للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السبرتزم أو استحضار الأرواح
هل يُثبت العلم وجود الأرواح وإمكان مخاطبتها؟

أحدث الآراء في هذا الشأن
أشرنا في الصفحة العلمية الماضية إلى مسألة مخاطبة الأرواح، وأظهرنا
العلاقة التي بينها وبين التنويم المغناطيسي، والحقيقة أن اعتقاد وجود الأرواح قديم
جدًّا يرجع إلى الزمن الذي نشأت فيه العقائد الدينية، وفي الكتب المنزلة إشارات
متعددة إليه، إلا أنه لم يتخذ شكله الحاضر إلا في أواسط القرن الفائت كما سيجيء
ذلك.
ولا حاجة إلى القول بأن أصحاب مذهب (السبرتزم) يعتقدون أن روح
الإنسان تفارق الجسد عند الموت، وتمضي إلى مكان مجهول، ولكنها لا تقطع
علاقاتها بهذا العالم، بل تعود إليه من وقت إلى آخر في حالات معينة، وتتجلى
لأفراد معينين من الناس يُعرفون (بالوسطاء) وليس من السهل تجليها للوسطاء
دون غيرهم ولكن سببه (على ما يدعي أصحاب هذا المذهب) هو استعداد أولئك
الوسطاء استعدادًا خاصًّا يمكنهم من الاتصال بالأرواح ويسهل وقوعهم في غيبوبة
استهوائية إذا قضت الضرورة بذلك.
والقائلون بوجود الأرواح وبإمكان استحضارها ومخاطبتها لا يسلمون من
بعض الخلط والوقوع في المتناقضات، فبينما هم يقولون بأن الأرواح غير مادية
تراهم يقولون: إنها مؤلفة من شبه مادة هي الأكتوبلازم أو أن مادة الأكتوبلازم
تنبعث منها فتتخذ شكل الإنسان الذي كانت تسكن جسده، ومن البديهي أن هذه
الدعوى لا تخرج عن حَيِّزِ النظريات التي لا تنطبق على مبدأ علمي.
ولسنا نريد الآن أن نفند مذهب (السبرتزم) أو ننفيه، وإنما نحن نعتقد أن
جميع ما كتبه أصحاب هذا المذهب والعلماء الذين يؤيدونه لا يكفي لإثبات نظريتهم
من وجه علمي، وأن انتصار فريق من مشاهير العلماء (للسبرتزم) لا يعتبر
برهانًا على صحته، نعم إن وليم ستيد وهولوكاين والسر أوليفرلودج والدكتور
تليارد وغيرهم هم من العلماء الذين يشار إليهم بالبنان، وقد حاولوا إثبات نظرية
(السبرتزم) بكل ما فيهم من قوة، ولكن مساعيهم لا تقنع جمهور العلماء، والرأي
السائد بين هؤلاء هو أن العلم لم ينجح حتى الآن في إثبات دعوى (السبرتزم)
وهذا لا يمنع من تمكنه من إثباتها في المستقبل.
ومما يدعو إلى الأسف ظهور الكثيرين من الدجالين والمشعوذين الذين حاولوا
إيهام الناس أن في وسعهم استحضار الأرواح ومخاطبتها وكثيرًا ما أقاموا الحفلات
الخاصة لذلك فتمادوا في الشعوذة وخداع الناس، وكان لانكشاف خداعهم أسوأ أثر
في النفوس من جهة مذهب (السبرتزم) مع أننا لا ننكر أن بين العلماء فريقًا سعى
لإثبات هذه المذهب بكل جد وإخلاص.
نبذة تاريخية
أميركا مهد مذهب السبرتزم
قلنا: إن اعتقاد وجود الأرواح قديم جدًّا يرجع إلى الزمن الذي نشأت فيه
العقائد الدينية، وقد كان هذا الاعتقاد شائعًا بين أقدم الأمم، ولا سيما بين المصريين
الذين كانوا يدفنون موتاهم ويطمرون معهم ما قد تحتاج إليه روح الميت من سلاح
وطعام في أثناء تجوالها في عالم الأرواح، وكان القوم يعتقدون أن روح الإنسان
تعود إلى هذا العالم من وقت إلى وقت لتتزود بما تحتاج إليها في رحلاتها النائية.
