للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: فؤاد الخطيب


شعر منثور في العربية والعرب
من إنشاء فؤاد الخطيب
أستاذ الآداب العربية في مدرسة غردون الكلية بالخرطوم

لا جرم أن اللغة العربية أجزل اللغات السامية، وأوسعها مجالاً، وأحكمها
استعمالاً، لا يذهب مرّ العشي بسلاستها، ولا يعبث كرّ الغداة بطلاوتها.
ولقد طاحت دول وبادت ملل، فاستسرّت لغاتها، وعفت آياتها؛ وتلك اللغة
تدور مع الأحقاب، في غلائل الآداب، وغلواء الشباب، لا يرهقها هرم، ولا
يُخلقها قِدَم. فكأنها وهي ابنة القرون الخالية والأمم الماضية، نشأت في اليوم
الحاضر أو أمس الدابر، فجاءت دفعة واحدة مستوفيةً أقسام جمالها، وصحة أبنية
أسمائها وأفعالها؛ تجول بها أسلات الألسنة وأطراف اليراع، في صدور المحافل
وبطون الرقاع، فتنظم فرائها، وتعقل شواردها، فلا تشذ نادرة، ولا تندّ بادرة.
أجل: إن السيف الباتر، والجبروت القاهر، والمكاتب المتماوجة بالزحام،
والمدارس المكتظة بالطلاب، والصحف الذائعة في الآفاق، والوفود الضاربة في
الأصقاع، لم تُحوِّل لغة عن أصلها، ولم تجذب أمة بحبلها. فأين ذلك مما وقع
للعربية، مع تلك الشراذم البدوية؟ فإنها لم تنهب الأرض في قطار، ولم تجزع [١]
الفضاء في منطاد، ولم تمخر البحار بالبخار؛ بل جابت المسارح، ورادت المكامن،
وطافت المجامع؛ فولجت كل مصر، وسكنت كل نفس، وقالت لكل شيء:
حسبك فإنك عربي منذ اليوم.
فسقى الغيث ذلك العهد القديم، ورعى الله ذلك العربيّ الصميم؛ فلقد كان نورًا
في الظلمات، وهدى في الشبهات؛ إذا جال في مضمار الفكر، وراوح بين النظم
والنثر؛ صور على الطرس، حقيقة النفس، فناجتك بأسرارها، وحدثتك بأخبارها؛
فإذا الغيب تكاد تراه عيناك، وإذا الوهم تكاد تلمسه يداك.
فهكذا الأدب، وكذلك العرب: فلقد سبروا غور العلم، ومشوا إلى أعماق
الفهم، فانتزعوا العقول من عقالها، واستلوا الوجود من العدم، واستخرجوا اليقين
من الريب، وتغلغلوا بين الذرة وأجزائها، وتسرّبوا بين العصا ولحائها، فكانوا
وكل سحر غير سحرهم باطل، وكل بلد خيّموا فيه بابل.
اللهم سبحانك! أينطق العربي بالحكمة الناصعة، ويهتف بالقافية الرائعة،
فتكاد لحلاوة أبياتها تقبل أفواه رواتها؛ وهو في ذلك المنقطع من الأرض، يهيم
في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا مشت عيونه ففي صميم القفر، وإذا وقفت به
فعلى أديم الصخر..؟
فلا يزال في الوجود، كالمثل الشرود، تتلقفه الأقطار، وتتخطفه الأسفار،
فمن هضاب يحوم فيها كالعقبان، إلى بطاح يعمل فيها كالسّيدان، ومن مجالدة
زعزع نكباء تنسف التلال، إلى مكابدة هاجرة سجراء تأكل الظلال.
فما ثَم مرتع شائق فيستمد من جماله البيان. وما ثَم مورد رائق فيمتح من
عذبه اللسان، وإنما هي أرجاء عابسة، وبيداء طامسة، تجول فيها الأفكار فتكل،
وتدور فيها الأبصار فتضل.
فسلام على تلك الجزيرة الجرداء، ومرحى لتلك المجاهل الخلاء، فوالله ما
تعوزها الرياض مبثوثة الزرابي والأنماط، ولا الحقول مبسوطة البرود والرياض،
ولا النمير يترقرق، على حصباء تتألق، فقد نبتت فيها حسنات الزمان، وتفجرت
منها ينابيع العرفان، فغنيت بنضرة الآداب، عن بهجة الأعشاب، وبكمال السكان
عن جمال المكان؛ بل كانت مسبح الروح الأمين، وموئل الدنيا والدين، فتبارك
الله أحسن الخالقين.
