إن غرض الأمم الذي ترمي إليه في هذا الوجود إنما هو الحياة: الحياة الاجتماعية والحياة السياسية، أي أن يكون لها وجود اجتماعي راقٍ، ووجود سياسي ثابت. ومن الضروري أن تسعى الأمة لكلا الوجودين في منهجهما القويم الموصل إلى الغاية، وتُعنى بهما جميعًا، ولا تقصر مجهوداتها على بلوغ غاية أحدهما دون الآخر؛ لئلا يكون مثلها كمثل من علم بركاز من الذهب في مكان، فأسرع إليه بكل ما تصل إليه قوته وجهده، فلما بلغه لم يجد معه أداة لاستخراج ذلك الركاز، فرجع القهقرى من حيث جاء واهي القوى خائب الأمل والرجاء. فالقوانين الاجتماعية مهما كانت راقية قل أن تضمن الحياة لأمة إذا لم تكن قائمة على أساس متين هو القوانين السياسية. ومهما عنيت الحكومة بتنظيم قوانين الحياة الاجتماعية للأمة وأكثرت من مشروعات الإصلاح في المملكة في التعليم والاقتصاد والإدارة والقضاء ونحو ذلك - فإنها لا تخرج في هذا كله عن معنى الوصاية على محجور عليه لا يملك التصرف بشئون حياته الخصوصية ليثبت لنفسه وجودًا صحيحًا بين الناس، ويعمل لسعادته جهد العامل المجد. ولذا أصبح لهذا العهد شكل الحكومات التي تقوم به الحياة السياسية، لكل أمة همُّ جميع الأمم، وصار من المسلَّم بالبداهة أن وجود الأمة السياسي والاجتماعي بين مجاميع الإنسان الحية متوقف على شكل الحكومة؛ فكلما كانت مشاركة الشعب للحكومات أكثر، كان ذلك لدوام وجوده أضمن. لهذا السبب تكاد تكون سائر الحكومات التي للأمم المستقلة اليوم دستورية شعبية لا شأن فيها لسلطة الأفراد، بل الشأن لعامة الأمة ومشاركتها للحكومة في كل جليل وحقير من الشئون العامة، إلا أنها تتفاوت في ذلك منازل ودرجات وتختلف في الشكل اختلافًا روعي فيه الاجتهاد والنظر إلى حالة الشعوب الاجتماعية والعرفية والقابلية والاستعداد. ومما يثبت بالتجارب لهذا العهد أن أفضل شكل من أشكال الحكومات هو الدستوري، وأفضل أشكال الدستوري هو اللامركزية خصوصًا في الممالك التي تعددت فيها الفروق والمذاهب واللغات، واختلفت العوائد والتقاليد والأخلاق، فكان من المتعذر أن تساس بقانون واحد لم تراعَ فيه تلك الأحوال، ولم ينظر معه في الحاجة والزمان والمكان. ثبت ذلك بالتجارب كما ثبت أن اللامركزية هي أفضل مربٍّ لأفراد الأمة على الاستقلال الذاتي الذي هو خير وسيلة لترقي الأمم؛ لأنها - أي اللامركزية - تأبى بطبيعتها أن تكون تبعة الحكم مقصورة على أفراد قليلين تصدر عنهم القوة والعمل إلى كل ناحية من أنحاء المملكة فيكونوا كالمحرك في آلة كبيرة جدًّا إذا أصابه عطب أو ضعف تعطلت أجزاء سائر الآلة عن العمل دون أن يكون لأي جزء من هذه الأجزاء قوة ذاتية يعمل بها بنفسه ودون أن يكون مسئولاً عن نتيجة وقوفه عن العمل. ومن البديهي أن الشعب غير المسئول عن أي خطأ يصدر عن حكومته لا يشعر كل فرد منه بالتبعة، فلا يهتم بنتائج خطأ الحكومة إلا بعد الوقوع فيه، ذلك لأنه مُسَيَّر بإرادة غيره، لا سلطة له حتى ولا على نفسه؛ لأنها محكوم عليها أن تسير في السبيل الذي يريده غيره، وإن خالف رغبته ومصلحته وهواه. فاللامركزية توزع التبعة على أفراد الأمة بمقدار ما تعطيهم من السيطرة على مصالح الوطن، وبسبب ذلك تنزع عنهم ثوب الحياة الاتكالية الخَلِق الممقوت، حياة الاعتماد على غير النفس، وتفسح أمام كل فرد مجال العمل الواسع في جهاد الحياة، وتمهد للشعب بلوغ غايات المدنية والترقي والعمران من أقرب سبيل في وقت قصير، والعكس بالعكس. مثاله ما نراه لهذا العهد من الفرق بين السلطنة العثمانية التي تحكم بالمركزية وبين سويسرا التي تحكم باللامركزية، ففي هذه يرى من آثار العمران والمدنية والحياة العالية الصحيحة والوفاق الشامل لكل العناصر التي تقطن هذه المملكة الصغيرة ما لا يُرى مثله حتى في كثير من الممالك المتمدنة الراقية بفضل توزيع السلطة على أقسامها الثلاثة العنصرية وإطلاق حرية التعليم لكل عنصر من العناصر الثلاثة