وكان الاعتقاد بإمكان الاتصال بالأرواح شائعًا بين اليهود أيضا كما يؤخذ من
رواية ساحرة (عين دور) في التوراة وخلاصتها أن الملك (شاول) لجأ إلى تلك
الساحرة لتستحضر له روح النبي صموئيل لعلها تشفع به عند الله؛ لينصره على
أعدائه فاستحضرت له الساحرة روح صموئيل وأنذرته بسوء مصيره.
على أن مذهب (السبرتزم) أو استحضار الأرواح لم يتخذ شكله الحالي إلا
في أواسط القرن التاسع عشر، وكان بدء ذلك في أميركا إذ ادَّعت أسرة رجل
يدعى فوكس (والأسرة مؤلفة من الرجل وزوجه وابنتيهما) بأن أصواتًا وحركات
غريبة كانت تزعجهم في بعض الليالي، ثم ادعت إحدى الابنتين، وهي كاترين
فوكس بأنها كانت تسمع في الليل فرقعة معينة من غير أن ترى أثرًا لمنشىء تلك
الفرقعة، وفي ذات ليلة خاطبها صوت مجهول، وقال: إنه روح أحد الذين سكنوا
ذلك المنزل، وبعد أيام ذهبت كاترين للإقامة مع أختها المتزوجة، وفي أثناء إقامتها
هنالك بدئ بوضع (السبرتزم) على أساسه الحديث، ولعل كاترين وأختها هي
أول (الوسطاء) الذين ظهروا في الصور الحديثة و (الوسيط) هو الصلة بين
العالم الروحي والعالم المادي، ووجوده شرط لازم لمخاطبة الأرواح على ما يقول
أصحاب هذا المبدأ؛ لأن للوسطاء كما سبق القول استعدادًا خاصًّا للاتصال
بالأرواح نظرًا إلى سهولة وقوعهم في غيبوبة استهوائية.
ومنذ اتخذت أيام أسرة فوكس نظرية (السبرتزم) شكلاً خاصًّا من مقتضياته
تجلي الروح للوسطاء في أحوال معينة يصحبها دائما أصوات (نقرات) على
الأبواب أو الموائد وتحريك موائد مستديرة على وجه معين لا نعلم ما هي الحكمة
في اختياره دون غيره كما أننا لا نعلم ما هي الحكمة في أن الأرواح تختار
للتخاطب أحرفًا هجائية تركب منها كلمات معينة بدلاً من أن تنطق بما تريده
بصراحة وإيجاز.
وليس ذلك فقط بل إن (الوسطاء) اصطلحوا على وضع (قاموس)
للأصوات والحركات التي يدعون أنها تصدر من الأرواح، فاصطلحوا على تفسير
صوت النقرة الواحدة على الباب أو النافذة أو المائدة بمعنى نعم، والنقرتين بمعنى
(لا) والثلاث النقرات بمعنى آخر، وهلمَّ جرًّا.
انتشار مذهب السبرتزم
والأحوال التي ساعدت على نشره
وما كاد مذهب السبرتزم يظهر وينتشر في أميركا حتى وصل إلى أوربا أيضا
فأخذ (الوسطاء) الأميركيون يقصدون إلى إنجلترا لنشر مذهبهم ولإقامة حفلات
استحضار الأرواح، وساعد على إذاعة شهرتهم ونشر تعاليمهم ما في الناس كافة
من الميل إلى غوامض الطبيعة وإلى معرفة كل ما وراء العالم المنظور، كما أن
المحزونين والمصابين بفقد أحبابهم يحنون أبدًا إلى مخاطبة أرواح أولئك الأحباب
والاطمئنان عليهم في عالمهم غير المنظور.
ثم إن العقائد الدينية كلها تؤيد وجود الأرواح وتقول: إنها تخلد في عالم غير
عالم المادة، وقد ساعدت تلك العقائد على نشر مذهب (السبرتزم) وعليه فليس
عجيبًا أن ترى اليوم هذا المذهب منتشرًا في أنحاء كثيرة، وله أنصار كثيرون حتى
من أقطاب العلماء مع أن العلم لم يستطع إثبات هذا المذهب بوجه قاطع حتى الآن،
ولا نزال نذكر أن إحدى الصحف الإنجليزية عرضت في السنة الماضية جائزة
مالية كبيرة لمن يستطيع إثبات (السبرتزم) إثباتًا علميًّا لا شك فيه.
