سببية العدوى، وأخرج
أحمد والبخاري ومسلم عن أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف والنسائي عن
الأول وأبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا
سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها)
فهذا الحديث الصحيح أصل في الحجر على المصابين أن يخرجوا فيخالطوا الناس
الأصحاء فتنتقل إليهم بذلك العدوى، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ومن أسباب انتشار الوباء الجهل بمداراة الصحة والوقاية من الأمراض،
ولو كان الناس يعملون بالآداب الشرعية لكان لهم فيها غناء فإن أهم أركان الصحة
النظافة وقد اشترط في تطهير الأشياء وتنظيفها عند الشافعية وأكثر أهل هذا القطر
منهم أن يكون الماء الطاهر واردًا على الشيء الذي يراد تطهيره لا مورودًا، وهذا
الشرط موافق للصحة، فإن الثوب أو العضو المتنجس إذا ورد على الماء ينتشر في
الماء ميكروب المرض وإذا ورد الماء عليه يزيل النجاسة وما فيها من الميكروبات،
ولا يجوز وضع النجاسة في الماء ولا اليد المتنجسة على تفصيل في ذلك. ومما لا
خلاف فيه بين المسلمين أن كل ما علم ضرره بالاختبار أو بقول الطبيب الموثوق به
فالواجب اجتنابه.
وأما الاحتياط في الأكل والشرب فأحسن ما يذكر فيه الآن ما روي عن النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم في بيان سبب عدم قبول الطبيب الذي أهداه إليه
المقوقس ملك القبط وهو (لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع) ولا أذكر من
خرَّجه من المحدثين وهو مذكور في كتب السير وهذا أصل عظيم في الوقاية من
الهيضة الوبائية فإن جراثيم الهيضة لا تضر إلا إذا انتقلت من المعدة إلى الأمعاء في
طعام غير مهضوم، فمن يأكل عن جوع حقيقي ولا يكثر من الأكل فإنه يهضم ما
أكله بسهولة فإذا وجد في طعامه وشرابه شيء من جراثيم الهيضة الوبائية
(الكوليرا) فإنه حينئذ يُهضم ولا يضر، وإذا كان مع هذا يراعي النظافة في
الطعام والماء مراعيًا فيه وصايا الأطباء فذلك أكمل الاحتياط.
ولا يتوهم أن الحديث المذكور آنفًا يدل على أن التطبب غير مطلوب شرعًا
فقد وردت الأحاديث الصحيحة والحسنة أن لكل داء دواء إلا الموت وفي رواية إلا
الهرم وكثير من الأحكام الشرعية يبنى على قول الأطباء حتى في العبادات، فالاعتماد
على قول الطبيب العدل في ذلك واجب شرعًا، وكذلك غير العدل إن صدقه فإننا كثيرًا
ما نجزم بصدق من لم توجد فيه صفات العدالة الشرعية كلها؛ لأننا عرفنا صدقه
ومهارته بالتجربة.
* * *
(إبطال المولد الحسيني وغيره)
أمرت الحكوم بإبطال المولد الحسيني وغيره؛ لأن الاحتياط الصحي يقضي
بتقليل الاجتماع والازدحام في أيام الوباء لا سيما مثل اجتماع الموالد المشتملة على
الفحش والفجور والإسراف في كل الأمور حتى تكون في بيت الله تعالى، كالمزبلة
لا يمكن لمن يدخله أن يصلي فيه إلا إذا كان معه سجادة يصلي عليها. ولعل الله
تعالى يوفق الحكومة إلى إبطال هذه الموالد بالمرة؛ إذا كان رجال الدين لا يسعون
بإزالة المنكرات الدينية منها، فإن زعم الزاعمون أن فيها منفعة تجارية فلتكن أسواقًا
تجارية لا صبغة للدين فيها، وقد أرادت إحدى الجرائد تسلية الناس عن إبطال
المولد الحسيني فقالت: إن هذه الموالد ليست من أصول الدين ولكن النظافة من
أصول الدين كأنها تعني أن الموالد من فروع الدين، وأن مراعاة الأصل مقدمة على
مراعاة الفرع، ذلك جهل على جهل فأصول الدين عقائده، والنظافة ليست منها وإنما
هي من الفروع العملية، وأما الموالد فليست من الأصول ولا من الفروع بل هي
من البدع القبيحة والضلالات المشتملة على كثير من الفواحش والمحرمات.
* * *
(الخمارة الإسلامية والاستهانة بالدين اعتمادًا على الأولياء)
فشا شرب الخمر في مسلمي مصر وجاهروا به حتى كأنه مباح أو مستحب
ويقال أنهم أكثر شربًا من القبط والإفرنج، لكنهم ظلوا مقصرين في هذا النوع من
الفسق إذ لم يشتغلوا ببيع الخمر حتى أزال عنهم عار التقصير واحد منهم اتخذ له
حانة يفتخر بأنها الحانة الإسلامية الوحيدة، وكأن السكارى في الحانة الإسلامية هم
المتحمسون فيما يسمّيه الجهلاء في هذه الأيام لباب الإسلام وأظهر مميزات المسلمين،
مثال من ذلك أنني مررت من أمامها ليلاً فرأيت على بابها رجلاً يناهز الستين
والكأس في يده وهو يصيح (يا سيد يا باب النبي) كأنه علم أن الذين يقلدهم هو
وأمثاله في شرب الخمر يشربون على أسماء الكبراء والأمراء والملوك وهو ما
تسميه الجرائد الآن النخب فأراد أن يشرب نخب السيد البدوي وإلا فهو يشيد باسمه
لأجل أن يشفع له، فخطر لي أن أرمي كلمة أنهاه بها فقلت: وهل أمرك النبي بهذا؟
فصاح بأعلى صوته: هو يغفر لي، هو يحب السيد، الله يحب النبي والسيد،
النبي عربي ما هو تركي، وقد علمت أنه يعرّض بذَمِّي بكلمة تركي؛ لأنه رأى
زيّي كزي علماء الترك، وكأني بمن معه قد اعتقدوا أنه من الأولياء؛ لأنه ذكر اسم
الله والنبي والسيد على الخمر، وإن كان الفقهاء يعدون هذا استهانة بالدين وبحثوا
في كفر صاحبه.
***
سيجمع ما كتبته الجرائد وما نظمه الشعراء في فقيد العلم والإصلاح السيد عبد
الرحمن الكواكبي في مجموعة تطبع فنرجو من الأدباء الذين رثوه ولم يرسلوا إلينا
مراثيهم أن يرسلوها عن قريب إلى إدارة مجلة المنار بمصر ولهم الثناء والشكر.
(أرجأنا الكلام في مسيح الهند إلى الجزء الآتي)