فأي نياط لا يتقطع، وأي مهجة لا تتصدع؟ وقد أودى أولئك الكرام،
وتنكرت تلك الأيام، حتى تبازى الرُّهام، واستنسر الحمام، ولم يبق غير أمة
مكسال، لا تتحرك إلا بزلزال، ولا تقطع من أشواط الدهر، إلا مسافة العمر من
القبر.
فأين بنو قحطان وفتيان عدنان؟ فيهبوا بالنفوس من غمرتها، وينهضوا
باللغة من كبوتها، فتلك مفاخر بلادهم، ومآثر أجدادهم، ملء الأمجاد والأغوار،
وطلاع الدفاتر والأسفار، وإنها لتطوي بالمرء مراحل العصور والأجيال، وتطل
به على عالم الحقائق من ملكوت الخيال.
أما والله لولا تنطس بعض المتزمتين [٢] وسدهم على اللغة أبواب التعريب
والاشتقاق، فحجروها في الحواشي، وأقبعوها في المتون - لما ازورّ الطلاب عنها،
وامتلأوا نفورًا منها، وكان العلم كل العلم أن يمضغ المرء كلام غيره، ويلوك
أقوال سواه، فيتشدق بالمذاهب العقيمة، ويتبجح بالأمثال السقيمة، وإن قعد به
العجز عن إنشاء فقرة، وتصوير فكرة، ولم يغن عنه سواد الحدود والمصطلحات،
وما افْتَنَّ فيه من الشواهد والنكات.
ولا بِدع فإن الأصول وسيلة والإنشاء غاية، ولشد ما بينهما من شاسع الفرق
وواسع البون. وكم بين الماء والسراب، والقشور واللباب!
وأما من رزق قريحة وقادة، وبصيرة نقادة، وإحاطة بما لا مندوحة عنه من
قواعد اللغة وأصول العربية، ثم راض نفسه على مزاولة أساليب العرب ومناحيهم،
وتوفر على مطالعة تراكيبهم ومراميهم، فقد اكتسب من ملكتهم ما أخرجه إلى
لهجتهم فبات وما يعترضه عيّ ولا ترتهنه لكنة، ولا تتحيف بيانه عجمة.
وهل البلاغة - لعمري - إلا بصقال الديباجة، ومتانة الأسلوب، وحلاوة
الأداء، لتكون المعاني أعلق بالخاطر، وأسرى في السمع، وأفعل في النفس؟
أرأيتك - وقد تثقفت الألفاظ المتخيرة، وعرفت أين تضع يدك في سبكها وتأليفها -
كيف تهز القلوب وتخلب الألباب، وتملك قياد الأهواء؟
ولله در أبي هلال العسكري إذ قال في الصناعتين: (إن مدار البلاغة على
تحسين اللفظ. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابًا) . وقال ابن الأثير:
إن اللفظة الواحدة تنتقل من هيئة إلى أخرى فتحسن أو تقبح.
هذه لفظة الأرض فإنها لم ترد في القرآن الكريم إلا مفردة سواء أفردت بالذكر
عن السماء كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} (نوح: ١٧) أو
قرنت بالسماء مفردة كما في قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلاَّ
بِإِذْنِهِ} (الحج: ٦٥) أو مجموعة كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ} (إبراهيم: ٣٢) ولو كان استعمالها بلفظ الجمع مستحسنًا لكان هذا
الموضع أو شبهه أليق به. ولمّا أراد أن يأتي بها مجموعة قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: ١٢) وكذلك قول أفصح الخلق لبعض
النساء: (ارجعن مأزورات غير مأجورات) . وحسبك أن المعاني المنقولة من لغة
إلى أخرى تفقد ماءها، وتفارق صفاءها، وما ذلك إلا لأنها انسلخت من برودها
المعلمة، وانخلعت من قوالبها المحكمة. فكانت شبحًا ناحلاً، وخيالاً ماثلاً.
وليت شعري ماذا يضر المعاني إذا أجيدت لها المباني، فكانت شرعًا في
المتانة، وسواء في الصياغة؟ ولا سيّما وقد جاشت غوارب العجمة، وفشت لوثة
اللحن، ومست الحاجة إلى شد أواصر اللغة، وتقويم منآد اللسان.
ألا وإنه لمن البرّ بالأدب، والغيرة الصادقة على العرب؛ أن ينسج المتأدب
على منوال الفصحاء، ويطبع على غِرار البلغاء، فذلك تاريخ آبائنا يصيح بنا
من ورائنا، وكله دموع تترى، لا ألفاظ تتلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: ٢٦٩) والله الموفق إلى الصواب.