وعهدت إلى لجنة من كبار علماء إنجلترا في فحص دعوى كل (وسيط)
يتقدم لنيل تلك الجائزة وبعد مباحث شاقة قام بها العلماء وبعد فحص جميع
(الوسطاء) الذين تقدموا إليهم حكموا بأن مذهب (السبرتزم) لا يزال بعيدًا عن كل
ما يثبته إثباتًا علميًّا قاطعًا، وذلك مع اعترافهم بعجزهم عن تعليل بعض الأمور
والمشاهد التي تتم على يد (الوسطاء) والتي يصعب وصفها بأنها من قبيل الخداع،
نعم إن هذه الوصف ينطبق على أعمال بعض (الوسطاء) ولكن من الظلم تعميمه
على جميعهم.
الأرواح والبيوت المسكونة
رأي السير أوليفر لودج في تلك البيوت
ولا يخفى أن بين الأرواح والبيوت المسكونة علاقة شديدة، وعامة الناس
يؤمنون بوجود الأرواح، وترى معظمهم ينفرون من سكنى تلك البيوت نفورًا شديدًا
سببه الخوف من الأعمال المزعجة التي تعملها الأرواح في تلك البيوت.
ومن الغريب أن فريقًا من العلماء، وعلى رأسهم السير أوليفر لودج من كبار
فلاسفة الإنجليز يصدقون وجود البيوت المسكونة، ويعللون ذلك تعليلاً قائمًا في
الظاهر على مبدأ علمي إلا أنه نظري ينقصه التطبيق العملي، وخلاصة هذا
التعليل هو أن الأرواح وهي غير مادية قد تتغلغل في المادة وتقيم بها مع الاحتفاظ
بحريتها في الانفصال عنها متى شاءت، فإذا فرضنا أن إنسانًا مقيمًا بمنزل معين
قتل غيلة فقد تتغلغل روحه (على ما يقول السير أوليفرلودج) في المواد المصنوع
منها المنزل في الحجر والخشب والحديد إلخ ثم تنفصل عنها في حالات معينة.
وقد شرحنا هذه النظرية في صفحة علمية ماضية فلا حاجة للعودة إليها الآن،
وإنما نقول: إن إثبات هذه النظرية من وجه علمي ليس من الهنات الهينات.
لماذا ينكر الماديون
نظرية استحضار الأرواح ومخاطبتها
على أن جميع الجهود التي بذلها أنصار مذهب (السبرتزم) لإقناع العلماء
بصحة مذهبهم قد ذهبت أدراج الرياح وذلك للأسباب الآتية:
(١) أن العلم لم يثبت وجود الروح وجودًا حقيقيًّا حتى الآن ولا خلودها بعد
الموت.
(٢) أن الاختبار أثبت أن كثيرًا من الذين يدعون القدرة على استحضار
الأرواح كانوا كاذبين محتالين.
(٣) أن الحفلات التي يقيمها مستحضرو الأرواح لا تقنع العلماء من وجه
علمي لا سيما أن معظمها متماثل متشابه كتحريك الموائد المستديرة والنقر على
الأبواب نقرًا اصطلحوا على تفسيره بأحرف هجائية معينة.
(٤) عدم معرفة الحكمة في أن الأرواح لا تظهر إلا في الحالات التي
يختارها مستحضروها من وجود الظلام الحالك والوسيط والموائد المستديرة إلخ.
وهناك أسباب أخرى تحول دون تصديق العلماء الماديين لإمكان استحضار
الأرواح، وهم يعتقدون أن مستحضريها هما فريقان لا ثالث لهما، فإما أن يكونوا
مشعوذين مخادعين أو أن يكونوا سليمي النية مخدوعين فيما يعتقدونه من إمكان
حضور الأرواح أو استحضارها، والفريق الأخير هم (الوسطاء) الذين يسهل
إيقاعهم في غيبوبة مغنطيسية والإيحاء إليهم - وهم على تلك الحال - بأن يجيبوا عن
بعض المسائل التي تجول بأفكار الحاضرين، ومستحضرو الأرواح لا ينكرون أن
وسطاءهم يسقطون أحيانًا في غيبوبة استهوائية أي في سبات مغناطيسي، ويدعون
بأن ذلك لازم لحضور الأرواح.
وقد اعتاد سواد الناس أن يتصوروا الروح شبحًا غريبًا يبدو هنيهة ثم يتوارى
عن الأبصار، وعلى هذه الفكرة بنى الشعراء والخياليون القصص الخاصة
بالأرواح (راجع رواية شكسبير التي ورد فيها ذكر الأرواح) فاستحضار الروح
إلى الذهن بصورة تختلف عن تلك الصورة ليس مما تأنس إليه النفس، نعم إن هذا
الاختلاف ليس دليلاً على بطلان مذهب (السبرتزم) ولكن لا تنس أن (الروح)
التي يمثلها لنا شكسبير وأمثاله هي أقرب إلى العقل من (الروح) التي يستحضرها
أنصار (السبرتزم) بصورة حركات مزعجة ونقرات على الأبواب وعلى الموائد
المتحركة.