المؤلفة للأمة السويسرية بلسانه وبما يوافق رغباته، وإطلاق حرية العمل لكل ولاية منها فيما ينمي عمرانها ويرقي سكانها على الوجه الذي يناسب مركزهم الاقتصادي والاجتماعي بحيث صار يضرب المثل بترقي هذه البلاد الجميلة وترقي أهلها البالغين منتهى ما يريده قوم من السعادة والرفاه. أما السلطنة العثمانية التي تحكم بالمركزية فعلى نقيض ذلك؛ إذ نرى المعارف فيها منحطة والعمران قليلاً في بعض جهاتها مفقودًا في بعض آخر، ووسائل الترقي الصحيح معدومة ألبتة؛ لأن حياة الاتكال على المركز في كل شيء مستحوذة على الشعوب العثمانية كافة، والمركز مقيد لكل ولاية بقيود تمنعها عن الحركة نحو الإصلاح المطلوب إلا ببطء وبما يوافق الحال والحاجة في الغالب. والمثال على ذلك قوانين التعليم مثلاً فإنها على نقصها وعدم وفائها بالحاجة تحتم أن يكون التعليم في عدة أقطار بغير لسان أهلها، وعلى برنامج واحد غير مُراعًى فيه حاجة كل ولاية واستعداد أهلها، ثم إن المركز لا يعطي المال اللازم للتعليم لكل ولاية إلا بقدر محدود هو دون الحاجة، فينشأ عن هذا وذاك نقص في التعليم وضعف في العلم وتضييق على الراغبين فيه فتعم الجهالة، وتحرم البلاد من المعارف العالية التي هي أهم أسباب الترقي والحياة والسؤدد في كل أمة من الأمم الحية المتمدنة لهذا العهد. وعلى هذا فقس سائر الأعمال النافعة التي يتوفر بها العمران في الولايات العثمانية، فإنها لتوقف صدورها على المركز بطيئة ضعيفة بل تكاد بعض الولايات تحرم منها ألبتة. زد على ذلك أننا نرى هذه الحكومة المركزية قد أعجزها تنائي أطراف المملكة واختلاف لغات وأجناس ومشارب أهلها على أن تنفذ قوانينها في كل ولاياتها؛ فإن كثيرًا من الأقطار العثمانية ليس فيها للدولة ديوان إداري ولا محكمة ولا مدرسة ولا ثكنة ولا قلعة ولا حصن، ومنها ما لا يؤخذ منه الجنود، فبعض هذه الأقطار عالة في حمايته من المغيرين عليه على الولايات الأخرى، عملاً بمبدأ الاتكالية الممقوت، واعتمادًا على المركز. ولذا نرى هذه الحكومة المركزية لا تقدر على الدفاع عن أكثر البلاد العثمانية إذا هاجمها عدو أجنبي كما ظهر ذلك في مسألة طرابلس الغرب ومثلها كثير، ناهيك بتوالي الفتن والثورات في أنحاء السلطنة وعجزها عن إخمادها وبالأحرى عجزها عن تلافيها قبل ظهورها بما يمنع حدوثها أو امتدادها حتى إن قطرًا من الأقطار وهو اليمن لا يزال مع الدولة في حرب مستمرة منذ دخل أول عثماني فيه إلى عهد قريب. وقد ظهر للعيان أن المملكة كلها عرضة لخطر الزوال بهذه الحكومة المركزية، مهددة بفقد الاستقلال الذي يفديه كل عثماني بأعز شيء لديه وهو النفس، ويتمنى كل شعب تظله راية الهلال بقاءه ليبقى عزيزًا في وطنه أمينًا من تسلط المغيرين عليه. إذا تمهد هذا فقد علمنا أن المركزية أصبحت في مثل هذا العصر عصر التنازع الشديد في ميدان الحياة لا تصلح لترقي الأمة العثمانية المرغوب، ولا تضمن لها الحياة السياسية والاجتماعية ولا البقاء لا سيما إذا أضفنا إلى هذا حاجة الشعوب العثمانية إلى الراحة من الغوائل السياسية والفتن الداخلية، التي توالت على الدولة في العهدين: عهد الحكومة المطلقة وعهد الحكومة الدستورية، وأصيبت بسببها الدولة بغائلة الحرب البلقانية، وانفكاك أعز ولاياتها عن جسم السلطنة العثمانية، بفساد سياسة المركزية، وسياسة مزج العناصر التي ذهب إليها فريق من المتهوسين بالسيادة فَجَرُّوا على المملكة من المصائب ما لا يحتاج إلى برهان، بعد الذي حدث وكان. ولكي تأمن الأمة العثمانية على حياتها السياسية في المستقبل وعلى سلامة الدولة من غوائل الفتن والمشاغبات الداخلية والصدمات الخارجية التي يسببها عدم رضاء العناصر العثمانية والتفافها بإخلاص حول النقطة الجامعة وهي العرش العثماني الرفيع الذي أصبح وجود الأمة السياسي لازمًا لوجوده مرتبطًا به لكي تأمن الأمة على ذلك صار من المحتم على كل عثماني صادق