ولسنا ننكر أن كثيرًا من المشاهد التي يعرضها أنصار مذهب (السبرتزم)
لاستحضار الأرواح هي في ظاهرها خارقة للطبيعة يصعب تعليلها أو اكتشاف أثر
الخداع أو الشعوذة فيها، ومع ذلك فهي غير كافية لإقناع العلماء بصحة مذهب
(السبرتزم) .
مَثَل من استحضار الأرواح
هل يمكن تعليل أو اكتشاف أثر الشعوذة فيها؟
ومما يجدر بالذكر أن الدكتور تليارد هو من أشهر علماء الإنجليز، وهو
عضو بالجمعية العلمية الملكية التي يعتبر أعضاؤها صفوة العلماء الإنجليز، وقد
نشر هذا العالم مقالته في مجلة (نايتشير) الإنجليزية (انظر العدد الصادر في ١٨
أغسطس الماضي) وصف فيها حادثًا يعتقد أنه يثبت نظرية استحضار الأرواح
إثباتًا قاطعًا، وقد رأينا أن نورد هنا خلاصة مقالته المشار إليها، قال:
حاولت في خلال الست السنوات الماضية أن أدرس الظواهر الخارقة المتعلقة
بمسألة استحضار الأرواح لأرى هل من الممكن إثباتها علميًّا؛ لأن في إثباتها دليلاً
قاطعًا على حقيقة الخلود التي طال عليها الجدل، وكنت في أول الأمر شديد
الارتياب في مسألة الخلود أكاد أنكرها إنكارًا باتًّا، وأعتقد أنها خرافة لا طائل تحتها،
وأن الموت هو نهاية كل شيء، وفي الوقت عينه كنت أعترف بأن في الظواهر
الخارقة المتعلقة (بالسبرتزم) أو استحضار الأرواح ما ليس من قبيل الخداع،
ومع ذلك لا يمكن تعليله تعليلا ينطبق على العالم، وإنما يمكن تعليله إذا سلمنا جدلاً
بدعوى الخلود، وبعد بحث واستقراء عظيمين سمعت بوجود السيدة كراندون
الأميركية وعلمت بأنها أشهر (وسيطات) هذه العصر وأصدقهن في استحضار
الأرواح، وقد قابلتها وشهدت بعض أعمالها فلم يبق عندي شك في حقيقة (السبرتزم)
لأن التجارب التي أجرتها مسز كراندون أمامي وأمام أحد أصدقائي تثبت وجود
الأرواح وإمكان الاتصال بها بطريقة علمية.
وقبل الإتيان على تفاصيل تلك التجارب لا بد من ذكر الأمور الآتية وهي:
(١) اتخذت جميع الاحتياطات الممكنة لمنع الغش.
(٢) أن التجارب التي قامت بها مسز كراندون أمامي وأمام صديقي كانت
مقنعة تمام الإقناع، وفي الإمكان إعادتها مثنى وثلاث ورباع؛ ليتأكد كل من
يخالجه أدنى شك أنه ليس ثمة أقل خداع، وهذا يبطل حجة الذي يتهمون الوسطاء
بأنهم يرفضون عادة تكرار التجارب التي يقومون بها.
(٣) أن التجارب التي قامت بها مسز كراندون، والتي تقوم بها أمام جميع
الناس ليست مما في طوق البشر، وكل ما فيها دليل على صحة ما يدعيه أنصار
مذهب (السبرتزم) .
وإليك نبذة مختصرة عن (الوسيطة) مسز كراندون، وكيف وصلت إلى ما
وصلت إليه من (الوساطة) في استحضار الأرواح.
من هي مسز كراندون؟
وكيف أصبحت (وسيطة) لاستحضار الأرواح؟
أما مسز كراندون فهي زوجة طبيب جراح مشهور من أهالي بوستن بأميركا
واسمها الأصلي مرجريت ستنسون وهي من أهالي كندا، وكان لها أخ يدعى
(والتر) قتل في سنة ١٩١٢ في اصطدام إحدى السكك الحديدية وكانت مرجريت
تحبه حبًّا يقرب من العبادة، وهو يقابل حبها بالمثل، وفي سنة ١٩٢٣ بدأت
مرجريت تسمع في الليل من وقت إلى آخر أصواتًا غريبة هي أشبه بالنقر على
الموائد وغيرها كما أنها كانت تشعر شعورًا غريبًا لا تستطيع وصفه، ثم أخذت تقع
بعد ذلك في غيبوبة وتسمع صوت أخيها والتر، ثم صار غيرها أيضًا يسمع ذلك
الصوت وعرفه جميعهم، وظل الصوت يزداد وضوحًا وجلاءً، وقد سمعت بأذني
في جلستين متواليتين في أواخر إبريل سنة ١٩٢٦ فإذا هو صوت أجش يلقي
الرهبة في نفوس السامعين ويسترعي كل انتباههم كأنه متسلط عليهم.
ولما ذهبت إلى بوستن في هذه السنة بعد غياب عامين أتيح لي أن أحضر
أربع جلسات جديدة استحضرت فيها مسز كراندون روح أخيها والتر، وأظهرت
في ذلك مقدرة مدهشة، وقد أردت أن أمنع كل غش وخداع فالتمست من مسز
كراندون وزوجها أن يأذن لي في مراقبة التجربة بنفسي وأخذ جميع الاحتياطات
التي أعتقد أنها لازمة لمنع الغش، وقد كان لي ما أردت، وفي الحقيقة أن
الجلستين الأوليين من الأربع الجلسات المذكورة كانتا كافيتين لإقناع أعظم المنكرين
بأن روح والتر هي التي تجلت لمرجريت وكانت تخاطبها، ومع ذلك فإن الجلستين
الأخيرتين كانتا أدعى إلى الدهشة والاستغراب من سابقتيهما وكان بودي أن آتي
على تفاصيل الجلسات الأربع كلها، ولكن بما أن الجلستين الأخيرتين هما بدء
سلسلة من التجارب التي قد عزمت على إجرائها، ولم أفرغ منها حتى الآن فإني
أرى الأفضل أن أقصر الكلام على الجلستين الأوليين.
برهانان على خلود الروح
أحدهما نفسي والآخر حسي
وقد حاولت في هاتين الجلستين أن أتحقق وجود الروح بطريقتين إحداهما
عقلية نفسية، والأخرى مادية حسية، وإليك ما تم في هذا الشأن:
الجلسة الأولى عقدت في منزل الدكتور كراندون ببوستن في ٣١ مايو سنة
١٩٢٨ من الساعة التاسعة إلى الساعة العاشرة مساء.
ذهبت أنا والأستاذ إيفانس الأخصائي بعلم الحشرات من جامعة كمبردج
لحضور هذه الجلسة، ولم يكن صديقي إيفانس قد حضر جلسة كهذه من قبل ولا
كان يصدق دعوى (السبرتزم) التي كان يسميها خرافة، فلما وصلنا إلى بيت
الدكتور كراندون شرعنا في الاستعداد لتلك الجلسة على الوجه الآتي:
اقتطعت أنا وصديقي إيفانس عدة أوراق من تقويم (نتيجة) معلق على
الحائط وخبأناها بعد أن أبدلنا ترتيبها بحيث لم يكن أحد منا يعرف ذلك الترتيب،
ثم كتب صديقي إيفانس أرقامًا وملاحظات على قطع أوراق وضعها في جيبه،
وكان معه أيضًا عدد من مجلة قد صدرت في ذلك اليوم، وفي أثناء الجلسة بينما
كانت جميع الأنوار مطفأة والظلمة حالكة تجلت روح والتر حسب العادة وأخذت
تقرأ الأرقام والملاحظات التي كتبها إيفانس مع ذكر ترتيب أوراق التقويم (وكنا
نحن أنفسنا نجهل ذلك الترتيب) ولما حدثت وشوشة في الغرفة سمعنا الروح تدعو
إلى السكون التام، ورأينا شررًا أحمر ينبعث في الهواء ثم سمعنا صوتًا يقول: إن
إيفانس تعرف بخطيبته في إحدى البواخر، وكان هذا الأمر مدهشًا إذ لم يكن أحد
يعرف بخطبة إيفانس -ولا أنا- ولكن ظهر أنها كانت صحيحة، وفضلاً عن ذلك
علمت الروح بالمجلة التي كانت مع إيفانس، وبأنه طالع فيها صفحة كذا وكذا.