الوطنية النظر في الأسباب التي تتماسك بها أعضاء هذا الجسم الذي تفكك بقوتي الجذب والدفع بين المركز والأطراف، ودخله الوهن والضعف المؤديان إلى الانحلال، وهذا ما دعا فريقًا من العثمانيين إلى تأليف حزب اللامركزية الإدارية بعد البحث والتروي الكثيرين فيما يضمن سلامة هذه المملكة وتضامّ كلمة شعوبها واتحادهم على العمل الأنفع لعمران البلاد وسعادتها وقوة الدولة وبقائها. فهذا الحزب يعرض على أنظار جمهور العثمانيين من إخوانه في الجامعة والوطنية برنامجه ليكون موضع النظر والبحث من سائر العثمانيين وهو يرجو أن يجد منهم أنصارًا كثيرين وأعوانًا غيورين على تنفيذ قواعد اللامركزية الإدارية في الأقطار العثمانية، والله الموفق والمعين. *** برنامج حزب اللامركزية الإدارية العثماني المادة الأولى: الدولة العلية العثمانية دولة دستورية نيابية، وكل ولاية من ولاياتها تعد جزءًا من السلطنة لا ينفك عنها بحال من الأحوال، وإنما تبنى إدارة هذه الولايات على أساس اللامركزية الإدارية، والسلطان الأعظم هو الذي يعين الوالي وقاضي القضاة. المادة الثانية: قاضي القضاة يعين القضاة الشرعيين والوالي يعين سائر الموظفين بعد اختيار مجلس الإدارة لهم (وفاقًا للمادة السابعة) ولا يجوز عزل موظف إلا بحكم من مجلس تأديب، ومن عُزل لا يجوز استخدامه ولا يعطى معاش معزولية. المادة الثالثة: يوضع نظام خاص لترقية عمال الحكومة وتأديبهم وتقاعسهم وما يتعلق بذلك. المادة الرابعة: يكون في مركز كل ولاية مجلس عمومي ومجلس إداري ومجلس معارف ومجلس أوقاف. المادة الخامسة: جميع قرارات المجلس العمومي تكون نافذة. المادة السادسة: من حقوق المجلس العمومي للولاية المراقبة على حكومتها والنظر في جميع شئون الإدارة المحلية من: تقرير ميزانية الولاية، وأمور الأمن العام والمعارف النافعة، والأوقاف، والبلدية، وتقرير ما يراه فيها، وسن النظامات لها. وأما ما كان من أمور النافعة يتعلق من بعض الوجود بالأمور العسكرية، أو السياسة الخارجية كسكك الحديد، فيرفعه بعد إبداء رأيه فيه إلى العاصمة. المادة السابعة: من حقوق مجلس إدارة الولاية وضع ميزانيتها وانتخاب جميع موظفيها. المادة الثامنة: من حقوق مجلس المعارف وضع برنامج التعليم والنظر في جميع شئونها ووضع ميزانية خاصة لها يراعى فيها حصة المعارف التي تضاف على الأعشار والويركو، وما يقرره المجلس العمومي من الضرائب لها وما لها من الأملاك والأوقاف. المادة التاسعة: من حقوق مجلس أوقاف الولاية وضع ميزانية خاصة لها والنظر في جميع شئونها فما كان منها له شروط تجب مراعاتها يكون العمل فيها بحسب شروطه، وما كان من غير ذلك يصرف فاضل ريعه على إقامة الشعائر ثم على التعليم الإسلامي. المادة العاشرة: جميع أعضاء هذه المجالس تكون بالانتخاب إلا مجلس الإدارة فإن نصف أعضائه ينتخبهم الشعب والنصف الآخر من رؤساء المصالح. المادة الحادية عشرة: تعدل طريقة الانتخاب لهذه المجالس ولمجلس المبعوثين وللمجالس البلدية بحيث تكون حرة وممثلة لجميع عناصر الشعب. المادة الثانية عشرة: ما جرى عليه العرف في بعض البلاد والأقاليم التي لا تنفذ فيها قوانين الحكومة وأحكامها يبقى على ما كان عليه الآن، ويراعى في تغيير الإدارة في كل بلاد رضاء أهلها به. المادة الثالثة عشرة: ينظر الحزب في قانون تعديل الأراضي على الوجه الذي ينمي الثروة العامة، وفي تحضير القبائل البدوية لأجل تنمية الثروة وترقية الأمة. المادة الرابعة عشرة: يكون في كل ولاية لغتان رسميتان: التركية، واللغة المحلية. المادة الخامسة عشرة: يجب تعميم التعليم في كل ولاية بلغة أهلها. المادة السادسة عشرة: أهل كل ولاية يؤدون الخدمة العسكرية في ولايتهم ويكون عسكرها على قدم الاستعداد للدفاع عنها زمن السلم، وأما سوق الجنود في زمن الحرب فهو منوط بنظارة الحربية، وحينئذ يجب على المجلس العمومي أن يتخذ الوسائل للدفاع عن الولاية.