وذكرت الروح أشياء أخرى غريبة لا يتسع المجال لشرحها وقد اقتنع صديقي
إيفانس بصحتها، ولكن لا يتطرق إلى ذهنه شيء من الريب في أني أنا والدكتور
متفقان مع (الوسيطة) مرجريت على طرق الغش طلبنا إعادة التجربة، وأنا
والدكتور كراندون غائبان من الغرفة، فكانت النتيجة مدهشة أيضًا.
البرهان الحسي
استخراج بصمة الأصابع
أما الجلسة الثانية فقد عقدناها في منزل الدكتور رتشاردس بمدينة بوش أيضًا
وذلك في أول يونية سنة ١٩٢٨ من الساعة التاسعة والنصف مساء.
اتخذنا جميع الاحتياطات التي تخطر بالبال لمنع الغش، وطلبنا من الدكتور
كراندون، وجميع الذين اعتادوا حضور الجلسات أن لا يحضروا جلسة تلك الليلة
بل يتركونا وشأننا فأجابوا مُلْتَمَسَنَا، وحضر معنا في هذه المرة الكابتن فايف الخبير
ببصمة الأصابع، وكنت أنا وهو قد أحضرنا معنا علبة من الشمع الذي يستعمل
لبصمة الأصابع والمشهور في أمريكا باسم (شمع كر) وفي العلبة عدة قطع مكعبة.
أما سبب إحضارنا العلبة فهو أننا أردنا أن نأخذ بصمة أصابع (الروح)
لنرى هل تطابق بصمة أصابع والتر التي كانت لا تزال ظاهرة على آخر شفرة
حلاقة استعملها والتر في اليوم الذي قتل فيه، ومما يجدر بالذكر أن أم والتر قد
حفظت -على سبيل التذكار- جميع الآثار الخاصة بابنها لا تفرط بشيء مما كان له
أو كان يستعمله.
وكان الاتفاق أن تطبع لنا روح والتر بصمة أصابعها على قطع شمع (كر)
التي أحضرناها لذلك الغرض لنقابلها ببصمة أصابع والتر الكائنة على الشفرة التي
أشرنا إليها، ولكي نمنع وقوع الغش وخوفًا من أن تكون بصمة الأصابع قد أعدت
من قبل على قطع شمع (كر) من عندهم اتفقت أنا وصديقي إيفانس على أن نضع
علامة سرية على كل قطعة شمع في العلبة التي معنا، وزيادة في الاحتياط كسرنا
قطعة صغيرة من كل من تلك القطع وخبأناها عندنا حتى متى أعيدت إلينا القطع
مبصومة بطابع أصبع الروح نتحقق أنها من القطع التي كانت معنا بعينها وفي
وسعنا أن نكملها بإعادة ما كسرناه منها.
وبعد أخذ هذه الاحتياطات وغيرها بدأت الجلسة فشعرنا في وسط الظلام
الدامس بحركة غريبة وسمعنا حفيف الروح بكل وضوح، ثم علمنا أن كل شيء قد
تم، وأن البصمة قد طبعت على قطع الشمع.
وهكذا كان، فلما انتهت الجلسة وتوارت الروح؛ إذ قطع الشمع التي كنا قد
أحضرناها قد طبعت جميعها بطابع أصبع والتر، ولما ضاهى صديقي الكبتن فايف
تلك البصمة ببصمة إصبع والتر على الشفرة التي سبقت الإشارة إليها ثبت له أن
البصمتين هما واحدة، فلم يبق عندنا شك في أن الروح كانت روح والتر.
هذه خلاصة مختصرة لما نشره الدكتور تليادر في مجلة (نايتشر) عن
جلستين من جلسات السبرتزم التي حضرها ومع كل احترامنا لشهرة هذا العالم
الفاضل وغزارة علمه لا يسعنا إلا القول بأن التجارب التي حضرها لم تكن تخلو
من الخداع ولا سيما تجربة بصمة الأصابع؛ إذ ما أدرانا أن البصمة التي كانت
على شفرة الحلاقة والتي هي محفوظة عند أم والتر هي بصمة أصبعه الحقيقية؟
أما كيفية طبعها على قطع الشمع فقد لا تخلو من شعوذة.
أما الجلسات الأولى فالأرجح أن ما تم فيها كان بمساعدة الاستهواء (التنويم
المغناطيسي) والتليباثي (نقل الأفكار) ولا نعتقد أن له علاقة باستحضار الأرواح.